تقتضي “المسؤولية المشتركة” في دعم الإصلاح، بشكل عام، مبدأ أساسيا هو النجاح في تغليب المصلحة الوطنية و سمو القانون، على المصالح الذاتية للأفراد و المجموعات. و من بين ما تقتضيه كذلك، تحقيق توازن بين إرادتين هامتين، في أفق جعلهما متكاملتين : إرادة “الانتقاد”، و إرادة “الاقتراح”. و أنا هنا، أستحضر ما هو قائم من خلل في تعاطي العديد من الأصوات مع قضايا الشأن العام ببلادنا، حيث نرى أن تيار الانتقاد المستمر، بشكل عنيف أحيانا، و بدون سند موضوعي أو معطيات دقيقة، يغلب على تيار الإنتقاد الذي يحاول الانطلاق من معطيات مؤكدة، و يبتعد عن الشخصنة، و يسعى إلى إبداع حلول و تقاسم اقتراحات لتجاوز القضايا و المواضيع التي يتم انتقادها. و من المؤسف أن من لا يبذلون أي مجهود لتقديم مشاريع بدائل، أو لا يستطيعون فعل ذلك علميا ومعرفيا، هم الذين يطغون بحركيتهم و كثرة تفاعلاتهم، على أصحاب الأراء النقدية الوجيهة التي تحمل اقتراحات دقيقة لمعالجة بعض ما ينتقدونه من ظواهر و سلوكات، أو ما يتناولونه من ملفات و مشاكل في السياسة و في المجتمع. بذلك، يُحرَمُ المجتمع و قواه الحية، من فرصة التركيز و التدقيق في “مشاريع الحلول” التي يتقدم بها أصحاب “تيار الانتقاد الإيجابي”، وتضيع فرصة تعميمها على نطاق واسع، و الترويج لها، و الترافع بشأنها لدى أصحاب القرار المعنيون بالموضوع. وأخطر ما في الأمر، هو أن صخب “تيار الانتقاد السلبي” يجعل الغالبية من الناس يدخلون في حالة من “تضخيم مُضاعف” للمشاكل التي هي أصلا كبيرة، و يسقطون في فخ الشك في النفس، و الشك في قدرة “الذات المجتمعية” على حل المشاكل. ثم يُسيطر عليهم التشاؤم و اليأس بشكل مبالغ فيه، ويدخل الجميع في حالة من الإحباط والتذمر، شبه المرضي، بشكل غير نافع و غير مؤثر بتاتا، يشُل الحركة ويمنعُ الفعل الميداني. و لأن الواقع لا يتغير بالتذمر واليأس والإحباط، وإنما تتحرك الأمور إيجابيا بسلاح الأمل والتفاؤل والإقدام والعمل والعزيمة، والإيمان بالقدرة على رفع التحديات الكبرى، واليقين بإمكانية تحقيق حتى أكثر الأحلام طوباوية، فإننا بحاجة إلى رفع رصيد الثقة في النفس وفي الآخرين، وفي المستقبل، وفي هذا الوطن. و لن يُمكن تحقيق ذلك إلا من خلال اجتناب كل ما يُحبط الهمم ويقهر العزائم ويشيع التشاؤم واليأس. و يبقى الإكثار من الانتقاد السلبي الذي يُضخم المشاكل و يُسفه كل شيء، و يشيع البلبلة، و لا يُقدم بدائل و اقتراحات هادفة، من أكثر أسباب نشر الإحباط التي يجب محاصرتها. لكل ذلك، أعتقد أنه حان الوقت كي نضبط النقاش العمومي بمنهجية تجمع بين “الانتقاد الهادف” ومجهود “المساهمة باقتراح بدائل وحلول”. و ليس المقصود هنا، أن تكون مشاريع الحلول عبارة عن دراسات تقنية متكاملة. ذلك غير مطلوب من عموم الناس، و ليس لهم إليه من سبيل. بل القصد هو دعوة المواطنين المتتبعين و المعنيين بقضايا الشأن العام، إلى تقديم أفكار و اقتراحات، يمكن أن تتأسس عليها ديناميكية إيجابية تهدي إلى أفضل الحلول لتجاوز المشاكل و الظواهر السيئة التي ننتقدها في حياتنا. و في هذا السياق، وسط كم القضايا التي تشغل البال ويتركز حولها النقاش العمومي، وتستحق أن تُساهم في إبداء الرأي بشأنها كل كفاءات و أطر بلادنا، بما يرونه مناسبا من اقتراحات حلول و أفكار