خلّفت الثورات التكنولوجية بمختلف أشكالها التي اجتاحت جميع ميادين الحياة الانسانية, كما يشهد على ذلك واقع المجتمعات العالمية اليوم, العديد من التحولات العميقة والانقلابات الجذرية على مستوى القيم الإنسانية إلى درجة أصبحت فيها القيم اليوم مثل بضاعة تتحكم في إنتاجها «لوبيات ثقافية» لتنشرها وتُذيعها وتُروجها عبر قنوات إعلامية؛ وقد نتج عن ذلك هيمنة ما يطلق عليه أحد السوسيولوجيين ب «الأخلاق المصطنعة» (L'éthique préfabriquée vendues par les publicitaires)) , والتي فرضت سيادتها, بعدما تزايد تسارع عدد معتنقيها ومناصريها, سواء على مستوى الوجود الفردي للأشخاص أو على مستوى وجودهم التفاعلي والاجتماعي خلّفت الثورات التكنولوجية بمختلف أشكالها التي اجتاحت جميع ميادين الحياة الانسانية, كما يشهد على ذلك واقع المجتمعات العالمية اليوم, العديد من التحولات العميقة والانقلابات الجذرية على مستوى القيم الإنسانية إلى درجة أصبحت فيها القيم اليوم مثل بضاعة تتحكم في إنتاجها «لوبيات ثقافية» لتنشرها وتُذيعها وتُروجها عبر قنوات إعلامية؛ وقد نتج عن ذلك هيمنة ما يطلق عليه أحد السوسيولوجيين ب «الأخلاق المصطنعة» (L'éthique préfabriquée vendues par les publicitaires)) , والتي فرضت سيادتها, بعدما تزايد تسارع عدد معتنقيها ومناصريها, سواء على مستوى الوجود الفردي للأشخاص أو على مستوى وجودهم التفاعلي والاجتماعي. لقد كان للتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها المجتمعات, والناتجة عن اكتساح الثورات التقنية لكل مجالات الحياة الإنسانية, تأثير بيِّن على القيم والمعتقدات الأساسية لجمهور ما يقارب 80% من سكان العالم كما تؤكد ذلك تقريرات هيئة مسح القيم العالمي (عرف المغرب مسْحَيْن قِيَمِيَيْن الأول ما بين 1999 و 2001 والثاني مؤخرا) لقد شملت انعكاسات هذه الثورات النسق القيمي للمجتمع المغربي, مما يستدعي إعادة التفكير في طبيعة التصورات الأخلاقية للمغاربة وتحيين النظر في تمثلاتهم بخصوص نوعية القيم التي تحكم وتؤطر سيرورة وصيرورة التعاقدات الاجتماعية والعلاقات الانسانية لديهم. إن فهم واستيعاب ما يجري من تحولات وانقلابات أخلاقية لم يعد يحتمل التأجيل, وهو الأمر الذي يترتب عنه أولوية مقاربة أدوار المؤسسة التربوية ووظائفها باعتبار أن المدرسة هي الرافعة الأساسية لإصلاح منظومة القيم داخل المجتمع ولتقويم أي اعوجاج أو اختلال قد يلحقها, وبالتالي تمكين هذه المنظومة الأخلاقية من قوى الممانعة من جهة ومن قوى التأقلم والتجدد من جهة ثانية بُغية تكوين الناشئة وتأهيلهم أخلاقيا وتزويدهم برصيد من الفضائل والقيم الإنسانية النبيلة. ولذلك ستسلط هذه الورقة الضوء على إشكالية القيم بوصفها الأساس المميز للوجود الإنساني للفرد والمجتمع, من خلال تبيُّن العلاقة الجدلية لمنظومة القيم داخل المجتمع المغربي بالمدرسة كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية والأخلاقية؛ إذ ستتوقف عند مسألتين: تتعلق الأولى بمحاولة فهم ما يجري من تغيرات قيمية داخل المجتمع المغربي؛ حيث أصبحت الناشئة المغربية تتبنى قِيَماً خاصة بها مختلفة عن أخلاقيات الأجيال السابقة, إنها تشكل وتؤسس لنسق أخلاقي جديد ومغاير. يستوجب هذا التحول الأخلاقي للمغاربة مساءلة قضية القيم وانعطافاتها, فكيف نقارب سؤال القيم في مجتمعنا اليوم؟ وما السبيل لاستيعاب ما حدث ويحدث في المجتمع المغربي من تحولات وانقلابات أخلاقية؟ ما طبيعة وأشكال القيم التي اجتاحت فضاء المؤسسات الاجتماعية وعلى رأسها المؤسسة التربوية المغربية؟ سيكون الجزء الأول من هذه الورقة هو بمثابة تشخيص للتحولات القيمية السائدة والموجِّهة لالتزامات المغاربة الأخلاقية والمنظمة لتعاقداتهم ولعلاقاتهم الاجتماعية. يتوخى الجزء الثاني من هذه الورقة اقتراح بعض سُبُل تجديد المنظومة القيمية المغربية في سياق بلورة أشكال تحفيز الناشئة لتبني قيم ثقافة الحقوق والكرامة الإنسانية كنمط للحياة الاجتماعية ولاكتساب فضائل نبيلة أساسها أخلاقيات الاستحقاق والعمل المبدع والمنتج والمساهم في بناء التماسك الاجتماعي وفي تحقيق مختلف أصناف التقدم والازدهار وخاصة التقدم الكيفي القيمي الإنساني. فكيف نؤسس لمنظومة قيمية حداثية تُعلي من شأن حقوق الإنسان وكرامته؟ كيف نجعل ناشئة اليوم مواطنين مسؤولين أخلاقيا وقادرين على الإنتاج والتخطيط للمستقبل وملتزمين بأخلاقيات العمل النبيل؟ كيف تتمكن المدرسة المغربية من تكوين وإعداد مواطنين يتبنَوْن رؤية أخلاقية تُجسد تضافُر الجهود المشتركة لتحقيق التعايش والتفاهم والتواصل الإنسانيين؟ ما طبيعة المشروع التربوي التكويني الكفيل بأن يجعل مدارسَنا منابت للفضائل المدنية الحداثية وفضاءات لتحفيز الأجيال القادمة على الإيمان بأهمية قيم المواطنة ومردوديتها في الرُقي بالفرد والمجتمع وفي تحسين شروط العيش والوجود الإنساني المشترك؟ Ι- تجلت الهيمنة التي فرضتها مقولات الثورة التقنية وقوالبها على الحياة العامة من خلال امتلاك هذه المقولات لناصية تحديد طبيعة القيم السائدة والموجهة للمنظومة الأخلاقية في المجتمع المغربي, حيث يلتقي العديد من الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية والفلسفية والتربوية حول تأكيدهم على انعكاسات هذه الثورة في تكريس صنف من «الأخلاق المصطنعة» ضدا عن القيم الأصيلة والنبيلة؛ من هنا مأتى أهمية تشخيص لنوعية المبادئ القيمية التي أضحت مهيمنة ومتحكمة في الوجود الذاتي للفرد, ثم لطبيعة الأخلاق المنظمة للتعاقدات والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والمؤسِسة لوجودهم العلائقي داخل مجتمعنا المغربي. 1) في تشخيص نوعية القيم المؤطرة لوجود الفرد في مؤلفه «ديوان السياسة» يصف عبد الله العروي التربية الأخلاقية التي يتلقاها المواطن المغربي بالتربية «الأمّية», ولا يقصد بالأمّية جهل القراءة والكتابة, فالأمّية «ترتفع لا بإتقان الكتابة والقراءة ولا بحفظ مقولات عن الكون والإنسان والماضي», فالأمّي في نظره «هو من لا يزال في حضن أمه, يتكلم بلهجتها, يتصف بصفاتها, يتوخى أغراضها, يعمل على إرضائها, يعيش في حماها, ولا يتعدى أفق حياتها حتى عندما يهاجر بعيدا عنها»؛ ذلك أن تربية الأم عندنا «بقدر ما هي قريبة من الطبيعة بقدر ما ترسخ في ولدها النوازع الطبيعية: الولاء, الطمع, الخوف, إلخ» . إن ذهن الأمّي – يؤكد العروي – لا يتمثل أبداً كلمة الصالح العام, لأن أُفُقه ضيّق مرتبط «بالنفع الآني العيني», ولهذا يخلص صاحب «ديوان السياسة» إلى أنه «لابدّ لنا من تربية مخالفة بل مناقضة لتربية الأم, هي التربية المدنية» بُغْيَة إحداث «الطفرة من مجتمع أمّي إلى مجتمع مدني» . إن تفضيل الإنسان المغربي لمصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة, وجعل المنفعة الذاتية والمصلحة الآنية أساس منظومته القيمية أفقده القدرة على البناء الجماعي لنسق قيمي كفيل بخلق آليات للتفاهم والتعايش مع الآخرين مع ضمان المصالح المشتركة للجميع وبما يخدم المجتمع ككل. فواقع حال الإنسان المغربي اليوم شبيه بمن يلهث وراء «وصفات خاصة» ويبحث عن «مستحضرات» من خلال ما يتم الترويج إليه من توجهات واختيارات, ليتم إضفاء طابعا أخلاقيا مصطنعا عنها, بدعوى إمكانيتها ضمان النجاح السريع في الحياة الخاصة وإنْ على حساب الحياة العامة, وتحقيق الرفاهية الفردية في العيش السهل وإنْ على حساب العيش المشترك؛ وحتى إذا ما قَبِلَ الولوج إلى عالم القيم الأصيل والمكلِّف, فإنه يلج إليه من باب الخوف على مصالحه الذاتية ومنافعه الظرفية لا من باب العشق لما هو أخلاقي أصيل في ذاته. أضحت أسس ومرتكزات ثقافة التعايش المشترك نادرة في «القاموس الأخلاقي» للفرد اليوم, فهو لا يعتقد بأهمية أخلاق التضحية من أجل الآخرين والإنصات إليهم ولا يؤمن بجدوى قيم الطيبوبة ولا يهتم بأخلاقيات التواصل مع الغير؛ بل إنه لا معنى, بالنسبة له, للفضائل المدنية ولمتطلبات روح المواطنة إذا ما تعارضت مع ما يخدم ذاته الفردية ويجلب منفعته الخاصة؛ فباسم هذه المنفعة الضيّقة والآنية يرتكب فضائح وأعمال فظيعة أخلاقيا ليتم تبريرها دون حَرَج قيمي وبدون أية مساءلة أخلاقية. أصبح من المألوف أن نجد الإنسان المغربي مدافعا عن الاستهتار بالواجب المجتمعي, يبرر آليات الغش والاحتيال دون مراعاة منه للمصلحة العامة, لا يستنكر ما يجلبه «الريع» من فوائد على حساب المنافع المشتركة, بل إنه لا يقبل ولا يعير اهتماما لسؤال «من أين لك هذا؟» باعتباره في الأساس سؤالا أخلاقيا. إن انحصار التربية المدنية ترتب عنه انغلاق الأفراد وتمركزهم حول ذواتهم مما جعلهم يعتقدون أن الفضائل المدنية أمر مكلف بل إن استعداداتهم لتبني قيم المواطنة والحداثة تعرف حالة تدهور وتقهقر, حيث يسارعون إلى الارتماء في أحضان أخلاق مصطنعة تخدم المصلحة الفردية بالرغم من انعكاساتها السلبية على المجتمع. 