من المؤكد أن الاضطرابات التي تطال السلوك المدني للمتعلمين باتت تمثل مشكلة اجتماعية حقيقية تحتاج إلى كثير من البحث والدراسة والتقصي، وأيضا لكثير من التأمل والتأني والوعي والاستعانة بما توصلت إليه مختلف العلوم الإنسانية في هذا المجال، من تقنيات وأساليب للكشف عن مختلف الجوانب المتعلقة بهذه المشكلة. وإذا كانت الأبحاث والدراسات قد وفرت للباحثين إنتاجا غزيرا حول موضوع المواطنة والسلوك المدني ، محققة بذلك زخما نظريا هاما يستجلي كل الجوانب المرتبطة بهذه الظاهرة، طارحة بذلك عددا من الاجتهادات الفكرية المتمحورة أساسا حول دراسة وتفسير الأسباب والدوافع النفسية والاجتماعية والثقافية لهذه الظاهرة، فإنه مع ذلك لا يزال أمام البحث والدراسة مجال واسع لتسليط الضوء على الآليات والمقاربات البيداغوجية الكفيلة بأجرأة الخطاب المتعلق بقيم المواطنة والسلوك المدني، وتحويله إلى قناعة فكرية، وإلى التزام ينعكس بالإيجاب على سلوكيات المتعلمين ومعاملاتهم ، خاصة في ظل التحولات الاجتماعية الجارية على مختلف الأصعدة. تحديد المفهوم: السلوك المدني مفهوم مركب من مكونين يحيلان على الأخلاق والإيتيقا، وعلى التمدن كحالة مجتمعية سمتها التحضر، وينطوي المفهوم على حمولة سياسية وثقافية ، وتؤطره منظومة أخلاقية محددة وضوابط قانونية معينة، وهذا يمنحه أبعادا متعددة: أخلاقية، اجتماعية، قانونية ، تربوية..، ويندرج هذا المفهوم ضمن شبكة مفاهيمية واسعة تتعدد في إطارها الدلالات ، بيد أن هذا التعدد الذي تسنده حقول واسعة مثل القانون والأخلاق وقواعد السلوك وأنماط التربية ، من شأنه وبصورة مزدوجة: أن يسهم وبخصوبة في تحديد المفهوم نظريا من جهة، وأن يجعل تحديده على صعيد الممارسة أمرا صعبا من جهة ثانية، غير أن الاقتراب من المفهوم وملامسته من منظور تربوي يقتضي تعيين عمليات تتصل بترسيخ مبادئ المجتمع وقيمه، وجعلها منفتحة على القيم الكونية، ومعرفة المؤسسات والقواعد والالتزام بها، والوعي بالتفكير الحر والنقدي، وقبول الآخر، واحترام حق الاختلاف، والاقتناع بفضيلة الحوار والتواصل. إن مشاريع إصلاح قطاع التربية والتكوين ببلادنا ، والمكتسبات المتحققة في مجال التربية على المواطنة وحقوق الانسان لم تحل دون الاحتفاظ براهنية سؤال المدرسة ودورها في تنمية السلوك المدني قياسا الى تنامي مظاهر السلوكات اللامدنية في فضاءات مؤسساتنا التعليمية، ومنها ظاهرتي العنف والغش بشتى تجلياتهما، وثقافة التخريب وإلحاق الضرر بالمرفق العام وبالبيئة، والتمرد عن القوانين التنظيمية، وعدم الانضباط لقواعد التدبير الإداري والقرارات الصادرة عنه، فلماذا تواجه المدرسة المغربية تعثرا في تأدية دورها الطبيعي في إنماء السلوك المدني؟ هل التحول العميق الذي تشهده الأنساق القيمية والثقافية وطنيا وكونيا يفوق من حيث وثيرته وحجمه جهود المدرسة بوصفها فاعلا أساسيا لاستيعاب التحول الذي تعرفه منظومة القيم؟ هل تعزى بعض السلوكات اللامدنية إلى الاكراهات التي حالت دون أداء المدرسة لوظيفتها التربوية أم الى الاختلالات المرتبطة بوظائف بعض بنيات المجتمع ومؤسساته؟ هل التنافر بين القيم التي تنشرها وتسيدها مؤسسات التنشئة ، ومنها وسائل الاعلام بصفة خاصة يقلل من فاعلية مجهودات المؤسسة المدرسية في إرساء السلوك المدني وتنميته؟ يندرج إنماء السلوك المدني ضمن الأدوار الطبيعية المنوطة بالمدرسة، بالنظر إلى تشعب أبعاد هذا السلوك، وتعدد تجلياته التربوية والاجتماعية والاخلاقية والقانونية، فالمدرسة قياسا الى وظائفها المحورية ذات الصلة بالتعلم والتكوين والتنشئة مؤسسة مؤهلة أكثر من غيرها للتربية على السلوك المدني باعتبارها فضاءا يجسد مظاهر هذا السلوك وينشرها، ويسعى في الآن نفسه الى اجتثات المظاهر اللامدنية المنافية للسلوك القويم، ومن ثم فتأهيل المدرسة للقيام بدورها الاستراتيجي من أجل إنماء السلوك المدني تفرضه اعتبارات عدة منها واجب ترسيخ قيم المواطنة وإشاعة السلوك المدني من منظور اجتماعي محايث لاشتغال الافراد والمؤسسات وممارسة المهام في ظل واقع متغير من حيث نظمه القيمية والثقافية عبر العالم من جهة، وكذا حاجة المجتمع الى التعبئة الشاملة من أجل إعمال السلوكات الإيجابية، وهذا بدوره ينبع من صميم الوظيفة الدينامية للمدرسة كفضاء للتعلم والمواطنة يراهن عليه لتقديم إجابات عملية لأسئلة لصيقة بقيم المواطنة والسلوك المدني تطرحها الممارسة الفعلية باستمرار. يتأسس الفعل التربوي للمدرسة على ترسيخ القيم، بوصفها (أي المدرسة) منبرا لخلق فكر حر ، وترسيخ تفكير نقدي ، وتقدير المسؤولية ، وممارستها واحترام الاخر ، فتقدير الذات يبدأ بتقدير الآخر، وذاك جسر لترسيخ قيم الديمقراطية في حياة المتعلم وسلوكه، فالتربية على المواطنة تغذي العقول بقيم إيجابية. ويحيلنا الهدف التربوي: بناء مواطن منفتح، معتز بهويته، مشبع بثقافة الحوار والتواصل بالضرورة على عملية بالغة التعقيد كونها مسؤولية مجتمعية مشتركة تساهم بها كل من موقعه مختلف مؤسسات المجتمع المهتمة بالتنشئة الكامنة في انتاج القيم، ومعايير السلوك وضمان استمرارها . وتقع المؤسسة المدرسية في طليعة مؤسسات التنشئة باعتبارها فضاء يراهن عليه المجتمع لإنتاج الحصانة والمناعة الثقافيتين بقصد حماية الذات الاجتماعية من شبح الاختراق الثقافي الذي تسيده العولمة ، وهذا ما يسميه "إدغار موران" بلحظة "الفهم الانساني"، فالقيم هي الأصل في العملية التربوية، وهي الركيزة الرئيس للسياسة التعليمية، والموجه لغايات التربية، فالمصدر الأساس للأهداف التربوية ليس المجتمع، أو المتعلم، أو حتى المادة المدرسة، والقيم هي التي تتحكم في جميع مراحل العملية التعليمية، فأزمة التربية كما يرى "روجي غارودي" من أزمة القيم، وأول نتيجة لتطور العلم والتكنولوجيا هي التأكيد على ضرورة التربية، حيث لا يمكن تكوين مواطنين بصفات مجتمع حديث إذا لم نبلغ مستوى كاف ومعقول من التربية، ومن مهام المؤسسة المدرسية تحقيق الإدماج الاجتماعي عبر التنشئة التي تقوم بها بغية تمكين الفرد/المتعلم من استبطان القيم الاجتماعية والثقافية السائدة في محيطه بما فيها من مفاهيم وعادات وتقاليد...