مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة : السلفية في المغرب من الجهاد الأفغاني الى الربيع العربي
نشر في اليوم 24 يوم 18 - 11 - 2013

وظّفت عدد من الدول التي حكمت المغرب السلفية في سياق تعاطيها مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية والدينية السائدة؛ حيث جعل عدد من الأمراء والقادة منها محركًا قويًا يحث همم المغاربة على مواجهة الخصوم أو مقاومة الاستعمار.
ويُعزى التشابك اللصيق الحاصل بين الفكر السلفي وتاريخ المغرب إلى ارتباط السلفية، زمانًا ومكانًا، وحضورها بمقولات وأشخاص في قلب موجات التحرر والانعتاق من ربقة الاحتلال الذي جثم على صدور المغاربة فترة من الدهر؛ ما جعل السلفية المغربية تتقوى بما لعبته من أدوار تاريخية، دون أن تحظى رغم ذلك بحماية الدولة في مناسبات ظهر فيها سلفيون في مواجهة الخط الرسمي للسلطة.
انطلقت السلفية في المغرب، دون أية تصنيفات أو تقسيمات، خلال حكم دولة المرابطين، غير أنها برزت أكثر في عصر الدولة العلوية التي تحكم البلاد منذ مئات السنين ولا تزال. ثم إن عوامل التاريخ وسياقات الجهاد ضد المحتل للحصول على الاستقلال، وحَّدت السلفية المغربية كفكر ديني وعقدي استمد أصوله الرئيسة من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر وما بعده. بيْدَ أن عوامل السياسة والتحولات الاجتماعية أفضت، بعد معركة نيل الاستقلال، إلى تمزق الوحدة السلفية، وتشرذمها إلى حركات ورموز أكثر منها إلى تيارات بالمعنى النموذجي للكلمة.
النشأة والتاريخ
تعود النشأة الأولى لحركة السلفية بالمغرب، بحسب عدد من المؤرخين (1)، إلى عصر الدولة المرابطية خلال الفترة الزمنية الممتدة بين نهاية القرن الحادي عشر إلى منتصف القرن الثاني عشر. وقد عُرف المرابطون بأنهم كانوا على العقيدة السلفية والمذهب المالكي في محاربتهم للتصوف والبدع التي كانوا يعتبرونها منكرة(2)؛ ومن ذلك إحراقهم لكتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي بأمر من القائد يوسف بن تاشفين(3)، على اعتبار أن الكتاب يروج للشافعية مذهبًا والصوفية معتقدًا، فيما تقول روايات تاريخية أخرى بأن إحراق هذا الكتاب وقع بعد ثلاث سنوات من وفاة ابن تاشفين. لم تكن الحركة السلفية في دولة المرابطين سلفية بالمعنى المتداول حاليًا، بل عقيدة راسخة بضرورة اتباع السلف الصالح والاقتداء بالقرون الثلاثة المفضلة التي يسميها العلماء "قرون السلف"، وكان رأسهم في هذا الاعتقاد السلفي أميرهم ابن تاشفين، الذي وصفه لسان الدين بن الخطيب في كتاب "الحلل الموشية" بأنه "رجل فاضل، حاذق، زاهد، عزيز النفس، ينيب إلى الخير والصلاح، كثير الخوف من الله عز وجل، وكان يفضّل الفقهاء، ويعظّم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم".
انتقلت دائرة الحكم بعد سقوط المرابطين إلى الدولة الموحدية(4)، التي شهد المغرب إبان حكمها تقهقر الممارسات السلفية، وقيام أفكار وعقائد مناقضة لها، بهدف ترسيخ مذهبية جديدة لهذه الدولة في أذهان الناس، تختلف عما كان سائدًا زمن المرابطين، ولسحب المشروعية الدينية من الدولة السابقة من خلال ترويج العقيدة الأشعرية. وبمجيء الدولة العلوية، عاد التوجه السلفي إلى "ألَقه" الماضي في عهد ابن تاشفين؛ حيث عمل السلطان محمد بن عبد الله وابنه السلطان المولى سليمان على نصرة المذهب السلفي في البلاد(5). كان محمد بن عبد الله، الذي امتدت فترة حكمه من 1171ه/1757 إلى 1204ه/1789، يحض الناس على مذهب السلف والابتعاد عن البدع المنتشرة، وهو ما انتهجه ابنه المولى سليمان، الذي كان يحرص على تدبيج الخطب لخطباء المساجد، يحذر فيها من اتباع أهل البدع والاجتماع في مواسم الغناء والرقص، ويوصي فيها باقتفاء أثر عقيدة السلف الصالح.