2) في تشخيص طبيعة القيم المؤسسة للتعاقدات الاجتماعية: مع منظومة الأخلاق المصطنعة التي كرّستها الثورة التكنولوجية, فاستحوذت على مجالات الحياة المجتمعية خاصة بعد اكتساحها للفضاء الإعلامي, انتهى زمن الالتزامات والتعاقدات الاجتماعية الدائمة والمستقرة والقائمة على أسس أخلاقية أصيلة وعلى مبادئ قيمية صلبة وتمّ تعويضها بعلاقات قابلة للتحول والتغير تبعا لمصالح الفرد الخاصة, ومن هنا وضعية اللاستقرار التي أضحت تسم الوجود التفاعلي والعلائقي للإنسان المعاصر. لقد أصبح هذا الأخير يفضل ويميل نحو ثقافة المحافظة التي تدعوه إلى الانغلاق على ذاته بدلا عن الانفتاح والتواصل مع الآخرين, توهمه بجدوى الاهتمام بقضاياه الخاصة دون التفكير في قضايا المجتمع, والانشغال بإيجاد الحلول الفردية الضيّقة لمشاكله حتى ولو كان ذلك ضدَّ المصلحة المجتمعية. إنه أصبح يتبنى ما تُروِّجه الدوكسا العامية في الإعلام وداخل مؤسسات المجتمع والتي توحي له بأنه مؤهل وقادر لوحده على ابتكار حلول فردية وعلى خلق وإنتاج أفكاره وأفعاله من تلقاء ذاته وكأنه منبع كل حقيقة ومصدر كل حق, مما يجعله يعيش في وهم فردانيته أو بالأحرى في استكفائه الوهمي. يقول عبد الله العروي في كتابه «ديوان السياسة»: «إلى عهْد قريب كُنّا نأمل ونتوقع أن الاقتصاد والعلم والتقنيات, أن التعليم والممارسة, ستعمل حتما وبالتدريج على إيجاد هذا المدار العمومي في حال الانعدام وتوسيعه في حال الضيق والانسداد. لكن تطور التقنيات, تقنيات التواصل بالذات, صارت في الاتجاه المعاكس, كما تعمدت تكذيب التنبؤات المفيدة لنا, زادت من عزلة الفرد, فعاد مرغما إلى حِضْن الطبيعة, إلى القبيلة والإخوانية والأسرة, عاد إلى روابط الأمومة, ضاق مُجددا مجال الاحتكاك والالتحام بعد أن اتّسع قليلا لبرهة وجيزة». سيطرت من جديد ثقافة الانغلاق والمحافظة داخل مجالاتنا الاجتماعية بل هيمنت على مختلف فضاءات الحياة المدرسية داخل المؤسسات التربوية بالمغرب, وهو ما يؤكده الباحث علي أومليل في كتابه «سؤال الثقافة»: «لكن الملاحظ الآن أن أفكار الحداثة أخذت تنحسر في صفوف رجال ونساء التعليم, فقد أخذت المحافظة تشيع بين هؤلاء في التفكير والسلوك, وهذا ما يفسر أن الأصولية أخذت تجد بينهم بيئة ملائمة, واِرْتَدّت مناهج التعليم نحو المحافظة في بعض المواد والمناهج التي أخذت تقررها الدولة لِتُزايِد على الحركات الأصولية, وأصبحت هذه المحافظة الثقافية تلحق حتى الجامعات» ولذلك يتزايد لدى ناشئتنا اليوم مشاعر يطبعها الخوف من التفاعل والاختلاط (Mixophobie) والتي حلّت محل مشاعر محبة التفاعل والاختلاط (Mixophilie) لديهم. إنهم أخذوا ينظرون إلى الاختلاف كتهديد لا كتنوع, وبدل أن يسعوا إلى خلق فضاء للتعايش والتماسك والتضامن بناءً على قيم التواصل والتفاهم وفضائل الحياة المدنية, وأن يرغبوا في بناء استقرار اجتماعي على أساس روابط المواطنة, نجدهم يلجؤون إلى تبني فكر محافظ يطبعه التمركز والانغلاق حول رغبات الذات ومصالحها الخاصة, وتهيمن عليه روابط النسب أو ولاءاتُ التحيُّز والتشيُّع.. ممَّا يعيق أية مبادرة لبناء فضاء للمواطنة ولتأسيس وجود إنساني مشترك ف»لا جدال في أن الأمية –يؤكد العروي- تعرقل بلورة الوعي بالمواطنة وما تستلزم من .. التحرر من عقال الأسرة والعشيرة والقبيلة» لقد نتج إذن عن سيادة التصور التكنولوجي النفعي إفراغ القيم الأصيلة من محتواها الإنساني ومن غاياتها النبيلة وتقزيم لدورها الهام في الرقي بالوجودين الفردي والجماعي داخل المجال العام للمجتمع المغربي. إنه على عكس التوقعات والآمال, أفرزت حداثة الأزمنة التقنية ردّ فعل لثقافة محافظة تتسم بانغلاق هوية الأفراد وبتمركزهم حول ذواتهم وعدم قبولهم لقيم الانفتاح على الآخرين, بل إن هذه «الحداثة التقنوية» حادت عن القيم الحداثية الأصيلة المؤسسة للنزعة الإنسانية لحداثة الأنوار لتدافع وتروج لأخلاق مصطنعة ذات طابع تجاري تسمح وتشجع على الإعلاء من أهمية المردودية الآنية والرفاهية الفردية والمنفعة الذاتية كغايات في حد ذاتها؛ ولذلك تولد لدى الإنسان المغربي اعتقادا مفادُه أن القيم الأصيلة مكلفة بل إنه لا جدوى من وراءها, ممّا يجعله مناصرا للقيم التجارية «قيم السوق» التي تتمثل من خلال الجري اللامحدود وراء الكسب والاستهلاك, ومن خلال نهج سلوكات الغش والاحتيال وقبول فوائد «الرِّيع» لضمان الربح السريع, وأيضا من خلال التمرد ورفض «البنيات» الأخلاقية الثابتة والقواعد القيمية النبيلة المنظمة للتعاقدات الاجتماعية وللعلاقات الانسانية وتعويضها ب «شبكات» تصلح لتفاعلات مؤقتة وعابرة يسهل حلها ويحتفظ بحرية إيقافها عند كل لحظة وبإمكانية إلغائها حسب المصلحة الفردية دون مراعاة انعكاساتها السلبية على المجتمع. لقد ترتب عن ذلك إحداثُ اهتزازات عنيفة لقيم التوازن والتماسك الاجتماعي ولمبادئ الاستقرار العلائقي القائمين على العدالة والمساواة والاستحقاق كقيم وكغايات أخلاقية للحياة الإنسانية والتي فقدت معناها لدى الناشئة المغربية مما جعل هذه الأخيرة في وضع قيمي هجين. يستدعي هذا المآل ضرورة تجديد المنظومة الأخلاقية ويفرض الحاجة إلى إعادة تقويم اختلالاتها من خلال التفكير في أدوار مؤسساتنا التربوية ووظائفها في التكوين القيمي لناشئتنا؛ فما السبيل لجعل مدارسنا منابت للفضائل المدنية؟ كيف تمكن المدرسةُ الناشئة من التغلب على ما سمّاه (هابرماس) «مرض التقوقع على الحياة الخاصة», مرض الانشغال فقط بما هو فردي دون الاهتمام بالمجتمعي والمشترك؟ كيف نحفز الأجيال على الاستجابة إلى قيم المواطنة والتصرف وفق الفضائل التي تتطلبها؟ كيف ننشئ الأطفال على أساس أخلاقيات التواصل والتعايش والتفاهم؟ وأخيرا, كيف نؤسس لنظرية في التربية على المواطنة تُمكِّن المدرسة المغربية من لعب كامل أدوارها في تكوين الناشئة على الإيمان بأهمية ومردودية قيم المواطنة وعلى الالتزام بأخلاقيات مدنية لبناء مجتمع متضامن ومتماسك ومساهم في استنبات قيم انسانية نبيلة, مجتمع يتمتع أفراده بوعي حداثي تقدمي مستنير ويتسمون بذوق وجداني راقي ويتصرفون تبعا لقيم أخلاقية أصيلة؟ П-1)- في الحاجة إلى بلورة نظرية في التربية على المواطنة: لا شك أن التربية على المواطنة وحقوق الانسان قد أضحت مرجعاً يُحْتَكَم إليه في تقويم الآراء والأفكار والمواقف والسلوكات, وغايةً تنبني عليها مشروعية السياسات وتُقاس بها مصداقية الدول وأحقيتها بالتقدير والاحترام, فالرمزية الكونية والحضارية التي تتمتع بها قيم حقوق الانسان تتجاوز كل الحدود الوطنية والإقليمية وكل الاختلافات والتمايزات الجنسية أو الإثنية أو الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية...إلخ, مما جعل منها أحد أهم مؤشرات التنمية على المستوى العالمي. إن تنامي الوعي الفردي والجمعي بأهمية هذه القيم وبدورها في الإعلاء من شأن الفرد والسمو به لمرتبة الإنسان/ المواطن صاحب الحق (Sujet de droit) والملتزم بواجباته عن طريق مشاركته في الحياة العامة بفعالية؛ إنه يحظى بحماية قانونية تسمح له بإمكانية تجسيد حقيقته وماهيته كذات لعقل أخلاقي تتمتع بقيمها الإنسانية النبيلة..., ذات قادرة على تأكيد «حسن الوجود الذاتي والتفاعلي» (Savoir être et Savoir être avec l'autrui ) وإثبات فاعليتها بالتعبير عن قدراتها ومؤهلاتها, فرض ذلك إعادة صياغة لمجمل البرامج والأنشطة التربوية بما يجعل من المجال المدرسي فضاءا لاستنبات قيم حقوق الانسان ولتمكين الفرد من التشبع بها فكريا والتقيد بها سلوكيا, لتغدو المؤسسة التربوية رافعة أساسية لترسيخ هذه القيم وليصبح الفعل التربوي حاملا رئيسيا لكل مسعى مجتمعي نحو التقدم الانساني المنشود. وبالرغم من أن النظام التربوي بالمغرب قد انخراط ببرنامج وطني للتربية على المواطنة وذلك منذ إعلان العشرية الأممية للتربية على حقوق الانسان (1995/2004), حيث عمل على تعزيز مفاهيم حقوق الانسان في البرامج الدراسية وسعى إلى نشر قيمها داخل المجال المدرسي, خاصة حينما تم تعميم هذا البرنامج بعد تشكيل «هيئة التربية على حقوق الانسان والمواطنة والقيم في الفضاء التعليمي», وهو ما مكَّن المدرسة المغربية من السير قُدُما في خارطة الطريق الوطنية لاستنهاض الفكر الحقوقي ونشر الثقافة الحقوقية داخل فضاءات الحياة المدرسية من خلال تكوين رصيد هام من الوثائق و الدلائل البيداغوجية والتقارير التي تنحو إلى تأكيد الانتقال من مرحلة الدفاع عن حقوق الانسان وإبراز أهميتها إلى مرحلة التربية عليها والبحث عن سبل إحيائها في الوسط التعليمي, إلا أن الواقع التعليمي بالمغرب يُكشف على أن هذه الانجازات لم تحقق المبتغى والمأمول منها؛ ذلك أن مساءلة مسار النهوض بثقافة حقوق الإنسان ودور ذلك في تحقيق التنمية الإنسانية والتقدم الكيفي القيمي لدى المواطن المغربي تستدعي الوقوف عند مساهمة الثقافة الحقوقية في تحسين شروط الوجود الفردي والعلائقي الاجتماعي بالمغرب وتبيُّن مدى حرص الخطاب التربوي الحقوقي على تفكيك وتقويض المعيقات الثقافية والاجتماعية والنفسية التي تعترض سبيل المقاربات البيداغوجية القائمة على جعل التعلمات متمحورة حول القيم الحقوقية والساعية إلى ضرورة ترجمة هذه القيم سواء على مستوى آليات التفكير أو الممارسة, وذلك حتى لا تظل على هامش التنشئة التعليمية وحتى لا يكون الحديث عن فعل التربية على المواطنة مجرد شعارات مسكوكة ولغة خشبية كما يعكس ذلك واقع المؤسسات التربوية