بين الحين والآخر، تطرأ أمور مستجدة تخلق ارتباكا في المشهد العام، و تحدث بلبلة تصعب قراءة دلالاتها في سياقها الزمني. من تلك الأمور ما يكون مصدره الفاعلون العموميون الرسميون، و منها ما يكون مصدره فاعلون سياسيون وحزبيون، و منها ما يصدر عن فاعلين نقابيين أو مدنيين أو اقتصاديين. وبغض النظر عن المصدر، ما يعنينا كمواطنين هي خاصية بعض المستجدات التي تكون معاكسة لاتجاه عام إيجابي سابق لها. مما ينتشر معه الإحساس بحدوث انتكاسة عن مكتسبات محققة، و يطرح سؤال المعنى و المغزى في أن يحدث ما هو على النقيض من واقع إيجابي قائم يحمل الأمل و يحفز على التفاؤل. و الأمثلة، في هذا الباب، كثيرة لا مجال لتعدادها، و كلها تحيل إلى “صدام الإرادات” الذي يعرفه مجتمعنا، بين من يريد الإصلاح و من يعيقه، و بين من يريد تحرير الطاقات والديناميكيات المجتمعية و من يريد كبحها، و بين من يريد مزيدا من الديمقراطية و من لا يسعى لها سعيها، و بين من يريد تحديثا بوتيرة أكبر و من يريد المحافظة على التوازنات المجتمعية القائمة، و بين من يريد تغيير القوانين لاعتقاده أنها متجاوزة و من لا يستوعب الجدوى من ذلك و لا يعتبره من الأولويات، و بين من يدعو إلى تغيير العقليات وكسر العوائق أمام تنمية الوطن و من يتشبث بمصالح صغيرة و يرفض التغيير. و من الأمثلة على هذه الجدلية القائمة في واقعنا، ما يعرف إعلاميا ب “ملف الحريات الفردية”، الذي سبب سجالا قويا، وفتح نقاشا واسعا بشأن مسائل عديدة منها “الحق في الإجهاض”، و مسألة ضرورة تغيير فصول القانون الجنائي التي تقيد الحريات الفردية. وهكذا، ظهرت ديناميكية ترافعية خرجت بأشكال مختلفة و بإيقاع سريع، و تفاعلت معها هيئات سياسية و حقوقية، بين مساند بدون شروط، و مساند بشروط، و متحفظ نسبي، و رافض مطلق. و في خضم هذه التجاذبات و السجالات، كان لافتا للانتباه تعاطي بعض الفاعلين مع ملفات و مطالب بشكل راديكالي، يتأسس ربما على القناعة التامة بصواب موقفهم و مسعاهم. مما جعلهم، في رأيي، يتصرفون وبتواصلون دون الأخذ بعين الاعتبار ما تفرضه السياقات و معطيات الواقع. و المستغرب هو حين تتجاوز حدة النقاش المستوى المقبول، و تسير الأمور في اتجاهات صدامية، و يتم اتخاذ قرارات حكيمة تعيد الأمور إلى نصابها، و ترد الحقوق إلى أصحابها بشكل مفرح، تصر بعض “الحساسيات” على أن تتفاعل بشكل يكاد يُفهم منه أن أصحابها تمنوا لو لم تصدر قرارات حكيمة أصلا، ليستمر السجال و تستمر حرارته في الارتفاع أكثر، ولا يهم خطر حدوث الصدام. أمام هذه المفارقة، لا أدري هل علينا أن نذهب إلى حد الاعتقاد بأن البعض لا يرتاحون إذا انتهى الصخب وحلت السكينة، و أصبح الجو مستقرا و مهيئا لنقاش هادئ في قضايا حساسة تهم المجتمع و الوطن؟ هل فعلا هنالك بعض من لا يجدون في دواخلهم القدرة على الفرح، ولو نسبيا ومرحليا، إذا تم اتخاد قرارات شجاعة و حكيمة، تُزيح من طريقنا بعض القضايا الشائكة، و تطوي تداعيات بعض القرارات التي قد تكون غير موفقة في موضوعها أو مضمونها أو توقيتها، و تربك المشهد لتشغلنا عن الأوراش الكبرى، التي تأتي التنمية والتشغيل والتأهيل الاجتماعي على رأسها؟ وإذا كان لا بد من إعادة تأكيد ذلك، أنا ممن يعتقدون أنه لا نقاش بتاتا في كون مراجعة مجموعة من القوانين وتحيين مقتضياتها، أمر هام و راهني وحتمي و استراتيجي لتطوير وتقدم بلادنا. إلا أنني أرى أن الطريقة و المنهجية لبلوغ ذاك الهدف، و الترافع بشأنه، يجوز فيها نقاش طويل و مشروع. و إذا كان صحيحا أن في بعض القوانين ظلم كبير وتضييق على الناس، بشكل يمس قناعاتهم و حرياتهم، إلا أن على من يرجون بصدق أن يتم تطوير القوانين و تغيير بعض مقتضياتها، أن يميزوا أنفسهم و خطواتهم الترافعية، عن بعض “الاستراتيجيات التي تركز فعلها الميداني على “التأجيج” و”المغالاة”. وليس من نافلة القول التذكير بأن ديناميكية تغيير القوانين ليست “قرارا إداريا” يتخذ، و لا مسألة “إرادة سياسية”، خصوصا في الأمور التي تمس جوانب مرتبطة بالهوية الدينية و بثقافة المجتمع. حينها يكون المسار معقدا و حساسا يقتضي الحكمة في تدبير النقاش، و يقتضي تغيير العقليات لدى المشرعين و لدى المواطنين. كما يحتاج الأمر تغيير العقليات لدى بعض المطالبين بتطوير التشريعات، أنفسهم، حتى ينظروا إلى التحديات التي تحتاج أن ننجح في رفعها، إلى نظرة معالجة مختلفة، تكون غير متسرعة و غير انفعالية. ولعل أول الأمور المطلوبة، هي أن لا ننسى أننا نناضل “سياسيا و حقوقيا” في المغرب، و بين أبناء شعب المغرب، وضمن إطاره المؤسساتي، وليس شيئا آخر. و بالتالي، فإن من عناصر ومقومات تسهيل و تيسير ديناميكية “تغيير القوانين وتطويرها”، هو معرفة حقيقة ما يفكر فيه أبناء هذه الأرض وتمثلاتهم لمجموعة من القضايا، و فتح نقاش واسع معهم، والصبر على ما سيكون من تخبط في الأفكار ومن أحكام مسبقة، بعضها تحقيري متخلف، و بعضها مستوعب لجزء من الحقيقة و ليس كلها. ولن يتأتى مثل هذا النقاش إلا عبر زرع الثقة بين الفرقاء، و الابتعاد عن تسييس الاختلاف و أدلجة المواقف. كما يستحسن توفير ضمانات قيمية garanties éthiques تؤكد أن التواصل سيلتزم بالهدوء، و احترام دوائر التداول و النقاش بحسب فئات المجتمع و خصائصها. ذلك إذا كنا فعلا نريد أن يستوعب جميع أبناء الوطن، بكل حساسياته الفكرية، أن الزمن تطور فعلا، و أن على القوانين أن تتطور أيضا. ورغم كل ما يعتقده البعض، أو يتمنونه، من المفيد و من العقل و الكياسة، إبقاء التفاعل الفكري في إطار الاحترام التام لمرتكزات الأصالة المنفتحة للشعب الذي لأجله نشرع القوانين، و احترام ذكاء الناس حتى يصبحوا، هم أنفسهم، حاملين لهاجس التطوير و مدافعين عن التحرر من براثن التخلف، و تحقيق التقدم و التحديث. ولن يصبحوا كذلك، إلا إذا حصل لديهم الاقتناع بأن بعض الممارسات “المحافظة”، هي فقط ممارسات “تقليدية” نشأت في ثقافة يؤثثها الفقر و التخلف العلمي و الجهل، و ليست بتاتا جزء مما اتفق الفقهاء على تسميته بالمعلوم من الدين بالضرورة، و بالتالي لا خوف من هدف التغيير و من مقاصده. لذلك، يحتاج الأمر إلى كثير من ضبط النفس و التروي في التعبير عن المواقف. إن لم يكن ذلك احتراما للمواطنين و حقهم في أن يستوعبوا الأمور في تفاصيلها و حيثياتها، من المصادر التي تكتسي صبغة الصدقية و النزاهة بالنسبة إليهم، فليكن ذلك احتراما لكون ديناميكيات التطور المجتمعي تحتاج ما تحتاجه من “وقت طبيعي”، بحكم ماهية الأشياء في كل العصور. وبالتالي، لا إمكانية للسير بسرعة أكبر مما تتيحه منعرجات الطريق والمسالك، حتى و لو كانت القضايا و المطالب