تشكل المدرسة باعتبارها مؤسسة تربوية فضاء اجتماعيا للتنشئة والتربية والتكوين، وهي بذلك مجال لإنتاج القيم الأخلاقية واستدماجها ومجال لممارسة فردية وجماعية ذات بعد قيمي حاسم في ترسيخ سلوكات أخلاقية تصب في الحياة الاجتماعية، ومن ثم أضحى لزاما على المؤسسة التربوية، أن تجسد قيم المجتمع وأن تساهم في الارتقاء بها، وفي بناء قدرات التمحيص والنقد والاختيار العقلاني المسؤول لدى الناشئة بلوغا للمواقف الأخلاقية الإيجابية. في سياق تنامي الوعي بهذه الوظيفة الأخلاقية للمؤسسة المدرسية، واعتبارا للموقع المركزي الذي يتبوؤه العنصر البشري داخل هذه المؤسسة، تم إضفاء الطابع المؤسسي على التعامل مع البعد الأخلاقي والإتيكي داخل المنظومة التربوية من خلال إنشاء مرصد القيم بمبادرة من وزارة التربية الوطنية وذلك من خلال المذكرة رقم 88 المتعلقة بإرساء هياكل مرصد القيم مركزيا وجهويا ومحليا. تعريف القيم: تنهض منظومة القيم بدور أساس في الارتقاء بالسلوك الإنساني، وفي نسج علاقات اجتماعية يسودها الوئام والتعاون والممارسة الأخلاقية السليمة انطلاقا من القواعد والمعايير التي يضعها المجتمع، على اعتبار أن القيم ما هي إلا انعكاس للأسلوب الذي يفكر الأشخاص به في ثقافة معينة، وفي فترة زمنية معينة، كما أنها توجه سلوك الأفراد وأحكامهم واتجاهاتهم فيما يتصل بما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه من أشكال السلوك في ضوء ما يضعه المجتمع من قواعد ومعايير ؟!. ونتيجة لذلك ألقى المجتمع على عاتق المدرسة مسؤولية نشر القيم واستدماجها في أفق تكوين أجيال تلتزم بهذه القيم وتحاول تجسيدها من خلال سلوكات وممارسات فردية وجماعية. تحول نظام القيم: يخضع رهان تجديد العقد الأخلاقي للمنظومة التربوية لسياق يتسم بتحول نظام القيم نتيجة المتغيرات الآتية: - حدوث تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية على الصعيد الوطني والعالمي. - تزايد الاهتمام بمجال الحقوق والقيم باعتبارها ضرورة تربوية وحضارية، وشرطا لتجسيد المواطنة والديموقراطية. - انتشار مبادئ حقوق الإنسان، وبروز قيم جديدة تقوم على الحداثة والتنوع الثقافي والمواطنة الكونية. - ظهور العولمة وتطوير الإعلام فرضا على المجتمع المغربي قيما ومرجعيات جديدة. ولعل هذا التحول القيمي الذي يشهده المغرب هو ما أكده تقرير الخمسينية إذ يقول واضعو التقرير: «هناك تحول في مرجعية القيم ببلادنا، حيث تم الانتقال من مرحلة تتميز بما استأنس به المغاربة من تعايش بين القيم التقليدية التي تعرف تراجعا لحساب القيم الجديدة التي توجد في طور البروز والترسخ، فهل يتعلق الأمر بأزمة القيم أم ببوادر حداثة تترسخ ؟1». ترسيخ البعد الأخلاقي للمنظومة: صعوبات وتحديات: تعترض المدرسة صعوبات كثيرة تحول دون التطبيق السليم للتربية على القيم وتعزيز البعد الأخلاقي للمنظومة، إذ لا تزال المدرسة عاجزة عن نقل قيم الحقوق والواجبات والمواطنة المسؤولة ?بوصفها قيما ضرورية- لتحقيق اندماج اجتماعي فعلي للمتعلمين، كما تشهد على ذلك بعض المظاهر السلوكية والأخلاقية غير المدنية كالعنف والغش في الامتحانات وإتلاف المرافق المدرسية، علما أن تنمية القيم المدنية تعتبر مسؤولية مشتركة بين الأسرة والمجتمع. إن أزمة القيم أو تصدع منظومة الأخلاق تشكل حسب التقرير إحدى المحددات الخمسة لاختلالات المنظومة التربوية بالمغرب، وقد ألحق التقرير بنتائج استطلاع للرأي حظيت خلاله منظومة القيم ومبادئ المدرسين بمكانه هامة منها: قيم الضمير المهني والوعي بنبل المهنة والإخلاص والعطاء والاستقامة، وهو ما اعتبر في نظر المستجوبين بمثابة ميثاق قيم المدرسين، غير أن المفارقة تسجل فيما يخص تمثلات القيم والمبادئ التي توجه مهنة التدريس ومستويات احترامها من قبل المدرسين الذين يرون أن هناك التزاما نسبيا بقيم المهنة وأخلاقها، أما السلوك الأكثر إدانة من لدن المدرسين أنفسهم هو العقوبة البدنية داخل الفصل، الدروس الخصوصية والغياب غير المبرر وعدم انخراط المدرسين.. في حين اعتبرت اللامبالاة تجاه القيم غير المدنية سلوكا غير مرغوب فيه، كما صنف الغش وضعف انضباط التلاميذ من المشاكل التي يعاني منها المدرسون وتلامذتهم. ونتيجة لذلك، شكلت منظومة القيم حجر الزاوية في التصور الجديد للارتقاء بمهنة