سلفية-وطنية تكافح الاستعمار
كان المجتمع المغربي، خلال النصف الأول من القرن العشرين خاصة، يعاني من الأمية والجهل، بسبب قلة المدارس والمعاهد التعليمية وضعف البنية التحتية الاقتصادية، فضلاً عن سيطرة مناخ من البدع والخرافة، ساهم فيه الاستعمار الفرنسي. ظهرت بالمغرب، خلال فترة إعلان فرنسا الحماية على البلاد في 1912(6)، سلفية يمكن نعتها بالوطنية، كونها ترعرعت في بيئة وظروف سياسية واجتماعية أمْلت عليها تبني القضية الوطنية. وبمكن القول: إن سلفية مطلع القرن العشرين اشتغلت في اتجاهين رئيسين: تجلى الأول في محاربة الجهل والخرافات المرتبطة بالطرق الصوفية(7)؛ أما الثاني فتمثل في مقاومة الاستعمارين: الفرنسي والإسباني بالدعوة إلى مكافحة الاستلاب الثقافي والحضاري الذي كرّسه الاحتلال.
انشغلت السلفية الوطنية، أو الإصلاحية كما يسميها البعض، بقضايا تهمّ التعليم والتربية وصيانة الهوية الثقافية من مخاطر التغريب الناجم عن هيمنة الحضارة الغالبة، أي الاستعمار الفرنسي وسط وشرق وغرب البلاد والإسباني في الشمال والجنوب، والدفاع عن عقيدة الإسلام وتنقيتها من الشوائب التي لحقت بها من قبل من يوصفون بالمبتدعة والصوفيين. وبرزت رموز وشخصيات كانت رائدة في الدعوة السلفية الوطنية والإصلاحية، ارتبطت فكريًا بالحركة الوطنية التي قاومت الاستعمار الفرنسي، منهم الزعيم علال الفاسي(8)، ومحمد المختار السوسي(9)، وأبوشعيب الدكالي(10)، ومحمد بلعربي العلوي(11).
بموازاة القادة العسكريين في الميدان، الذين كانوا يناضلون من أجل أن تنال البلاد استقلالها، لم يكن بُدٌّ أمام القادة الفكريين والمصلحين السلفيين سوى بث الحماسة بالكلمة والخطابة في صفوف المغاربة، من خلال تصوير الاستعمار باعتباره الخطر الداهم الذي يمس كرامتهم وينال من سمعتهم، ويهدد هويتهم ويمزق وحدتهم. لهذا مثّلت الدعوة إلى السلفية وحدة مرجعية، تجمع أكثر مما تفرق، في سياق تاريخي اتسم بسيطرة استعمارية على مفاصل الحياة في بلد يفتقد المقدرات التعليمية والصناعية.
سلفية علمية تحارب القبور
بعد نجاح السلفية "الوطنية" في إذكاء الحماسة وسط المغاربة من أجل صون "الأرض والعرض" إزاء المُستعمِر الفرنسي، وبعد نيل البلاد استقلالها من السيطرة الأجنبية عام 1956، بدأ يظهر ما اصطُلح عليه "السلفية العلمية" على يد من يعتبره الكثيرون رائدَ أو أبا السلفية بالمغرب، الشيخ محمد تقي الدين الهلالي(12). كما أن هناك من ينسب إليه إدخال السلفية المتأثرة بالمرجعية المشرقية إلى البلاد. تتلمذ رائد السلفية العلمية بالمغرب على يد مشايخ في مصر والجزائر والعراق والمملكة العربية السعودية؛ حيث لقي في السعودية محمد رشيد رضا، الذي كتب يوصي الملك عبد العزيز آل سعود به، قائلاً: "إن تقي الدين الهلالي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق". حمل الهلالي زاده السلفي الذي ادخره من مشايخ وعلماء المدرسة السلفية "الوهابية"، ليعود بها ويحاول استنباتها في التربة المغربية بداية من أواخر ستينيات القرن الماضي.