بالمغرب؛ إذ لازالت هناك العديد من التمثلات الثقافية والسلوكات الاجتماعية والمكبوتات النفسية وغيرها التي تحول دون الأجرأة السليمة لفعل التربية على حقوق الإنسان وتعيق عملية ترجمة قيم حقوق الانسان الكونية إلى مستوى القناعة الفعلية المؤطرة للممارسة الفردية والجماعية لدى الناشئة, وهو ما يتأكد في الفضاءات التربوية التي تعرف سيادة وهيمنة لمظاهر العدوانية واللاتسامح والتطرف بمختلف أشكاله والإخلاء بأبسط قواعد الاحترام والتملص من الواجبات بل والاستخفاف بها وغيرذلك من التصرفات المشينة أخلاقيا والمتعارضة مع قيم الحق والواجب, إلى درجة أن المجتمع المغربي قد ولج إلى مرحلة أفول الواجب المجتمعي, ممّا يدفع إلى إعادة النظر في عملية تبيئة مفاهيم الفكر الحقوقي داخل المجال التداولي الأخلاقي وفي سيرورة ترجمة قيم هذا الفكر ضمن المنظومة التربوية, بُغية تمكين المقولات الذهنية المغربية وقوالب تفكيرها من الاستيعاب والتملك الواعي لقيم حقوق الإنسان الكونية, ومن تمَّ استنبات هذه القيم داخل النسق القيمي لدى المغاربة. إذ بدون التفكير في سبل استنهاض الفكر الحقوقي سواء على مستوى آليات التفكير أو على مستوى مُوجِّهات الممارسة اليومية, أي بدون بلورة نظرية متكاملة في التربية على المواطنة وعلى ثقافة حقوق الإنسان, يصعب تجاوز مختلف المعيقات التي تحول دون الالتزام بالقيم الحقوقية الكفيلة بخلق فضاء مدني سواء داخل المدرسة المغربية أو في المجتمع المغربي بشكل عام. 2)- في أولوية تجاوز التصور السلبي للمواطنة تجدُرُ الإشارة, بداية, إلى أن كل المقاربات التربوية التي ذهبت إلى فرض واجب قانوني يلزم الناشئة بالتحلي بالفضائل المدنية قد أثبتت فشلها, إذ يعسر كيف يمكن أن يتبنى المواطنون هذه الفضائل بواسطة القوانين؛ وهذا يفرض ضرورة التعاقد على نظام تربوي جديد يسمح بفتح الآفاق الفكرية للأجيال الصاعدة وبتعويدهم على إدراك المصالح الإنسانية الثاوية وراء الظروف الشخصية وتنبيههم إلى أهمية المشاغل العامة, وترسيخ لديهم قيم حداثية أصيلة قِوامُها التقيد بأخلاقيات العمل النبيل والمنتج, والالتزام بقيم حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية فذلك هو السبيل لجعل مدارسنا منابت حقيقية لفضائل المواطنة. إن المقاربة القانونية للمواطنة أفقدتها غناها الإنساني, مما ترتب عنه تكريس تصور سلبي عن المواطنة؛ تصور يُحْصِر معناها في منطوق عبارة «الحق في أن يكون لي حقوق» كما يظن أغلب ناشئتنا, حيث يميلون للحديث عن الحقوق عند تناول مفهوم المواطنة أكثر مما هم مستعدين لإبراز دور المسؤوليات وأهمية المشاركة بفعالية في إدارة المجال العام؛ إذ يتزايد تدريجيا هذا التصور السلبي للمواطنة لدى ناشئتنا داخل المدارس من خلال تشديدهم على الحقوق الفردية مقابل التجاهل التام للالتزامات والواجبات الجماعية, ذلك أن تمثلهم لمفهوم المواطنة يتشكل استنادا إلى منظور النزعة الفردانية حيث ينظر للمواطنة باعتبارها تفيد أن للفرد- المواطن حقوق ينبغي على الدولة أن توفر له الوسائل المادية والفكرية التي تمكنه من ممارستها والتمتع بها, يقف هذا التمثل عند الدلالة القانونية للمواطنة دون أن يستحضر معناها الاجتماعي والسياسي بوصفها محددا لنوعية الروابط الاجتماعية, وباعتبارها سبيل التأسيس لثقافة الوجود المشترك وأداة بناء لعالم الوجود مع الآخرين. إن التأسيس للتربية على المواطنة يقتضي أولا الانفلات من قبضة هذا التصور السلبي للمواطنة وتجاوزه بما يجعل هذه التربية لا تنشد التأكيد فقط على الحقوق الفردية الخالصة وإنما تركز على دعم الروابط الاجتماعية, ذلك أن حقوق الفرد مرتبطة بواجباته تجاه المجتمع؛ ومن تم بناء العلاقات بين المواطنين بوصفها حصيلة تعاقدات مجتمعية تنص على تمثل روح الجماعة وعلى الالتزام والمصادقة على الواجبات المجتمعية إلى جانب ضمان التمتع بالحقوق الفردية, مع ضرورة أن لا يتحدد أساس علاقات المواطنة على مبدأ تقاسم نفس التعاليم الدينية ولا على القرابة حول نفس النسب. فبدون تمكين الفرد-المواطن أولا من القدرة على الانفلات من قبضة الانشغال بأوهامه الفردية وحقوقه الخاصة والتي تجعله عاجزا على اعتبار ما هو حق له هو بمثابة حق للآخرين أيضا, ثم تمكينه ثانيا من الوسائل لتجاوز قبضة قيوده العرقية الخاصة, على الأقل جزئيا, لينخرط بشكل إنساني في عملية تواصل مع الغير؛ وأخيرا مساعدته على تقويض المحددات التي تُخنْدِقه داخل ثقافة ومصير مفروضين عليه منذ ولادته, وعلى التحرر من الأدوار المحددة له سلفا ؛ بدون ذلك لا نستطيع بناء تصور إيجابي عن المواطنة لدى الناشئة كما لا نتمكن من تحفيزهم على الإبداع والإنتاج وبالتالي المساهمة في خلق فضاء مجتمعي مدني متماسك ومتضامن على أساس أخلاقيات التواصل والتفاهم والتعايش وعلى مبادئ الاستحقاق والثقة وعلى قيم ثقافة الحقوق والكرامة الإنسانية. 