يدرك المتتبع الدارس لما يشهده الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، من صراعات دامية ، بين المسلمين ، واقتتالهم فيما بينهم ، أن الصبغة الدينية تطغى على هذه المعارك ، بل هي الذريعة الأساسية التي يصطف كل تيار وراءها ، في نزعة عدائية متجرذة بين فرق المسلمين ، تاريخياً ، فلا زلنا نرى في إصدارات هذه التنظيمات المقاتلة ، إعادةً لمعارك السلف ، في خطاباتهم التحريضية ، والتبريرية أحياناً ، وتختلف خريطة مصادر التلقي بين هذه التيّارات ، لكنها تتفق في مجملها ، بزعمها ، على القرآن والسنة ، ونجد الخلاف بعد ذلك في تأويل النصوص ، وطريقة إنزالها على الواقع ، ولا شك أن كل طائفة ، تحاول تأسيس خطابها على حجج ، وأصول ، تقنع بها مريديها ، وأتباعها ، والمتعاطفين معها ، وتركز على إظهار مدى تشبثها بالفهم الصحيح للدين ، عند تبنّيها لخطاب معيّن ، كما أن كل طائفة ، تتحدث ، إلا ما ندر ، باسم الأمة ، والدفاع عن بيضة الإسلام .. ولا يمكننا هنا ، الحكم على نوايا أي جماعة ، و مدى غيرتها على وضع المسلمين ، ورغبتها في الدفاع عنهم ، فإن التاريخ ينقل لنا، أن أصل الصراع ، الذي بدأ بقتل عثمان ، رضي الله عنه، وتصدُّعِ صف المسلمين بعد ذلك ، وما تلاه من معارك بين الصحابة ، كان متزعموها يدّعون دائما ، خدمة الإسلام ، والرغبة في صلاح المسلمين ، رغم كل الويلات التي لحقت ذلك ، والتي ندفع ثمنها إلى اليوم . ويعدّ التيار السلفي في عصرنا ، أحد وارثي تلكم المعارك الفكرية ، التي نشأت مع ظهور الفرق ، وأحد كبار متزعمي حركات "الجهاد الإسلامي" ، الميداني ، كما أن خطاب قادة تنظيم القاعدة ، والدولة الإسلامية في العراق والشام " داعش" ، و جبهة النصرة ، وغيرها ، هو بالأساس ، خطاب سلفي ، يعتمد الكتاب والسنة ، بفهم سلف الأمة ، وإن إختلف معارضوهم ، في نفس التيار من نسبتهم إليه . المنهج السلفي ، ونشأته الإصلاحية : يؤصل السلفيون لمنهجهم العقائدي ، والفقهي ، على أنهم ليسوا جماعة ، أو طائفة ، بل هم إمتداد طبيعي لما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، من فهم صحيح للدين ، ويبتعدون عن تشكيل تنظيمات خاصة بهم ، بل يرون ، أن كل من إعتقد بما في القرآن ، والسنة الصحيحة ، بفهم سلف الأمة ، فهو سلفي ، ويقابل مفهوم السلفي ، " المبتدع " عندهم ، الذي يعني المنحرف عن الفهم الصحيح للدين ، وقد أثبت المنهج السلفي ، منذ بروزه ، القَرنَ الماضي ، كونه أحد أهم الحركات الفكرية الإصلاحية المناهضة للتخلف الديني عند المسلمين ، متبنياً بنية فكرية تجديدية ، عمادها القرآن والسنة الصحيحة ، مشكلاً بذلك بداية لقطيعة مع تيار التقليد المذهبي ، الذي طغى على المسلمين طوال قرون ، ومصطدماً مع ثقافة تعظيم قبور الأولياء ، والصالحين ، ومشاهدهم ، التي كرسها تيار صوفي ، إنتشر في معظم بقاع المسلمين ، ولقد وجد المنهج السلفي ، أرضية خصبة للإنتشار بين المسلمين ، خاصة مع ظهور مجلّة المنار للشيخ محمد رشيد رضا ( م 1865 / و1935 ) ، التي لعبت دوراً أساسياً في إنتشار هذا الفكر في العالم الإسلامي ، كما برز التيار السلفي أيضا ، على ساحات الجهاد الإسلامي ، كأحد أهم الجماعات المدافعة عن المسلمين ، وذلك منذ الحرب الأفغانية الأولى ، ضد الإتحاد السوفياتي ، مروراً بحرب البلقان ، والشيشان ، وغيرها ، إلى الحرب العالمية على "الإرهاب" بقيادة