أضحى دور المدرسة المركزي في التربية على القيم يكتسي أهمية قصوى بالنظر الى التحول المجتمعي وتأثر منظومة القيم داخله، والى التحولات الكونية من الناحيتين الثقافية والاجتماعية،فالتحولات العميقة التي تطال حياة الأفراد والجماعات والدول بعالمنا المعاصر تثير إشكالية الثابت والمتغير في منظومة القيم، هذه التحولات تقودنا حتما الى مساءلة وظيفة المدرسة، ودورها الفاعل في تنمية وترسيخ السلوك المدني ، فهل ما تشهده الممارسة اليومية من سلوك لامدني دليل يكفي لإثارة الشك حيال نجاعة المقاربة المدرسية في الاضطلاع بمطلب التنشئة الاجتماعية وبناء السلوك المدني؟ولعل الهدف الأسمى الذي تسعى إليه التنشئة هو البناء الشخصي لذات المتعلم، فالتنشئة تعد الطفل لتمثل قيم مجتمعه والحفاظ عليها، ودور المدرسة يكمن في إكساب المتعلمين الثقافة الايجابية، فالمناهج الدراسية ترمي إلى إرساء وترسيخ القيم الايجابية لدى المتعلمين نحو ذواتهم ونحو الآخرين، والتاريخ والتراث ، عبر إنماء سلوك تقدير خبرات وتجارب الغير، والتفاعل معها واستثمارها في إطار التكامل الإنساني، وتمكين الفرد من القدرة على مساءلة الفكر، ونقد الثقافة بقصد تمثل ما هو إيجابي، فمعنى المدرسة يقوم على ترسيخ القيم النبيلة، وتمكين المتعلمين من مواجهة المشاكل الحقيقية، والقيام باختيارات مسؤولة، وتقديم أجوبة تتعلق بالمستقبل الشخصي والمهني للمتعلم. يثير موضوع تنمية السلوك المدني إشكالات عدة منها ما يتصل بواقع الممارسة الميدانية عنوانه تراجع الانضباط للواجب مرده البون الفاصل بينها وبين الخطاب حول القيم ، ومنها كذلك ما له علاقة بالأجراة البيداغوجية، وانتقاء الآليات الكفيلة بإرساء حقيقي وفعلي للسلوك المدني، وترسيخه على مستوى الحياة المدرسية وخارجها، وتعديل ممارسات المتعلمين وتصحيحها، وفق مقاربات متكاملة ومتدرجة، علاوة على التلاؤم المطلوب تحقيقه على صعيد المناهج والبرامج الدراسية وطرائق التدريس لضمان فاعليتها من أجل توطيد السلوك المدني. تؤدي المدرسة رهانا معرفيا من خلال ما تقدمه من معارف مدرسية، بيد أن عملها يتجاوز ذلك نحو تحفيز فكر المتعلم، وإقداره على المساءلة ،والتمحيص والنقد، وإثارة الشك داخل تفكير المتعلمين، وخلق وضعيات التفاعل السوسيومعرفي التي تتيح تعديل وجهات النظر، وتعديل التصورات والتمثلات، واستدماج أفكار جديدة، فتلك مقومات أساسية لكل تنشئة تأخذ في الحسبان التعلم والاشتغال المعرفي والوجداني،لم يعد القصد من التعلم هو تخزين أكبر عدد من المعارف، بل أضحى يخص تدريب المتعلم على قواعد التفكير، وتدبير الوضعيات المشكلة بإعمال الذهن، ومنحه حركية ودينامية أساسهما الذهاب والإياب في منظومة التفكير الخاصة به من أجل تفكيك وهدم ومعاودة البناء لما يتوفر عليه جهازه المعرفي من رأسمال رمزي. إن التربية على المواطنة وترسيخ السلوك المدني ليس معرفة تلقن، بقدرما هي نشاط ذاتي يتعهده الفرد/المتعلم بنفسه انطلاقا مما تخلقه له المدرسة من وضعيات تعلم حقيقية يكتسب من خلالها المتعلم قواعد التفكير