سُميت السلفية في وقت الهلالي "علمية" لكونها انضبطت بالمراجع السلفية بمصر والسعودية، كما أن سلفيي هذا التيار ركزوا على النهل من العلوم الفقهية والعقدية خصوصًا، ونأوا بأنفسهم عن الخوض في المعارك السياسية أو الانخراط في مختلف الجمعيات والأحزاب، معتبرين ذلك من البدع التي لا يجوز للمسلم أن ينشغل بها عن الكد في طلب العلوم الشرعية خاصة علم التوحيد صافيًا من كل الشوائب. وارتكزت الدعوة السلفية "العلمية"، التي أسسها الشيخ الهلالي، على مبادئ أساسية تتمثل في محاربة شرك القبور وشيوع الخرافات والممارسات "الجاهلية"، وما اعتبروه مظاهر العبودية لغير الله، والتمسك بحرفية النصوص الدينية من قرآن وسُنة، والاقتداء بسنن السلف الصالح في أقوالهم وأفعالهم والابتعاد عما ابتعدوا عنه.
سلفية جهادية: تحرير أرض الإسلام
بعد سنوات من استقلال المغرب، وتحديدًا خلال عقد الثمانينيات، الذي شهد الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي، دخلت السلفية المغربية منعطفات جديدة وفُتح الباب لعدد من السلفيين حينها للجهاد في الأراضي الأفغانية، تحت لواء ما سُمي ب"الأفغان العرب"(13)، مدفوعين بأفكار وعقائد سلفية باتت تتشكّل شيئًا فشيئًا، وتدعو أساسًا إلى طرد الأجانب المعتدين من أراضي الإسلام، والذود عن راية الإيمان بالجهاد بالنفس والسلاح والمال. هذه السلفية، التي نُعِتت ب"الجهادية"، كانت رأسها ترنو دومًا إلى بؤر الصراع في بلاد المسلمين، تقوَّت أكثر وتزايد أتباعها المتحمسون للدفاع عن بلاد المسلمين بعد حرب الخليج الأولى على العراق سنة 1991. أفضت توجهات السلفيين الجهاديين إلى تمايز واضح في الصف السلفي بالمغرب، خاصة في الموقف من مسألة استعانة الحُكام المسلمين بالقوات الأجنبية لقتال المسلمين؛ وفي هذه الحالة، خصوصًا، الاستعانة بالأميركيين لشن حرب على العراق. وقد برز تيار يرى حرمة هذا الفعل، تجسد في السلفية التي وُصفت إعلاميًا بالجهادية، بينما ظل تيار آخر وفيًا لمبدأ عدم الخروج على الحاكم ووجوب طاعته في أوامره وقراراته، وهو التيار الذي بات يُوصف بالسلفية التقليدية.
أعلن سلفيو التيار "الجهادي" رفضهم الواضح لإرسال قوات عسكرية مغربية لدعم القوات الأميركية في حرب الخليج الأولى، ووقّع بعضهم على بيان يتضمن "فتوى" تنص على تحريم مد يد العون بأي وجه كان، للقوات الغازية للعراق؛ فيما التزم سلفيون آخرون من المنتسبين للتيار التقليدي موقف نظرائهم في السعودية ممن أجازوا الاستعانة بالأجنبي في الحرب ضد المسلم "الظالم". كرست تداعيات هذه الحرب بشكل جلي الفروقات الأيديولوجية بين تيار سُمي بالجهادي وآخر سُمي بالتقليدي، لكن ما زاد من حدة الاختلاف بين الاتجاهين، كان أحداث 11 شتنبر 2001 التي اعتبرها فريق من السلفيين الجهاديين آنذاك نصرًا مؤزرًا للمسلمين وعقوبة إلهية لأميركا "الصليبية". ووصف بعضهم أسامة بن لادن بأنه "صحابي من القرن العشرين"؛ بينما ذهب الفريق الثاني (السلفية التقليدية) إلى أن ما حدث في عقر دار أميركا اعتداء شنيع على الأنفس لا مسوغات شرعية له.