إيجابية لمسار الإصلاح، باعتبار ذلك “مسؤولية مشتركة بين أصحاب القرار والمجتمع ككل”، أرى استعجالية فتح ورش التفكير في سُبل “تجديد الثقة وإعادة بناءها على أساس تعاقد أخلاقي مُستدام.” و من المهم بداية، تسجيل معطى سياسي كبير الدلالة، ألا و هو أن أول الرهانات التي تحدث عنها خطاب العرش، كان هو “رهان توطيد الثقة والمكتسبات لكونها أساس النجاح، وشرط تحقيق الطموح”. و الحقيقة أن مسألة الثقة أساسية و استراتيجية بشكل كبير. و يُعتبر تناولها في الخطاب السامي، بمثابة تذكير جديد لكل الفاعلين السياسيين و المجتمعيين، بأنه بدون الثقة لا يمكن أن نخلق التعبئة اللازمة، و لا أن نضمن انخراط المواطنين في أي مجهود وطني، أو أن نُقنع الناس بأن تخليق الحياة العامة، أفق ممكن. و لموضوع “تجديد الثقة”، في أبعادها المُجتمعية و ارتباطاتها بتسهيل مسار تأهيل تدبير الشأن العام الوطني، بمساواة في الحقوق و الواجبات، أهمية قصوى بالنظر إلى “الظرف التاريخي” الذي يفرض علينا جميعا أن ننتبه، بتركيز شديد، للتحديات غير المسبوقة التي سنواجهها. و أن نعي أن بلادنا توجد في قلب تجاذبات الجغرافية السياسية والجيوستراتيجية للعالم، و لسنا على الهامش في صراع مصالح القوى الكبرى. وعليه، يجب أن نستبق ما هو قادم بقوة من نتائج “انعطافة تاريخية” قد يشهدها العالم على المستويات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و المالية و العسكرية و الجيوستراتيجية و البيئية و الديموغرافية والقيمية، بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. و بالتالي، لا مصلحة في الاعتقاد بإمكانية حل المشاكل عبر “دفن الرأس في الرمل”، أو التردد و الخوف من تحمل أعباء مواجهة التحديات بروح استباقية و استشرافية. فليس أفضل من حل مشاكل اليوم، بحكمة و في هدوء و سكينة، عوض التأخر و المجازفة بأن نراها “زادت خماجت”، و الاضطرار آنذاك للتصدي لها بارتباك و تخبط و في جو الصخب. ومساهمة في تشجيع ديناميكية تقديم “مشاريع حلول ممكنة” و “اقتراح بدائل رصينة”، أرى أن السبيل إلى “تجديد الثقة”، يمر عبر استنفار الوعي على مستويات ثلاث : مستوى الوعي الفردي، ومستوى الوعي الجماعي، و مستوى الوعي المؤسساتي. و أما السير في اتجاه تعزيز الوعي و تغيير السلوكات الفردية و الجماعية، فأرى أنه يقتضي : 1/ مصارحة الذات، الفردية و المجتمعية، بحقيقة عيوبها. 2/ الاعتراف بالاختلالات القائمة بين “القيم” التي تفضحها السلوكات الفردية و الممارسات في النطاق الخاص، و بين “القيم” التي تُحيل إليها “الشعارات” المرفوعة و الأفكار التي نُروج لها في الفضاء العام. 3/ الاعتراف بأن الحالة تنطبق عليها مواصفات “سكيزوفرينيا” اجتماعية و ثقافية و قيمية، نغرق فيها، و علينا التعاطي معها باعتبارها حالة مرضية تستدعي العلاج و المواكبة. 4/ السعي إلى “التغيير من داخل الذات الفردية”، أولا، من خلال مسائلة “القناعات” التي نحملها، و المسارعة إلى لجم طغيان الأنا و غرور الطموحات و الرغبات غير المُنضبطة لمنطق عقلاني وقيمي سليم. أما على المستوى المؤسساتي، فيتعين على المؤسسات و الإدارات العمومية، بمختلف أصنافها، أن تبادر إلى إعطاء المثل اعتبارا لقوتها الرمزية “الريادية”، و كونها هي من تملك شرعية “سلطة الفعل العمومي و صلاحيات تطبيق القانون”. ويتعين عليها، من هذا المنطلق، المبادرة إلى : 1/ إعادة بناء التواصل مع المواطنين على أساس تعاقد جديد ينطلق من الالتزام بتقديم “الخدمة العمومية” بالجودة المفروضة، في إطار احترام المرتفقين، وتشجيع القرب منهم و الانفتاح على اقتراحاتهم. 