les R?gles de raisonnement والتدبير الواعي للأنشطة الذهنية Gestion consciente des activit?s mentales، ومن خلال العمل بمبدأ المزاوجة بين نقل المعارف، والتكوين الهادف الى بناء الحكم عليها/ ومن خلال ترسيخ الفكر النقدي، وبين التربية على القيم والتكوين الهادف الى الحكم على تلك القيم. تعتبر الممارسة الفعلية السليمة من خلال الخبرات والتجارب اليومية داخل المدرسة، وفي غيرها من الفضاءات العامة، مدخل أساس لإكساب الطفل الكفايات القيمية النبيلة التي تجعله يمارس إنسانيته بوعي متحرر يمنحه القدرة على اقتراح مبادرات، وإنجاز مشاريع، باعتبارها أدوات للتواصل والإدماج المهني، وللتشبع بروح المواطنة، وهذا ما يجعل المدرسة تواجه تحديا حقيقيا له صلة وطيدة برهان تكافؤ الفرص وتحقيق المساواة في التحصيل والتكوين، فإذا كانت المدرسة معنية بتأسيس فعلها التربوي على ترسيخ القيم، فلا يمكن أن تتحقق ديمقراطية المعرفة العلمية إلا بالمعنى الذي تكون فيه تلك المعرفة ديمقراطية، وفي متناول أكبر عدد من الأفراد، ومهمة المدرس تصبح ذات معنى إذا كان منخرطا ومشاركا في إنتاج قيم لدى أطفال مؤسسة على إكسابهم ثقافة النقد، والتمحيص والمبادرة، وتفعيل المشاريع، وإبداء الرأي وتقدير الآخر. إن خيار التوافق المعمول به فيما يتعلق بمنظومة القيم في المدرسة المغربية تنجم عنه تأثيرات سلبية تجعل المدرسة فاقدة لتجانسها وفعاليتها من تجلياته التضارب القيمي الذي تحمله المقررات الدراسية على اختلافها، وإذا كان التوافق المذكور تمليه اعتبارات سياسية محضة، فإن انعكاسه في مجال التربية معناه تأجيل الحسم في إشكالية بناء المرجعية الفلسفية للمشروع التربوي ، وإيقاف كل الجهود الفكرية والتنازلات الممكنة لإعادة بناء فلسفة المنظومة التربوية وفق اختيارات محددة، ونتيجة لذلك يحصل نقل "تنازع القيم" الموجود في المجتمع إلى داخل المؤسسة التربوية. ويجعل استمرارغموض الغايات التربوية، وعدم وضوح السياسة التعليمية صياغة مشروع أخلاقي دقيق مهمة في غاية الصعوبة، فالحسم في مسألة المشروع الأخلاقي يبقى المدخل الاستراتيجي للاستجابة للمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية مع مراعاة شرط وضوحه وصلاحيته بخصوص مواصفات المتعلم الذي نريده، وانسجامه مع المعرفة وفق ما هو متعارف عليه داخل العلوم الإنسانية، علاوة على توفير الشروط والإمكانات الضرورية لبلوغ الأهداف المرسومة. على سبيل الختم، من الإنصاف القول أن تشخيصا أوليا لواقع السلوك المدني داخل المؤسسات التعليمية يقود إلى نتيجتين: تثمين الحصيلة الإيجابية وتقدير المكتسبات في مجال التربية على القيم وحقوق الانسان من جهة، وإدراك جسامة التحدي الذي يصاحب إثارة هذا الموضوع باعتباره انشغالا دائما للمدرسة المغربية يحتاج إلى تفكير وبحث متجددين من جهة ثانية،بيد أنه في حال لم تستطع المدرسة كسب الرهان وتداركه عبر تقليص الهوة بين الخطاب والممارسة ، فإن المجتمع سيكون عرضة لشتى أشكال العنف والتطرف والاغتراب. *مفتش تربوي، نيابة تنغير.