أحداث مفصلية
شهد المغرب، بعد أحداث شتنبر 2001 بأقل من سنتين، وتحديدًا في 16 ماي 2003، حدثًا مفصليًا(14)، كانت له تداعيات هائلة على الجسم السلفي بالبلاد، خاصة على من ارتبطت أسماؤهم ومواقفهم بما يسمى بالسلفية الجهادية، رغم أنه لقب يرفضه هؤلاء، ويعتبرونه مصطلحًا "ابن سِفاح" لا غير اخترعته وسائل الإعلام وأجهزة الأمن للإمعان في "الإساءة" إليهم. فالتفجيرات التي عرفتها الدار البيضاء في 2003 استنكرها معظم السلفيين بالمغرب؛ لكن إلقاء السلطات الأمنية القبض على عدد من الشباب المتهم بارتكاب هذه التفجيرات، التي استهدفت مطعمًا وفندقًا، جعلت أصابع الاتهام تُوجه إلى التيار السلفي "الجهادي"، وخاصة بعض رموزه ومشايخه، مثل حسن الكتاني وأبوحفص وعمر الحدوشي ومحمد الفزازي والشاذلي(15)؛ بتهمة التأطير المعنوي لأعمال "الإرهاب" من خلال الدروس والمواعظ التي كانوا يلقونها. كما اعتُقل مئات الشباب السلفيين لكونهم من أتباع رموز هذا التيار.
شنّت السلطات الأمنية حربًا شرسة على سلفيي التيار الجهادي، الذين امتلأت بهم السجون والمعتقلات، وصدرت ضدهم أحكام اعتبرها الكثيرون قاسية، كان أقلها عشر سنوات، وأكثرها المؤبد أو الإعدام. ونال مشايخ السلفية الجهادية حصتهم من مدد سجن طويلة، تراوحت بين العشرين والثلاثين عامًا. وفي خضم إدخال المئات من سلفيي هذا التيار إلى غياهب السجون شهدت المنطقة العربية أحداثًا سياسية هائلة غيرت ملامح عدد من البلدان، تمثلت فيما اصطُلح عليه ب"الربيع" العربي، الذي أطاح بأنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن، كما اضطر المغرب إلى إجراء إصلاحات سياسية استجابة لضغط الشارع ومطالب حركة 20 فبراير(16)، التي دعت إلى محاربة الفساد والقطع مع الاستبداد، وطالبت بنظام ملكي برلماني يسود فيه الملك ولا يحكم. وكان لعاملَي العيش في السجون ورياح الثورات العربية أكبر الأثر في حدوث تحولات محورية طالت البنية السلفية، سواء تلك التي تُنعت بالجهادية أو تلك التي توصم بالتقليدية؛ فكل منهما غيّر من مواقفه السابقة التي حكمت توجهاتهما الأيديولوجية والعقائدية، وهو ما أحدث رجة كبرى في العقل السلفي المغربي، خلخلت الأحكام الجاهزة السابقة .
