يتعرض التيار السلفي في الآونة الأخيرة إلى عمليات تضييق ومحاولات خنق بشكل ربما غير مسبوق. ففي بعض الدول الإسلامية تم إغلاق الكثير من المؤسسات التربوية والدعوية التابعة لهذا التيار، وفي بعض الحالات صدرت أحكام بالسجن في حق القيادات والرموز. قد لا نستغرب مثل هذه الأمور إذا حصلت في بلداننا العربية والإسلامية التي ليس لها باع طويل في احترام حرية الرأي وقبول المخالف! لكن أن يحصل مثل هذا في البلدان الغربية التي تنص دساتيرها على احترام حرية الرأي والمعتقد وتشبعت شعوبها بذلك، فإن الأمر ولا شك يحتاج إلى وقفات! في هولندا -قبل أسابيع خلت وفي إطار محاربة التطرف والإرهاب- قدم النائب البرلماني عن حزب العمل أحمد مركوش (ذو الأصول المغربية) مقترحا إلى البرلمان الهولندي يطالب فيه بإمكانية غلق ومنع المؤسسات السلفية في هولندا، استنادا إلى النتائج التي وصل إليها جهاز المخابرات الهولندي، والتي تشير إلى أن السلفية تعرقل اندماج المسلمين في البلاد وتغذي التطرف والإرهاب، إذ أن جل الجهاديين كانوا سلفيين قبل أن يلتحقوا بالتنظيمات الإرهابية!(حسب تقارير المخابرات الهولندية التي بنى عليها مركوش اقتراحه) تفاعل المسلمون وغيرهم مع هذا المقترح وتساءلوا عن مدى مشروعيته وملاءمته مع قيم هولندا ودستورها الذي يضمن حرية الرأي والمعتقد. وفي إطار هذا التفاعل وجد السلفيون أنفسهم مضطريين للتعريف بالسلفية بشكل أكبر وتفنيد التهم التي توجه إليهم، كعرقلة الاندماج وتغذية التطرف والإرهاب. في حوار صحفي نشر مؤخرا على صفحات إحدى الجرائد، وفي محاولة منه لتبديد مخاوف الهولنديين من السلفية قال مسؤول أحد المساجد المحسوبة على التيار السلفي: "إن السلفية هي الإسلام"! هذه الجملة استوقفتني في الحقيقة بل واستفزتني وكانت هي الدافع وراء كتابة هذا المقال. في البداية أقول: إن نسبة شخص ما إلى السلفية أو تصنيف الناس إلى تيارات وجماعات من أعقد وأخطر الأمور في نظري، إذ قبل نسبة أي شخص إلى تيار أو جماعة ما، يجب في البداية تحديد مفهوم ذلك التيار أو تلك الجماعة وتعريفه تعريفا جامعا مانعا بذكر وتحديد كل صفاته التي يتميز بها، ثم النظر إلى هذا الشخص الذي سننسبه إلى هذا التيار ومدى ومستوى التزامه بصفات ومحددات التيار الذي سننسبه إليه! نعم، لا بد من هذا كله، وإلا وقعنا في الظلم وتجاوزنا الحدود. لأن المسألة لا تقف في الغالب عند تصنيف المسلمين إلى فرق وجماعات وتيارات. وإنما يستعمل التصنيف كتبرير لإصدار الأحكام! ثم إن الشخص الواحد قد تجتمع فيه صفات من تيار ما وصفات مخالفة من تيار آخر، ربما يكون نقيض التيار الأول! فبأي مقياس وعلى أي أساس سننسب هذا الشخص لهذا التيار وليس لذاك؟ اللهم إن نسب الشخص نفسه وقال أنا سلفي مثلا، فحينئذ سنتعامل معه على أنه سلفي، ولكن حسب فهمه هو للسلفية لا حسب فهمنا نحن! أقول هذا لأن مسألة تصنيف المسلمين ثم الحكم عليهم بناء على ذلك التصنيف أصبحت الشغل الشاغل للبعض مع الأسف. وقد عانيت من ذلك شخصيا، فقد صنفت من قبل بعض المنتسبين إلى السلفية في هولندا أنني مبتدع وخارج عن نهج السلف الصالح وبأنني أستخدم العقل كيثرا، مستدلين ببعض مقالاتي التي كتبتها حول موضوع: "العقل يقود حتما إلى الإيمان إذا انتفت الموانع"! وصنفت ولا زلت أصنف من قبل بعض العلمانيين أنني "وهابي"! ومن قبل بعض العدليّين أنني بوق من أبواق النظام الذين زرعهم في الغرب لنشر رؤيته ومحاربة معارضيه! في الوقت الذي ظنني البعض ولسنوات أنني من أتباع العدل والإحسان! هذا الذي وصلني، والله أعلم كم من التصنيفات لم تصلني وكم منها في الستقبل سيطالني؟ وكل هذا رجم بالغيب واتهام بدون دليل! في هذا الصدد أذكر قصة مر عليها ثمانية عشر عاما، كنت حينها في بداية العشرينات من عمري، وكنت أمارس الإمامة والخطابة وتدريس العلوم الشرعية في المغرب قبل هجرتي إلى هولندا. تعرفت خلال تلك الفترة على أحد الإخوة الذي كان من أطيب خلق الله. كان الأخ طبيبا وكان سلفيا. أراد أن يدعوني إلى السلفية، لكن بالحكمة وبطريقة غير مباشرة فأهداني كتابا عنوانه:"ما أنا عليه وأصحابي". حاول الكاتب من خلال كتابه هذا أن يشرح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. ثم بدأ يصنف الأمة وعلماءها السابقين والمعاصرين بأسمائهم! إلى أتباع رأي وأتباع هوى، محاولا بكل تعسف إيجاد وتكملة الثنتين وسبعين فرقة من الفرق الضالة، وقد استطاع فعلا أن يوجد لكل جماعة أو حركة إسلامية تصنيفا وتسمية ضمن تلك الفرق التي حكم عليها بالضلال! لكن يبقى السؤال: ما مدى مصداقية وعدالة تلك التصنيفات والأحكام التي أصدرها على الناس والتي وصفهم خلالها بالهلاك والضلال وحكم عليهم بولوج النار؟ وعلى مصنف الكتاب هذا ومن ينحو نحوه أن يستعد لخصومة كل هؤلاء الذين حكم عليهم بالضلال وأخرجهم من "أهل السنة والجماعة" أمام رب العالمين! فليعدّ للسؤال جوابا وللجواب صوابا! وخلاصة الكتاب أن الأمة كلها هالكة ضالة إلا السلفيون! (حسب فهمه هو للسلفية) وتشاء الأقدار أن أهاجر إلى هولندا وأقيم في مدينة لا تبعد كثيرا عن المدينة التي يقيم بها مؤلف هذا الكتاب! وتشاء الأقدار كذلك أن ينشق عن مؤلف الكتاب هذا أحد تلامذته ثم يؤسس كيانا سلفيا خاصا به ويتهم شيخه هذا بالزيغ عن منهج السلف و يتهمه تماما بما اتهم به هو غيره في كتاب! في ظل صعوبة التعريف ومحدداته وخطورة التصنيف كما بينت، يمكن أن نلجأ إلى طريقة أخرى نميز بها السلفية من غيرها بشكل عام. وأعني بذلك تعريف السلفية بضدها، فبضدها تتميز الأشياء كما يقال. فمعنى كون المسلم سلفيا عند معظم المنتسبين إلى السلفية ما يلي: -أن لا يكون مسلما تقليديا يفهم الإسلام ويطبقه حسب ما ورثه المسلمون أبا عن جد -أن لا يكون أشعريا ولا متكلما -أن لا يكون صوفيا -أن لا ينتمي لأي جماعة من الجماعات الإسلامية المعروفة كالتبليغ والإخوان مثلا -أن لا يكون مذهبيا بل عليه أن ينتمي إلى مدرسة الدليل! -أن لا يعارض النظام السياسي الحاكم فكل هؤلاء خارجون عن دائرة السلفية كما يراهم الكثيرون من أتباع التيار. ومن المعلوم أن أغلب علماء الأمة عبر تاريخها الماضي والحاضر ينتمون إلى هذا المجموع الذي ليس سلفيا، كالغزالي والقرطبي والرازي والزمخشري والسيوطي والنووي وابن حجر وغيرهم من مئات بل آلاف العلماء. ومعلوم كذلك أن معظم مراجع الأمة وأشهر مدارسها وجامعاتها عبر تاريخ الإسلام وإلى حد الآن كالقرويين والأزهر والزيتونة وغيرها تنتمي أيضا إلى هذا المجموع الذي لا يعتبر سلفيا حسب هواة التصنيف! وإذا رجعنا إلى هولندا وأحصينا عدد المساجد المحسوبة على التيار السلفي فإنها تمثل نسبة ضئيلة جدا من مجموع المساجد!فحينما يقول القائل إن السلفية هي الإسلام، فمن حقنا أن نسأله عن محل هذا المجموع الذي ليس سلفيا (من منظوره): أليسوا مسلمين؟ إن كان صاحب هذا القول لا يعتبرهم مسلمين فتلك كارثة عظمى، وهذا هو التكفير بعينه! ولا أظنه يعتقد ذلك. وإن كان يعتقدهم مسلمين فإن العدل والمنطق يقتضيان منه أن لا يحتكر فهم الإسلام ولا تطبيقه ولا التحدث باسمه! إن الإسلام أكبر من جميع التيارات والفصائل، والسلفية لا تعدو كونها تيارا من تيارات الأمة يرى أتباعه أنهم على حق، كما يرى غيرهم من أتباع الفصائل والتيارات الأخرى أنفسهم أيضا أنهم على حق! فالفهم السلفي ليس معصوما أبدا، بدليل أن هناك اختلافات بل وصراعات حتى داخل التيار السلفي نفسه، مما أدى إلى بروز سلفيات وليست سلفية واحدة! ثم إن التيار يعرف مراجعات وتغيرات في المواقف والاجتهادات لا تكاد تتوقف، مما يؤكد أن الفهم السلفي فهم بشري يعتريه ما يعتري الفهم البشري ويجوز عليه ما يجوز عليه من خطإ ونقصان! فحينما يقول قائل إن السلفية هي الإسلام فهويظلم السلفية نفسها ويظلم الإسلام ويظلم أيضا كل من يخالف السلفية. لأنك عندما تعتبر السلفية أو غيرها هي الإسلام، ستنظر إلى كل من يخالفك أوربما يعاديك أنه مخالف ومعاد للإسلام! وهذا أمر خطير جدا، لأن الإنسان قد يكون له موقف سلبي من السلفية (كتيار وليس كمرحلة تاريخية) نظرا لاختلاف في الرؤى والأفهام أو ربما لغير ذلك من الأسباب، لكنه يحب الله ورسوله ويمتثل أوامر الإسلام ويجتنب نواهيه. فهل من العدل أن نتهمه بمعاداة الإسلام فقط لأنه يعادي هذا الفهم أو ذاك؟ بناء على ما سبق أقول في الختام: إن دائرة الإسلام تشمل الجميع، ومن اقتنع أن فهمه هو الفهم الصائب للإسلام فليحترم أفهام الآخرين لأنهم يعتقدون أيضا في فهمهم ما يعتقده هو في فهمه! والله تعالى يحاسب الناس على قناعاتهم لا على قناعات غيرهم! ومن حق أي فصيل أن يطرح فكره بل ويدعو إليه في حدود آداب الإسلام الذي أمر بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وفي حدود ما لا يثير الفتنة بين المسلمين مع بعضهم ولا مع غيرهم.