أمريكا ، فضلا عن نسبة بعضهم "عز الدين القسام" إليه الذي استشهد ثلاثة أشهر بعد وفاة الشيخ رشيد رضا رحمه الله ! ، وهو أحد أهم رجال حركة المقاومة الإسلامية بفلسطين "حماس" ، والذي ينسب إليه جناحها العسكري . - سلفيات ، بدايات التصدّع : لا يجوز لباحث منصف في تاريخ المسلمين الحديث ، أن يغيّب حلقة المنهج السلفي ، ودور رجاله في الرقيّ بالمسلمين ، خطوات نحو فهم أنضج للإسلام ، بل إن الحركة السلفية ، ساهمت بشكل كبير في نقلة نوعية ، للعقل المسلم المعاصر، فحررته من أسر شيوخ الزوايا ، وخرافاتهم ، وأسست لإستقلالية نوعية للمسلم في فهمه لدينه.. ، لكن تماسك هذا التيار ، ووحدته ، لم يدم طويلا ، خاصة بعد إتساع رقعته الجغرافية على حساب التربية المنهجية ، بحيث لم يستوعب المفاهيم البعيدة عن النسخة السعودية للسلفية ، ومع فقد هذا التيار لكبار رجاله ظهر ما يشبه التنافس على القيادة المركزية ، بحيث أصبح بعض المشايخ يدعي كل فرد منهم أنه الأصوب فهما للسلفية ، وأن غيره مخالفون للمنهج ! ، وهذا حال كل حركة إصلاحية أو تنظيم حين يفقد مؤسسيه ، وشخصياته المركزية ، فمنذ أواخر حياة المحدّث العلامة محمد ناصر الدين الألباني ، رحمه الله ، نهاية القرن العشرين الذي شهد وفاة كبار رجال السلفية في المشرق والمغرب، الذين يرجع إليهم الفضل في نشرها ، برزت على الساحة الإسلامية ، خلافات ، وصراعات ، بين تلامذتهم ، في من يحق له حمل لواء السلفية بعدهم ، ويُرجع أكثر المختصين ، أصل الخلاف إلى الموقف المتباين من التدخل الأمريكي في حرب الخليج الأولى ، وموقف مشايخ خارج العربية السعودية ، وداخلها ، من إستعانة المملكة بالولايات المتحدةالأمريكية ، لمواجهة خطر صدام حسين ، فتطوّرت الخلافات ، لتصبح بعد ذلك مبادئ ، يُمتحن بها سلفية الفرد ، والجماعة ، منها مثلا ، الموقف من الحاكم ، وحكم الخروج عليه ، والموقف من العمل السياسي ، ووصل مستوى الخلاف إلى درجة التبديع والتخوين ، لكنه لم يصل لمستوى التكفير إلا في السنوات الأخيرة ، خاصة مع إنتقال الصراع من الكتب والمختصّين ، إلى النشئ المتعصبين ، عبر الشبكة العنكبوتية ، بالمنتديات ، وغرف الدردشة الجماعية ، ولا أريد هنا ، عد نقط الخلاف بين السلفيين ، فما أكثرها وهذه سنة كونية ، لكن ما يهمنا موقف كل تيار ، من العنف والإرهاب . - "السلفية الجامية" وموقفها من العنف : ظل أتباع السلفية الجامية ،( نسبة للشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله ) ، كما يطلق عليها منتقدوها بعيدين عن العنف المسلح لسنوات عديدة ، منذ بروز دعوة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي ، حفظه الله ، متبنياُ منهج طلب العلم ، ونصرة الدعوة السلفية ، بالكتاب والسنة ، وفهم سلف الأمة ، ومحاججة المخالفين بكلام السلف ، خاصة رجال الجرح والتعديل ، لكن هذا التيار ، ظل متمسكاً بالعنف اللفظي ، بحيث جعل مسائل معينة، كالخروج على الحاكم ، والموقف من بعض الجماعات ، كالإخوان المسلمين ، و بعض الرجال ، كسيد قطب ، وحسن البنّا والمودوي، مثلاً ، علامة على سلفية الفرد ، أو إبتداعه ، فمعنى أن لا تكون سلفياً عند هذا التوجه ، يعني كونك مبتدعاً ، منحرفاً عن منهج السلف ، فلم يسلم عند هذا التيّار ، من علماء السلفية المعاصرين ، سوى النزر اليسير ، وتعد "منتديات سحاب الإلكترونية" أهم منصة إعلامية ، يرتادها