البنية الاجتماعية والجغرافية للسلفيين
ظلت السلطات المغربية، خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وبالتحديد في فترة وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، تستخدم الورقة السلفية في مواجهة تيارات سياسية ومذهبية أخرى؛ وخصوصًا في محاصرة إشعاع جماعة العدل والإحسان، التي كانت تستمد توهجها من زعيمها الروحي الراحل عبد السلام ياسين، لاسيما بعد تمرد الأخير على الملك الراحل الحسن الثاني عندما بعث إليه برسالة شهيرة بعنوان "الإسلام أو الطوفان"، يوصيه فيها بالعمل بالشريعة الإسلامية أو أن مصيره ومصير البلاد سيكون الهلاك. امتد سماح السلطات للسلفيين بهوامش من الحرية سنوات كثيرة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، غير أن تلك السياسة بدأت تنقلب ضد قطاع عريض من السلفيين مباشرة بعد إعلان الولايات المتحدة الأميركية الحرب على "الإرهاب" سنة 2001، حيث تجندت السلطات المغربية للتربص بمن باتت تعتبرهم إرهابيين يشكّلون خطرًا على السلم والأمن داخل البلاد وخارجها.
أظهرت اعتقالات السلفيين بُعيْد تفجيرات الدار البيضاء نوعية الطبقة الاجتماعية التي ينتسب إليها الشباب السلفي المؤمن بفكرة الجهاد ضد "الطاغوت"، والحكم بشريعة الله؛ فأغلب السلفيين داخل السجون وخارجها، رغم عدم وجود إحصائيات رسمية تثبت ذلك، ينتمون إلى أسر فقيرة ومن ذوي الدخل المحدود. ويعمل معظم السلفيين، خاصة من الأتباع وطلبة العلم الشرعي الصغار، في مهن بسيطة غير نظامية، لأسباب كثيرة، منها أولاً: اعتقادهم بأن الاشتغال في القطاع الرسمي "مشبوه"، وقد يصل إلى "الحرام" عند بعضهم. وثانيًا: لأن هذه المهن تتيح لهم هامشًا من الحركة والاجتماع فيما بينهم، باعتبارها مهنًا حرة لا تستوجب نظامًا يوميًا مفروضًا، وتساعدهم بالتالي على توفير أوقات كافية للالتقاء وممارسة أنشطتهم العقدية، خاصة أن عددًا من السلفيين ينعزلون في مجموعات تكاد تكون أشبه بالطوائف التي يصعب على من لا ينتمي إليهم أن يقتحمها بسهولة. وينتشر قطاع واسع من السلفيين، بمختلف حركاتهم وتياراتهم، في الأحياء الفقيرة والهامشية للمدن، حيث يجد الاتجاه السلفي ضالته أكثر من أية أرضية اجتماعية أخرى، دون أن يمنع هذا وجود سلفيين من أصحاب الأموال والثروات، بيد أنهم يعدون في حكم الأقلية.
وبالرغم من غياب كامل لإحصائيات أو معطيات ميدانية، تدرس التوزيع الجغرافي للسلفيين بالمغرب، فإن مدنًا بعينها باتت تُعرَف بكونها "معاقل" للسلفية المغربية؛ فمدينة مراكش، مثلاً، اشتُهرت بكونها معقلاً رئيسيًا للسلفية التقليدية، باعتبار أن هذه المدينة هي مقر إقامة المغراوي وأنشطته في دُور القرآن، بينما تُعرف مدينة طنجة، مثلاً، أو تطوان أو سلا، بكونها مدنًا تكثر فيها السلفية ذات التوجه الجهادي.
السجون والمراجعات
مع مرور أولى سنوات السجن بدأت، في أوساط التيار السلفي "الجهادي"، بعض "المراجعات" الفكرية التي باشرها عدد من مشايخهم ورموزهم. وقدم بعضهم مبادرات للسلطات المعنية تعبر عن حسن نيتهم وتدفع ببراءتهم من تهمة العنف التي أُلصقت بهم، حتى قبل أن تندلع الثورات العربية في تونس ومصر وغيرهما. وقد توالت طيلة تلك السنوات، ابتداء من 2006، جلسات وحوارات بين ممثلين عن الدولة وسلفيي السجون من أجل إيجاد حلول لهذا الملف الشائك، خاصة بعد أن اقتنعت الدولة بأن هناك أخطاء كثيرة ارتُكبت في مقاربة هذه القضية. وقد وقع تقسيم السلفيين الجهاديين المعتقلين إلى ثلاثة أصناف: الأول: بريء من تهمة العنف والإرهاب، وعلى رأسهم مشايخ السلفية الجهادية. والثاني: نهل بالفعل من الأفكار المتشددة، فوجبت مقارعته بمقاربة فكرية وأيديولوجية؛ فيما تورط أعضاء القسم الثالث في الدماء، فلزمت محاكمتهم.