2/ تقديم كل المعطيات و المؤشرات التي تعزز الثقة في أن تلك الهيئات تحترم القوانين. 3/ تطوير حكامة تلك المؤسسات بما يؤكد سلامة تدبير موارد المالية العمومية، و خلو تنفيذ المشاريع و الصفقات و الأشغال العمومية من أي فساد ظاهر أو مستتر في ثنايا “مقتضيات بيروقراطية”، يعرف الناس أنها لا تمنع منطق “خالتي في العرس” و “باك صاحبي”، و غير ذلك من سلوكات بعض المسؤولين، و بعض “لجان فتح الأظرفة”، نموذجا. أما هيئات الوساطة السياسية والمدنية، من أحزاب وجمعيات ونقابات، وما فيها من “النخب” التي تسعى إلى تأطير المواطنات و المواطنين، مدنيا و حقوقيا و سياسيا، فعليها مسؤولية أخلاقية شديدة الثقل، و مسؤولية و طنية أقوى و أكبر، تجعلها مدعوة إلى أن تواكب إرادة الإصلاح التي تحدث عنها عاهل البلاد، عبر المساهمة في تصحيح صورة العمل السياسي و المدني و النقابي. و في رأيي، يمكن أن يتأتى ذاك عبر : 1/ العودة إلى مبدأ التداول على مناصب المسؤوليات القيادية، في الأحزاب و النقابات و الجمعيات؛ ومنع الجمع بين أكثر من مسؤولية واحدة في نفس الوقت؛ و قبول “مبدأ التقاعد السياسي” في سن معقول؛ و العودة إلى أساسيات الديمقراطية الداخلية المبنية على احترام الاختيار الحر للمنخرطين و المناضلين، و ليس على منطق “صناعة الزعماء” بالكولسة و تجييش الأتباع بأساليب البلطجة، وشراء الولاءات والذمم والاصطفافات المصلحية. 2/ تجديد “النخب”، و ترك مقام “الزعامة” لجيل جديد من القيادات و الأطر التي لم تأخذ فرصتها، لتتقدم أمام المغاربة في امتحان عسير عنوانه “استرداد الثقة على أساس تعاقد سياسي و أخلاقي جديد. 3/ حل المشكل الأخلاقي الكبير، الذي يشاهد تجلياته عامة الناس و يعرفونه حق المعرفة، و الذي تبينه الهوة السحيقة بين “الواقع النخبوي” لبعض القيادات الجمعوية و السياسية و النقابية، الغارقة في “الثراء و الريع و المنافع”، من جهة؛ و بين “الأقوال و التصريحات، و الحوارات الإعلامية، و الخطابات الجماهيرية” المتخمة بالحديث عن “القيم” و “الشفافية” و “مصالح المواطنين”، بشكل “دوخ الناس” و لم يعد يقنع أحدا، من حهة ثانية. و أجزم أن ذلك كان أحد الأسباب الرئيسية الذي جعل المواطنين ينفرون و يبتعدون من العمل السياسي و النقابي و الجمعوي. 4/ تجويد مضامين العرض السياسي و النقابي و المدني، عبر تحيين معرفتها بالواقع، و عبر خلاصات نقاشات عميقة يجب أن تفتح مع المواطنين المستهدفين، بحسب كل مجال، و تشخيص انتظاراتهم، و إشراكهم في بلورة أجوبة و حلول و بدائل رصينة للقضايا المجتمعية و السياسية، المطروحة على الجميع محليا و جهويا و وطنيا. وأنا أقترح هنا ما أعتبرها مداخل إلى “كسب رهان تجديد الثقة و تسهيل الإصلاح”، أثير الانتباه إلى أن الأمر سيحتاج إلى وقت طويل و صدق كبير ومهنية عالية. لذلك، من اللازم على كل المعنيين، أفرادا و جماعات و مؤسسات، أن يطلقوا بسرعة ديناميكية “السير نحو الإصلاح”، و استعادة الثقة باعتبارها شرط مستعجل و أساسي لتحقيق لإقلاع الشامل.