3)- في ضرورة تأهيل الوعي الديمقراطي والحداثي لدى الناشئة لا سبيل إذن لبناء منظومة قيمية أصيلة ما لم يتم الإيمان بوظيفة التربية والتعليم ودورهما في ترسيخ قيم المواطنة؛ «فالتربية – تؤكد دومينيك شنابر- ينبغي أن تكون في قلب المشروع المجتمعي الديمقراطي. بفضلها يمتلك المواطنون الوسائل الضرورية التي تؤهلهم للممارسة الفعلية لحقوقهم. فهذا ما يؤسس السند الفكري للمدرسة ولدورها في مجتمع المواطنين: يجب أن تمنحهم جميع الكفايات الضرورية للانخراط الفعلي داخل الحياة العامة»؛ غير أن ما نشهده داخل فضاءات المجال العام والمدرسي على الخصوص بالمغرب من سيادة لثقافة الاستهتار بالواجبات المجتمعية وغياب لقيم حقوق الإنسان وعدم الاعتقاد بجدوى قيم الاستحقاق والمساواة والتضامن وغيرها من الغايات الأخلاقية الإنسانية, يفرض أولوية إعادة تصحيح المسار التربوي بما يمكن التربية والتعليم من القيام بالدور المنوط بهما والمتمثل في «تكوين المواطن المستنير المتشبع بالأفكار الحديثة, وبروح المواطنة, أي خلق الإنسان الجديد... المتحرر من الوصاية الدينية» وغيرها من أشكال الوصايات الدوغمائية والتي تكبِّل الفكر وتعيق انفتاح أُفُقِه, خاصة وأن التعليم عندنا – يؤكد الباحث المغربي علي أومليل- «لم يعد – إلاّ في حدود – وسيلة لتجديد النخب, بل (إنه أصبح) لتجديد التفاوت الاجتماعي والتوارث الطبقي للسلطة والثروة... وبدل أن يكون وسيلة لنشر الديمقراطية أصبح يكرِّس وضعا غير ديمقراطي, وأيضا بدل أن يكون وسيلة للتربية العمومية على الحداثة, أصبحت الحداثة شأن أقلية مجتمعية هي وحدها تستطيع الدخول بها في عالم اليوم, وهذا ما يفسر ضعف القاعدة الاجتماعية للحداثة» لقد ابتعدت التربية والتعليم على أداء المهام الموكولة لهما, مما ترتب عنه افتقاد الناشئة المغربية لتربية اجتماعية وأخلاقية سليمة. إن فشل التنشئة الاجتماعية بالمغرب يتمظهر في حالة من «التيه الأخلاقي» التي يعرفها المجتمع المغربي خاصة بعد هيمنة النزوعات الطبيعية والأوهام الذاتية على أفراده وانحسار قيم التضامن الاجتماعي وأخلاقيات التفاهم المشترك داخل مجالاته العامة, بل إن هذه التنشئة أصبحت عاملا مساهما في نشر الانغلاق والتمركز حول الذات بدل الانفتاح والتطلع نحو الغير, ومحفزا على جلب المنفعة الخاصة والآنية بدل خدمة الصالح العام, ومدافعا على جدوى القيم التجارية عوض التأكيد على مردودية قيم ثقافة حقوق الإنسان وأخلاقيات المواطنة؛ ولذلك, فتصحيح مسارالتنشئة الاجتماعية للأجيال الصاعدة رهين بتقويض وتفكيك جمود البنيات التقليدية المؤسسة للأوهام الفردية والمحافظة على ثقافة الانغلاق وهو ما لا يحصل إلا باعتماد آليات إجرائية كفيلة بأن تجعل الفعل التربوي داخل المجال المدرسي قائما على «المساواة في الحقوق والمواطنة» وبأن تمكن العملية التعليمية من أن تصبح سبيل بناء التقدم الذي يضمن تحقيق «حرية الفرد وبناء النظام الاجتماعي والسياسي على تعاقد حر بين أفراده, وأيضا حرية الفكر والعقيدة,... التقدم ارتقاء بالذوق والوجدان بفضل رقي الآداب والفنون.. التقدم هو قوة الأمم التي تمتلك هذا كله وتتفوق به عن غيرها». إنه بالحرص على أن نتجه بالعملية التعليمية وبالفعل التربوي صوب ترسيخ قيم الكرامة الإنسانية والفضائل المدنية, يمكن أن نجعل التربية «وسيلة أساسية لكل هذا التقدم والاستمرارية فيه... إن التعليم إذن ينبغي يكون تربية على الديمقراطية لضمان رسوخها في العقليات والعادات وتكوين الضمانة الأساسية لاستمرارها, وهو الإنسان الواعي بحقوقه وحرياته, والمحصن من القابلية للاستبداد. ومجانية التعليم توسيع للقاعدة الاجتماعية للديمقراطية, وفسح المجال لحراك اجتماعي ضدا على التفاوتات الذي تثبته بنيات اجتماعية منغلقة. ومجانية التعليم إقرار للمساواة في المواطنة. غاية التربية والتعليم إذن نشر أفكار التقدم والوعي بالديمقراطية». 4)- في مكانة ودور الرأسمال الاجتماعي للتربية على المواطنة لقد فقد التصور التقنوي جاذبيته, خاصة وأنه يُحْصِر دور المدرسة فقط في تمكين الأجيال من المعارف وتعليمهم بعض أشكال التقنيات بدعوى أن ذلك يمثل «الوصفة» السريعة والسهلة للإنتاج في مجالات الاقتصاد والإدارة..