أتباع هذا التيار في العالم الإسلامي ، ولا يمكن قياس درجة إنتشار هذا التيار ، لكنه يفرض نفسه بوضوح على الساحة السلفية ، ويدافع بشراسة عن مبادئه ، التي يتميّز بها عن غيره من السلفيات ، ومن أهمها ، طاعة ولاة الأمور، ( الحكام ) خاصة ، حكام المملكة العربية السعودية ، وهو تيار نافذ بالجزيرة العربية ، بل يُرجع كثير من الباحثين ، موقف المملكة العدائي اتجاه جماعة الإخوان المسلمين في مصر، إلى مدى تغلغل هذا التيار لدى دوائر القرار السعودي ، وحتى لا أستطرد أكثر ، فإن هذا التيار رغم حرصه على البعد عن العنف المسلح ، لكنه تورط مؤخراً فيما يعرف بمعارك السلفيين والحوثيين ، في قرية" دماج " بوادٍ جنوب شرق مدينة صعدة بشمال اليمن ، والتي برز فيها الشيخ يحيى بن علي الحجوري ، خلف العلامة المحدث مقبل بن هادي الوداعي ، رحمه الله ، على رأس دار الحديث بصعدة ، وهو أحد أشهر أعلام هذا التيار المعاصرين في العالم ، وإن كان هذا الفصيل يتبنى موقفاً شديد العداوة للسلفية الجهادية ، إلا أنه لم يجد بداً من حمل السلاح ، حين لم يسعفهم ولاة أمور الدولة اليمنية ، وهو ما دفع كثيراً من أتباعه إلى إعادة النظر في هذه القضية . - السلفية التقليدية-العلمية : يعد التيار السلفي التقليدي ، من أوسع التيارات الدينية إنتشاراً في المجتمعات المسلمة ، وأكثرها حظوة لدى الجماهير ، ويكسب هذا التيار ، قوته ، من بساطة أسلوبه ، ووضوح أهدافه ، حيث يركّز على ، تصحيح عقيدة المسلمين ، وبناء ثقافتهم الدينية ، وذلك عبر الكتب والأشرطة قديماً ، و قنوات الدعوة الحافلة بمشايخه ، حديثاً ، وإن كان يعيب المتصوفة على هذا التيّار، بعده عن مناهج التزكية ، وتهذيب النفوس ، إلا أن بروز مشايخ تربويين فيه ، كالشيخ محمد حسين يعقوب ، و صالح المغامسي ، وغيرهم، أسوة بالإمام بن قيم الجوزية ، رحمه الله ، يعطي لهذا التيار فسحة للإنتشار أكثر ، حتى بين المتصوفة أنفسهم ، وإن كانت النزعة العلمية ، الأصولية ، طاغية على طلاب العلم فيه ، مما يجعلهم يتبنون أحيانا ، خطاباً متشدداً ، إتجاه بعض البدع ، كما يسمونها ، لكن من مزايا هذا التيار، قدرته على التجاوب مع الجماعات الإسلامية السنيّة الأخرى ، كالإخوان المسلمين ، و جماعة الدعوة و التبليغ ، وغيرهم ، ويتأرجح موقف السلفية التقليدية من العنف المسلح بين فتاوى مشايخه حيث يتبنى أغلبهم موقفاً محايداً إلا في مواجه خطر الشيعة حيث يرون فيهم عدواً لدوداً لا بد من القضاء عليه ، كما صرح د أحمد النقيب المصري ، أحد رجال هذا التيار بأنهم لو تمكنوا فإنه يجب علينا غزو بلاد الشيعة " إيران " لإعادته للإسلام ، وهو نفس تيار محمد حسان ، وأبي إسحاق الحويني ، والذين تفرّع عنهم " حزب النور السلفي " وذلك بسبب إختلاط مفاهيم عدة ، كالموقف من الإرهاب والعملية السياسية ، وعدم وضوح المقعد عند هؤلاء ، بين السلفية الجامية ، السالفة الذكر ، والسلفية الجهادية بحيث يتحولون إلى أرضية خصبة للإستقطاب من طرف الجماعات الجهادية . - السلفية الجهادية ( الجناح المسلح ) : لا يختلف التيار السلفي الجهادي عن باقي السلفيين في تبنيه لمبدأ الكتاب والسنة ، بفهم سلف الأمة ، لكنه أخذ على عاتقه مبدأ الدفاع عن المسلمين ، بالجهاد ضد الدول المعتدية عليهم ، وهو بذلك يمكن إعتباره الجناح المسلح للسلفيين في العالم ، وقوتهم الضاربة ، وإن كان كثير من السلفيين ضد