التدريس، إذ جعلت من الحقوق والواجبات المهنية المجال الثاني لتجديد قطاع التربية والتكوين. ومن بين الصعوبات الأخرى التي تعترض ترسيخ البعد الأخلاقي للمنظومة التربوية: - تحميل المدرسة وحدها تفعيل منظومة القيم وتغييب دور الأسرة والإعلام. - محدودية التجسيد الفعلي للقيم. - تضخيم الخطاب حول القيم وتراجع الممارسة. - موسمية البرامج الداعية إلى نشر القيم وتجسيدها. - انحصار دور التربية على القيم في التوجيهات الرسمية دون أن تصل إلى قلب الفصول الدراسية. الآليات الكفيلة بترسيخ البعد الأخلاقي للمنظومة التربوية. لا شك أن تعزيز البعد الأخلاقي للمنظومة، يتطلب سن تدابير وآليات يمكن حصرها في الآتي: - آلية الخطاب وذلك من خلال نقل القيم عبر المضامين وبرامج التكوين والأبحاث التربوية. - آلية القدوة من خلال سلوك المدرسين. - آلية الأنشطة الثقافية والرياضية. - آلية تسيير المؤسسات وتدبير مجالسها بشكل شفاف وديمقراطي2. - إعداد ميثاق أخلاقي لكل الفاعلين في المنظومة، يكون بمثابة الموجه للترسانة القانونية . غير أن مأسسة هذه الآليات يظل رهينا بانخراط الجميع: مدرسة - أسرة- إعلام- مجتمع. وبامتلاك وعي جماعي يثمن دور منظومة القيم في الرقي ببلادنا نحو الآفاق المنشودة. المهام الجديدة للمدرس»ة»: من الجلي أن منظومة القيم لا تترسخ فقط من خلال مهام المدرس ومتطلبات مهنة التدريس، وهو ما حاول تقرير المجلس الأعلى للتعليم استيقاءه في الجزء الرابع، فتلك المهام تتمثل داخل الفصل في نقل المعارف والمهارات ومناهج التعليم والقيم الوطنية والكونية وتطوير القدرات الشخصية لأكبر عدد من التلاميذ في أحسن الظروف، وبناء على ذلك فوظيفة المدرس يعكسها إسهامه في تربية المتعلمين اعتمادا على القيم الأخلاقية والإنسانية والحضارية التي يتقاسمها الجميع. ومن تم نتساءل إلى أي حد يستطيع المدرس الاضطلاع بمهامه الجديدة في ظل إكراهات عديدة مرتبطة بما يأتي؟: - هيمنة هاجس نقل المعارف على حساب نقل القيم والمواقف الإيجابية. - تسارع وثيرة التحولات الاجتماعية والثقافية وأنماط التفكير المرتبطة بالعولمة وما ينتج عنها من تبخيس القيم ونظم الأخلاق. - نمطية صورة المدرس لدى فئات المجتمع وتغذية الإعلام لها. - التركيز على الإعداد التربوي والمنهجي للمدرسين على حساب البعد الأخلاقي والإنساني الذي يعتبر خاصية من خاصيات فن التدريس، ذلك أن «مهنة التدريس تحتوي على عقد أخلاقي ليس بفعل تحمل مسؤولية الأطفال والشباب ولكن باعتبار أنها تنقل للتلاميذ قيما أخلاقية» ونتيجة لذلك ينبغي إعادة النظر في برامج تكوين المدرسين من خلال تخصيص مجزوءات تكوينية ذات علاقة بالتربية على القيم، وأخلاقيات المهنة «فإذا كان الانفجار المعرفي الذي أحدثته الثورة التكنولوجية، قد ألغى السلطة المعرفية للمدرس، فإنه في المقابل ألقى على عاتقه مسؤولية جسيمة تتمثل في حراسة منظومة القيم والسعي إلى ترسيخها بشكل يحفظ الهوية والخصوصية ويحسن مؤشر الانتماء». والجدير بالذكر أن التحديات التي تواجه المدرسة على المستوى القيمي والأخلاقي «تنبع من الخاصية الإشكالية للتربية على القيم المتمثلة في كون المنظومات القيمية والثقافية تشهد في العصر الراهن تحولات عميقة سواء في المجتمع المغربي أو غيره من بلدان العالم مما يسائل دور المدرسة في تنمية القيم المتقاسمة للمجتمع ومسؤولياتها في مواكبة التغيرات المجتمعية من خلال ترسيخ القيم الإنسانية المشتركة لدى الناشئة», إضافة إلى ذلك، فإن هذه التحديات تجعل مهنة التدريس من «المهن النادرة التي تتطلب فسيفساء من الخصائص الشخصية والقيمية، وهذا يفرض على المدرسين الاضطلاع ?بامتياز- بمسؤوليات أخلاقية وإنسانية». وفي الأخير، نود الإشارة إلى أهمية تعزيز البعد الأخلاقي لمنظومتنا التربوية في أفق تحصين ناشئتنا من كل الاختراقات الدخيلة والانحرافات الذاتية وتوجيههم نحو التجسيد الفعلي للقيم سلوكا وممارسة سواء أداخل المدرسة أم خارجها. وإذا كان ما ذكرناه سابقا يشير إلى صعوبات المهنة وتحديات المنظومة ويبرز المسؤوليات الأخلاقية التي تستدعيها، نتمنى - صادقين- أن نكون قد أبرزنا إلى أي حد يمكن لهذه المهنة أن تكون منارا للمعرفة والأخلاق، ومن ثم تكون مهنة نبيلة وجديرة بالاحترام بالنسبة لمن يمارسونها. مفتش تربوي نيابة الناظور