؛ بل إنه يجعل هاجس الناشئة مُقْتصِرا على امتلاك رأسمال معرفي وتلقي تطبيقات مهنية لكونهما, وفق هذا التصور, يسمحان للأفراد من التوفر على فرص وإمكانيات المساهمة في الإنتاج, لدرجة اِفْتقدت معها هذه الناشئة لأي من أخلاقيات العمل الإنساني المبدع مع ما يستلزمه من اتساع الأفق الفكري المحفز على الابتكار وما يستدعيه من غِنىً للرصيد الإنساني المؤسس على الالتزام بقيم الاستحقاق وتحمل المسؤولية الأخلاقية بُغية المشاركة في بناء مجتمع منخرط في العالم ومساهم في إرساء صرح القيم الإنسانية الكونية وفي تحقيق التقدم الكمي والكيفي-الأخلاقي على السواء؛ لم تعد ناشئتنا تؤمن بجدوى الرصيد القيمي في عالم اليوم, هذا إذا لم تعتبره معيقا لمسايرة مجريات الاقتصاد المعولم, ولذلك لا تُكلِّف نفسها عناء الالتزام بالقيم وبأخلاقيات العمل الإنساني. لقد اجتاحت فضاءات المدرسة المغربية إيديولوجية تحصيل «النقطة الأعلى» و»المعدل الأكبر» في مختلف التخصصات المعرفية خاصة التقنية منها بدعوى مردوديتها على مستوى الإنتاج دون المبالاة بأهمية اكتساب قيم اجتماعية أصيلة مصاحبة لذلك الرأسمال المعرفي. ولذلك ترتب عن تبني المقاربة التقنوية لأدوار المدرسة المغربية تخلي هذه الأخيرة عن القيام بكل مهامها, مما يفرض ضرورة البحث عن سبل لتمكين المدرسة من أن تتكفل بتعليم الأجيال الصاعدة على التشبت بالفضائل الإنسانية وعلى اكتساب أخلاقيات العمل النبيل, إلى جانب تحصيل الرأسمال المعرفي. فاستنادا إلى دراسة نشرها الباحث الأمريكي فوكوياما في كتاب له بعنوان «الثقة», يورد الدكتور علي أومليل, أن أهم ما يجب على المدارس أن تتكفل بتلقينه للناشئة هو تزويدهم برأسمال اجتماعي إلى جانب الرأسمال البشري. يقول أومليل: «إذا كانت المدارس والمعاهد والجامعات تتكفل بتكوين الرأسمال البشري بهدف إعداد الناشئة في مختلف ميادين المعارف والمهن والتخصصات وتأهيلهم .. ليصبحوا مُنتجين في مجال الاقتصاد والخدمات والمهن والإدارة..» فإنه يجب على هذه المؤسسات التربوية أن تتكفل أيضا بتزويد الناشئة برصيد الرأسمال الاجتماعي, أي رصيد القيم والأخلاقيات التي يُتوافق عليها في المجتمع ويُتعامل بها في العلاقات والمعاملات, وهي القيم التي تؤكد «قابلية الناس أن يعملوا معا من أجل أهداف مشتركة كجماعات وتنظيمات»؛ إذ لن يكون الأفراد – يؤكد علي أومليل – «حقيقة منتجين ما لم يكن مجتمعهم قد تواطأ على قيم اجتماعية من ثقة في التعامل والتزام بالتعاقد ووجود بيئة اجتماعية تُتيح تدفق المعلومات وأخلاقيات العمل والجدّ في إتقانه, وهذا كلّه رأسمال اجتماعي يأتي من التربية التي توفرها الأسرة والمدرسة ومن رصيد القيم والسلوك في المجتمع» . إن الإيمان بمردودية الرأسمال الاجتماعي وأهميته بالنسبة لقيم الفرد وبالنسبة للمنظومة الأخلاقية المجتمعية, باعتباره أساس تحسين شروط العيش الإنساني وتحقيق سمو الوجودين الذاتي والمجتمعي للأفراد, يستدعي ضرورة غرس صفات وطبائع مدنية في المواطنين وتربيتهم على قيم المواطنة وأخلاقيات التواصل والتفاهم الإنسانيين وهذا ما يؤكد ضرورة وأولوية التعاقد حول برنامج إجرائي فعال ومتمحور حول فعل التربية على المواطنة. 5)- في ضرورة تنشئة التلاميذ على أخلاقيات التفاعل النقدي وخلق روابط التفاهم والتعايش إلى جانب دورها المتمثل في تمكين الناشئة من تشكيل تصور إيجابي عن المواطنة ومن تحصيل وعي ديمقراطي واكتساب رأسمال اجتماعي مصاحب للرأسمال المعرفي, فإن نجاح المدرسة في القيام بكامل وظيفتها وبالتالي تنشئة الأفراد على التربية على المواطنة رهين ببناء منظومة تربوية على أساس تعليم التلاميذ ما يسميه (كيمليشكا) ب «أخلاقيات التفاعل النقدي المُحدِّد للمطالب المعقولة» ومساعدتهم على الانخراط في «العمل النقدي وفق وجهة أخلاقية تتحدد من خلال التعقلية العمومية وروح التحضر» ويقصد بذلك تعليم الناشئة أن الاختلاف بل والخلاف أمر معقول, فمن لا يشارك الفرد الرأي أو الاختيار لا يعدُّ فاسد الرأي, فهناك أناس يختلفون مع أنهم متعقلين ولائقين وإنسانيين؛ فتعلم التعقل العمومي والاتِّصاف بروح التحضر يعني الانفتاح والتعاطف وبالتالي الانفلات من خَنْدَقة الانتماءات الجنسية أو العرقية أو العشائرية أو القبلية أو الطائفية, والانفلات من قبضة الأوهام الذاتية والمصالح والمنافع الفردية الضيقة, بل ونقدها بما يجعلها معقولة ومقبولة مجتمعيا. إن تجاوز المنظور التقني في التفاعل الناتج عن اتصالات قائمة على شبكة من الوسائل التقنية يقتضي تمكين الأفراد من تحصيل أخلاقيات التفاعل النقدي, فبدون هذه الأخلاقيات لا يمكن خلق روابط إنسانية على أساس الفهم والتفاهم؛ ذلك أن الاتصال التقني لا يأتي بالضرورة بالفهم والتفاهم الذي تفتقده العلاقات الإنسانية اليوم كما يؤكد ذلك الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بل قد «تمثل وسائل الاتصال مصدر انعزال» على حدِّ تعبير هوركهايمر وأدورنو في كتابهما «ديالكتيك العقل». ولذلك, فبالرغم من التزايد السريع لوسائل الاتصال ولقنوات التواصل داخل المجتمع المغربي فإن العلاقات المجتمعية بين أفراده تظل في حاجة إلى روابط التفاهم والتضامن لتجاوز أشكال سوء الفهم وما يترتب عنها من تجريم الآخرين وتحميلهم مسؤولية كل الأخطاء بل إضفاء عليهم مظاهر الحقد والعداوة بعد نزع عنهم مظاهر التعاطف والإحساس الإنسانيين. إن التربية على المواطنة لا تقف عند ربط أشكال الاتصال والتواصل بل تقتضي خلق آليات لتحقيق التفاهم والتضامن والتعاطف والتعايش, إنها تربية على الفهم باعتبار أن «التفاهم بين البشر, بغض النظر عن كونهم أقرباء أو غرباء عن بعضهم البعض, أصبح أمرا حيويا لكي تتحرر العلاقات الإنسانية من الوضعية الوحشية التي يسبب فيها اللاتفاهم.»(23) ينبغي إذن على التربية والتعليم أن يفضيا إلى ما يسميه موران إلى «أنتروبو- أخلاقية من خلال الأخذ بعين الاعتبار الطابع الثلاثي الأبعاد للشرط الإنساني, أي كونه, في الوقت ذاته, الفرد- المجتمع- النوع.» من هنا ضرورة أن تحرص المؤسسة التربوية على «ترسيخ الأخلاق في العقول عبر تعليم الوعي بكون الإنسان هو في الوقت ذاته فرد وجزء من مجتمع وجزء من نوع. إن كل واحد منا يحمل داخله هذا الواقع الثلاثي الأبعاد», خاصة وأن أفضل تقدم يمكن أن يحققه الأفراد والمجتمعات يكمن في «تطوير انواع استقلالية الفرد والمساهمات الجماعية والوعي بالانتماء وللنوع البشري.». إن التربية على المواطنة بوصفها تنشئة على أخلاقيات التفاعل النقدي وسبيل لخلق وبناء آليات للتفاهم الإنساني تمكن الأفراد منالتحرر من قيودهم الذاتية ومن نزع كل أنواع الولاءات والتحيزات سواء للذات الفردانية أو للفئة أو لروابط النسب أو للمذاهب العقائدية وإحلال محلها روابط المواطنة لا القانونية فقط وإنما الاجتماعية والسياسية «يجب على التعليم – يؤكد موران- أن يساهم ليس فقط في بناء الوعي بالأرض-الوطن ولكن أن يسمح أيضا بترجمة هذا الوعي في إرادة تضع هدفا لها تحقيق المواطنة الأرضية.» إن المدرسة المغربية في حاجة أساسية إلى التعاقد حول مضامين تربوية كفيلة بترجمة قيم التربية على المواطنة وأخلاقياتها على مستوى الممارسة داخل فضاءات الحياة المدرسية بعد ترسيخها على مستوى البنيات الذهنية والفكرية لدى الناشئة. إن واقع حال مؤسساتنا التعليمية وطبيعة سلوكات ناشئتنا يعكس وجود هوة سحيقة تفصل بين النسق الأخلاقي الذي يحكم تصرفات الأجيال الصاعدة ويؤطر تعاقداتهم والتزاماتهم المجتمعية وبين قيم ثقافة حقوق وكرامة الإنسان وأخلاقيات التفاهم والتعاطف والمساواة والتفاعل النقدي والعمل المبدع بما يستلزمه من ضوابط الاستحقاق والثقة وتمثل الواجبات المجتمعية وغيرها من القيم والأخلاقيات التي تستدعيها التربية على المواطنة. إنه بدون الحرص على تجديد أسس الفعل التربوي و تحيين مقومات العملية التعليمية التعلمية بما يجعلهما متمحوران حول قيم المواطنة ستظل المدرسة المغربية عاجزة عن القيام بكامل مسؤولياتها لبناء مشروع مجتمعي ديمقراطي وحداثي يتمتع أفراده بحقوقهم الإنسانية ويلتزمون بواجباتهم المجتمعية الكفيلة بتحسين الوجودين الفردي والمجتمعي؛ نخلص –وكما تذهب إلى ذلك أيضا دومينيك شنابر في كتابها «ما المواطنة؟» إلى «أنه ينبغي التأكيد على أن للمدرسة وظيفة مزدوجة؛ فمن جهة, واستنادا إلى المحتوى التعليمي, تتمكن المدرسة من تعليم اللغة والثقافة والإيديولوجية الوطنية والذاكرة التاريخية المشتركة. فأولئك الذين يتعلمون في نفس المدرسة يتقاسمون ليس فقط نفس اللغة ولكن أيضا مجموع المعارف والمكتسبات الصريحة والضمنية؛ ومن جهة أخرى, وربما الأكثر أهمية, تحرص المدرسة على تشكيل فضاء مشابه لصورة المجتمع السياسي ذاته. ففي المدرسة يعامل التلاميذ بكيفية متساوية كيفما كانت أنسابهم التاريخية, وانتماءاتهم الدينية, وأصولهم الاجتماعية. إنها مكان, بالمعنى المشخص والمجرد للفظ, قد تم تشييده ضد أشكال اللامساواة الواقعية في الحياة الاجتماعية, ومن أجل مساندة ودعم بناء صرح المجتمع المدني. فنظام المدرسة إذن شبيه بنظام المواطنة. فهو مثل المواطنة يتخذ شكلا لاشخصيا وصوريا. فالطابع المجرد للفضاء المدرسي يسهر على تكوِين الطفل حتى يتمكن من فهم واستيعاب الشكل المجرد للمجتمع السياسي.».