وفي 2011، واتت التيار السلفي الذي تخلى عن العنف، فرصة دعمت مركزه، حيث أدى الحراك السياسي والاجتماعي في المغرب إلى دفع السلطات لإجراء إصلاحات سياسية، بدأت بإقرار دستور جديد يمنح صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة على حساب صلاحيات الملك. ثم جاءت انتخابات برلمانية أدت إلى فوز حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية بالأغلبية وقيادته لأول حكومة شملت ائتلافًا مع أحزاب يسارية ويمينية. ساعد فوز الإسلاميين الانتخابي في كل من تونس ومصر والمغرب أيضًا، فضلاً عن مطالبة الشارع عبر حركة 20 فبراير بإطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين والسياسيين، على تقوية حجة السلفيين داخل السجون؛ فوافقت السلطات المختصة على إطلاق سراح عدد منهم رغم عدم إتمام مدد العقوبة، بينما منح العاهل المغربي عفوًا عن مشايخ السلفية: حسن الكتاني وأبي حفص رفيقي ومحمد الفزازي وعمر الحدوشي، وآخرين.
في الصف المقابل، نأى التيار السلفي "التقليدي"، ممثَّلاً في رمزه الأول الشيخ محمد عبد الرحمان المغراوي(17)، بنفسه عن الخوض في معارك السياسة قدر الإمكان، باستثناء خطوة اعتُبرت من طرف المراقبين بأنها "تاريخية"، تمثلت في مشاركة هذا التيار لأول مرة في عملية التصويت على الدستور بالإيجاب؛ حيث لم يكن منتظرًا غير التصويت ب"نعم" من طرف هذا التيار الذي يرى وجوب طاعة ولي الأمر.
السلفيون والربيع العربي
أثنى سلفيو السجون على الثورات العربية، ومنها الحراك الاجتماعي بالمغرب، كونها كانت سببًا حاسمًا في إطلاق سراحهم من السجون والمعتقلات، ولأنها ثورات رفعت الإسلاميين إلى قمة السلطة بعد أن كانوا مضطهدين في بلدانهم، كما في تونس ومصر. ولم يترك سلفيو التيار الجهادي، خاصة رموزهم ومشايخهم الذين جرّبوا السجون، هذه الفرصة تمر دون الإشادة بالثورات العربية التي أزاحت، حسب رأيهم، "ظلمًا وجورًا كبيرين كانا جاثميْن على صدر الشعوب الإسلامية والعربية"، ثم ردوا جميل هذه الثورات بمحاولة حضور الندوات والمؤتمرات التي تقام في تلك البلدان من طرف جهات إسلامية، سلفية أو غيرها. فأبوحفص والفزازي والكتاني زاروا تونس ومصر من أجل تبادل الآراء ووجهات النظر مع النشطاء الإسلاميين هناك.
ولا يُخفي الشيخ محمد الفزازي، على سبيل المثال، وهو أحد أبرز الوجوه السلفية بالمغرب، تأييده للثورات العربية، ومباركته للأنظمة التي جاءت بها رياح الربيع العربي، حتى إنه شارك في مؤتمر بتونس بُعيْد الثورة التونسية حول موضوع "دور العلماء والقيادة الشرعية في الثورات". كما أشاد بالتصويت على محمد مرسي رئيسًا لمصر باعتباره "أول رئيس أنتجته الثورات العربية بإرادة شعبية". في المقابل، لم يُبد التيار السلفي التقليدي مواقف علنية من الثورات العربية، على الأقل على المستوى الإعلامي، لكنه أصبح بعد الربيع العربي أكثر تماسًا مع القضايا السياسية المحلية والدولية الكبرى، وذلك على غير تقاليده؛ فشارك في التصويت على الدستور سنة 2011 بالإيجاب، كما ترك الهامش واسعًا أمام أتباعه للتصويت في الانتخابات التشريعية في السنة ذاتها لفائدة مرشحي حزب العدالة والتنمية. ومن جهة أخرى، عبَّر عن رفضه الجازم للحرب الفرنسية على مالي.