هذا التيار تماماً . تطور مفهوم الجهاد في العقدين الأخيرين عند الجاهديين ، من المقاومة ضد العدوان في أرض المعركة ، إلى الهجوم على أرض ، " الكفار المعادين " ، إلى إستهداف مصالحهم في بلاد المسلمين ، ثم تطور إلى مواجهة حكومات دول المسلمين ، وتكفير كل من يتعامل معهم ، ويجد هذا التيار دائماً ما يبني عليه مواقفه في كلام مشايخ المسلمين ، من السلف والخلف ، و تعد السلفية الجهادية حسب المختصين أحد أبرز الجماعات تبنّياً للعنف عالمياً ، والداعين إليه، فإليه ينسب تنظيم القاعدة ، وجبهة النصرة ، والدولة الإسلامية بالعراق والشام ، وإن كان قرن هذا اللقب ، بالجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية إبتداءً ، منذ تسعينيات القرن الماضي ، إلا أنه أصبح شاملاً ، لكل متبني الفكر الجهادي ، بدءً بأسامة بن لادن ، وأيمن الظواهري ، وأحمد الخلايلة "الزرقاوي" ، كذلك المقاتلين الشيشان ، كخطاب ، وشامل باسييف ، وغيرهم ، كما قرن بدعاة سلفيين بارزين ، كأبي محمد المقدسي ، و أبي قتادة الفلسطيني ، و أبي بصير الطرطوسي ، وأبي عمر الحدوشي ، ويعد تبني القاعدة للمقاتليين في الجزائر نقلة خطيرة في هذا التيار ساهمت في فقده لشعبيته بين المسلمين، وزادت حدة الخطورة مع ظهور دولة العراق الإسلامية إثر مقتل الزرقاوي ، حيث برز ضعف هذا التيار من الناحية الفكرية ، وتورطهم في دماء إخوانهم الجهاديين وذلك بإلتجائهم للعنف كمبدأ أساسي مبتعدين عن الحوار ، والحلول الدبلوماسية ، وإن كنا رأينا مؤخراً الإنشقاقات التي تطورت إلى معارك دامية بين " داعش " و " القاعدة " و"النصرة " و"كتائب أحرار الشام" وغيرهم من الفصائل المقاتلة في سوريا ، فإن ذلك سبقه إشارات بعد بعد خلافات بين منظري هذا الفكر داخل بلاد المسلمين وخارجها وصلت إلى حدود التكفير والتخوين ، ويمكن أن نجد ذلك جلياً عند قراءتنا لما يصدر عن الدكتور هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية ، الذي يعد من أشرس المدافعين عن توجهات القاعدة وقادة الجهاد العالمي . ومن أهم رجال المنهج السلفي ككل المتفق عليهم في القديم والحديث والذي يعد أحد أهم مراجعهم هو شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله ، ولا يمكن لسلفي منذ ظهور دعوته أن لا يعتمد كتبه وإجتهاداته التي فرضت نفسها ليس على هذا التيار فحسب بل على جميع المنتسبين لأهل السنة والجماعة ، ولابن تيمية باع كبير في التنظير للعنف ، وإن كان ذلك بسبب تأثره بالجو الفقهي العام عند المسلمين ، لكن كما قال ربنا : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، فأن تكون ضد المنهج السلفي أو أي فكر لا يعني أن تحمّله مسؤولية جرائم متبنيها ، ولو حملناه ذلك لكان الأنبياء هم المسؤولون الأساسيون عن الجرائم المرتكبة باسمهم ، ولحمّلنا مسؤولية الحملات الصليبية للمسيح ومسؤولية حروب الفاتحين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولحملنا كل جريمة ارتكبت باسم الدين لذلك الدين أو ذلك الفكر ، وسنشير في المقال القادم ، إن شاء الله ، لتراجع ابن تيمية عن كثير من فتاواه ، المحرضة على العنف ، كما أكدت ذلك دراسة معاصرة هامة لكتب بن تيمية ،أعدّها الشيخ ياسر المطرفي ، حفظه الله بعنوان : ( حركة التصحيح الفقهي ) .
الكاتب : المرتضى إعمراشا ، إمام وخطيب مسجد سابقا ، الحسيمة ، المملكة المغربية .