مشروعة، و كانت قوة المُحرك كبيرة. فالسياسة بما تبتغيه من حسن تدبير للشأن العام، و التشريع أحد أساسياته، ليست لعبة رياضيات ينتهي فيها الجمع بين واحد و واحد بتيجة منطقية، هي اثنين. السياسة ليست كلها عقلانية حتى و لو كنا من دعاة العقلانية ومدعيها. إنما السياسة تستدعي تدبير تضاريس واقع له منطقه و ديناميكياته، بغرض السير بمكوناته، و معها، إلى واقع أفضل، يستوعبه الناس ويستوعبون شرعيته و الحاجة إليه، و يتأقلمون للعيش وفق قواعده الجديدة. و في غياب وعي ديمقراطي متجذر، و تفاعل ديمقراطي مؤسسات صلب و مكتمل الشروط و الأركان، يستوجب الواقع السعي إلى تحقيق أعلى درجات التوافق، لتسهيل الحركة في الاتجاه الصحيح. لذلك، من المهم أن يفهم البعض أن السير الصاخب، بشكل لا داعي له أحيانا، خصوصا بما يطبعه من ترافع فوضي لا تترتب فيه الأولويات بشكل جيد، و لا يتم اعتماد أشكال تواصلية ناجعة، إنما يزيد في إرباك المشهد أكثر، ويستنفر القوى “التقليدانية”، و يعزز “جمود العقليات” خوفا من “تغيير قادم” قد يعتبره الكثيرون “مجهول المعالم و المقاصد”. ليس من الرشد في شيء، أن يُفسد “البعض” بسلوكاتهم، فرحة الناس بالسعي السيادي الراسخ في اتجاه تحديث التعاطي القانوني مع مُستجدات أمور واقعنا، كلما تبين أن ذلك ضروري لتعزيز التماسك الاجتماعي، و فتح أفاق جديدة لتطوير البلاد، أو لرفع ظُلم واضح. وعلينا أن نستحضر أن بلادنا استطاعت تحقيق اختراقات ثقافية و مجتمعية و سياسية كبيرة، لم يكن حتى أكثر المتفائلين يتوقعونها، في مواضيع حساسة، أذكر منها موضوع قانون الأسرة، ومسألة ترسيم اللغة الأمازيغية، و ملف الإنصاف والمصالحة، و ورش تعديل الدستور، و مؤخرا مسألة حق النساء في الإرث في الأراضي السلالية. و بالإمكان أن نحقق قفزات متميزة في التعاطي مع إشكالات أخرى، كمسألة الأطفال المتخلى عنهم، ومسألة تزويج القاصرات، و مسألة الأمهات العازبات، و مسألة الحريات الفردية، و في مواضيع اجتماعية ملحة كثيرة، بشرط أن نبتعد في ترافعنا عن كل الطرق التي لا مخرج في نهايتها. و أكثر ما نحتاجه في هذا الظرف، هو أن تتغير بعض العقليات التي لا تزال تعتقد بإمكانية تحقيق التطور في بلادنا، من خلال التأجيج و التلاسن و الصراع و التصادم بين القوى الحية، عوض سلك سبيل الحكمة و الصبر و طول النفس، و حُسن تدبير الاختلاف، والذكاء في احتواء كل الحساسيات، والبحث عن توافقات صلبة، تكون في بعض الأحيان أكثر تحقيقا للمأمول من أهداف و طموحات. و الأهم هو تعزيز البناء المؤسساتي المتميز الذي تتوفر عليه بلادنا، و الذي مكن خلال العشرين سنة الماضية، من تحقيق ثورة ثقافية حقيقية في عدة مناسبات، حيث تم بشجاعة كسر طابوهات عديدة، و زعزع جمود العقليات التقليدية، و دافع عن توسيع دائرة الحرية، و عن الاختيار الديمقراطي و الحق في الاختلاف، و سيادة القانون. و إذا كان المأمول دائما أكبر و أرقى، و يجب أن يستمر النضال الحقوقي و السياسي، و أن تبقى اليقظة قائمة، إلا أن تثمين المكتسبات الوطنية و الافتخار بها، و الالتفاف حول الدينامية المؤسساتية التي تستحضر مصالح الوطن، و التي يرعاها ويحافظ عليها و يقويها جلالة الملك، بكل شرعياته وسلطاته، هو واجب سياسي و أخلاقي، و هو كذلك ركيزة أساسية لأي فعل مجتمعي حتى يكون ناجعا.