رجحان التقارب على الإستقطاب
بعد مرحلة السجون، ومع بداية الربيع العربي خاصة، تغيرت مواقف التيار السلفي الجهادي بشكل كبير إزاء التيارات والمكونات الإسلامية الأخرى بالمغرب، من جماعات وحركات إسلامية، مثل جماعة العدل والإحسان وحركة التوحيد والإصلاح، وحزب العدالة والتنمية؛ فصار أكثر نزوعًا نحو التوافق من الميل إلى الصراع، وبرزت لديه فكرة الحوار مع التيارات الإسلامية الأخرى بدلاً من السجال والمناكفة. الفزازي، الذي كان قبل سنوات قليلة سوطًا مسلطًا على تيار المغراوي، واتهمه بالموالاة للتيار الوهابي بالسعودية وتلقي الأموال من هناك، حتى إنه ألّف كتابًا سماه "عملاء لا علماء"، يلمز فيه من سمعة المغراوي، غيِّر مواقفه بشكل كبير ليتحدث باحترام عن هذا التيار ورموزه. كما أنه حث حزب العدالة والتنمية على المضي في طريق الإصلاح، وطلب من جماعة العدل والإحسان الجلوس للحوار لمصلحة البلاد. المغراوي، من جهته، صار أكثر تقاربًا مع سلفيي التيارات الأخرى، وطالب بإطلاق سراح عناصر السلفية الجهادية، باعتبارهم "مظلومين يجب رفع الحيف والظلم عنهم"، كما أبدى تقاربًا مع جماعة العدل والإحسان، التي كان يرميها في السابق بالضلالة والبدعة.
جعلت هذه المتغيرات، في مواقف هذين التيارين السلفيين بالمغرب، العديد من المحللين يرون أن سلفيات المغرب باتت تتجه إلى التخلي عن التكفير والنظر إيجابيًا إلى العمل السياسي ورفض العنف. فكل من التيار الجهادي والتقليدي لم يعد يرفض بالمطلق العمل السياسي، وإن كان الأول يسعى نحو المشاركة السياسية والجماعية، حيث انتظم بعض رموزه في جمعية سميت بجمعية "البصيرة"، كالشيخين أبي حفص وحسن الكتاني. من جهة أخرى، انضم أبوحفص إلى حزب سياسي يدعى "النهضة والفضيلة"، فيما ظل الفزازي يتحدث منذ أشهر عن نيته في تأسيس جمعية دعوية بنَفَس سياسي لتتحول بعد ذلك إلى جمعية سياسية بنَفَس دعوي. أما الحدوشي فلا يزال على موقفه الذي لا يرى جدوى من الانخراط في الجمعيات والأحزاب. من جهته، يستمر الشق الثاني من التيار التقليدي في تركيزه على تحصيل العلم الشرعي وخدمة القرآن الكريم.
يلتقي هذا التحول مع تقليد طبع تعامل السلطة المغربية مع التيار الإسلامي عمومًا والسلفي على وجه الخصوص، يتمثل في تغليب سياسية الاحتواء والإدماج على سياسة المواجهة والصدام. وتعزز هذا الاتجاه مع اختيار العرش المغربي نهج الإصلاح في التعامل مع حركة 20 فبرايرالتي طالبت في سياق الثورات العربية بالديمقراطية والقضاء على الفساد. ولذلك فإن الاتجاه الغالب الذي سيطبع مستقبل السلفيين في المغرب هو الاندماج بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات على خطابهم وهياكلهم، حيث سيميلون إلى تغليب الطابع الوطني على حساب البعد الأممي، والعمل السلمي على العنف والقبول بالاختلافات الفكرية.
عن مركز الجزيرة للدراسات والأبحاث
حسن الأشرف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.