، ومن ثم يتحول الفرد/ المتعلم إلى كائن اجتماعي/ مواطن حامل لقيم المجتمع ومعاييره ولغته، ومن شأن ما تحقق من مكتسبات في هذا المضمار أن يؤطر تفكير الفرد، ويوجه سلوكه في إطار البناء الاجتماعي الذي تتعهده المدرسة بجانب المؤسسات الموازية التي تضطلع بمهام التربية. أضحى دور المدرسة المركزي في التربية على القيم يكتسي أهمية قصوى بالنظر الى التحول المجتمعي وتأثر منظومة القيم داخله، والى التحولات الكونية من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، فالتحولات العميقة التي تطال حياة الأفراد والجماعات والدول بعالمنا المعاصر تثير إشكالية الثابت والمتغير في منظومة القيم، هذه التحولات تقودنا حتما الى مساءلة وظيفة المدرسة، ودورها الفاعل في تنمية وترسيخ السلوك المدني ، فهل ما تشهده الممارسة اليومية من سلوك لامدني دليل يكفي لإثارة الشك حيال نجاعة المقاربة المدرسية في الاضطلاع بمطلب التنشئة الاجتماعية وبناء السلوك المدني؟ ولعل الهدف الأسمى الذي تسعى إليه التنشئة هو البناء الشخصي لذات المتعلم، فالتنشئة تعد الطفل لتمثل قيم مجتمعه والحفاظ عليها، ودور المدرسة يكمن في إكساب المتعلمين الثقافة الايجابية، فالمناهج الدراسية ترمي الى إرساء وترسيخ القيم الايجابية لدى المتعلمين نحو ذواتهم ونحو الآخرين، والتاريخ والتراث ، عبر إنماء سلوك تقدير خبرات وتجارب الغير، والتفاعل معها واستثمارها في إطار التكامل الانساني، وتمكين الفرد من القدرة على مساءلة الفكر، ونقد الثقافة بقصد تمثل ما هو إيجابي، فمعنى المدرسة يقوم على ترسيخ القيم النبيلة، وتمكين المتعلمين من مواجهة المشاكل الحقيقية، والقيام باختيارات مسؤولة، وتقديم أجوبة تتعلق بالمستقبل الشخصي والمهني للمتعلم. يثير موضوع تنمية السلوك المدني إشكالات عدة منها ما يتصل بواقع الممارسة الميدانية عنوانه تراجع الانضباط للواجب مرده البون الفاصل بينها وبين الخطاب حول القيم ، ومنها كذلك ما له علاقة بالأجراة البيداغوجية، وانتقاء الآليات الكفيلة بإرساء حقيقي وفعلي للسلوك المدني، وترسيخه على مستوى الحياة المدرسية وخارجها، وتعديل ممارسات المتعلمين وتصحيحها، وفق مقاربات متكاملة ومتدرجة، علاوة على التلاؤم المطلوب تحقيقه على صعيد المناهج والبرامج الدراسية وطرائق التدريس لضمان فاعليتها من أجل توطيد السلوك المدني. تؤدي المدرسة رهانا معرفيا من خلال ما تقدمه من معارف مدرسية، بيد أن عملها يتجاوز ذلك نحو تحفيز فكر المتعلم، وإقداره على المساءلة ، والتمحيص والنقد، وإثارة الشك داخل تفكير المتعلمين، وخلق وضعيات التفاعل السوسيومعرفي التي تتيح تعديل وجهات النظر، وتعديل التصورات والتمثلات، واستدماج أفكار جديدة، فتلك مقومات أساسية لكل تنشئة تأخذ في الحسبان التعلم والاشتغال المعرفي والوجداني، لم يعد القصد من التعلم هو تخزين أكبر عدد من المعارف، بل أضحى يخص تدريب المتعلم على قواعد التفكير، وتدبير الوضعيات المشكلة بإعمال الذهن، ومنحه حركية ودينامية أساسهما الذهاب والإياب في منظومة التفكير الخاصة به من أجل تفكيك وهدم ومعاودة البناء لما يتوفر عليه جهازه المعرفي من رأسمال رمزي. ليست المضامين المعرفية هدفا في حد ذاتها ، بل المهم هو توظيف هذه المعارف والاقتناع بها، واعتمادها مرجعية للسلوك وللتفاعل داخل الواقع الاجتماعي، وهذا ليس معناه أن فهم الظواهر أصبح عديم الجدوى، فتقنيات التواصل المتطورة وإن كانت تتيح إمكانيات هائلة لبلوغ المعارف ، فإن تفسير الظواهر يكتسي ضرورة ، وتربية المواطن ينبغي ألا تكون بقصد جعله أداة في خدمة قوة خارجية، وإنما لكي يتمكن من أخذ القرار الفردي والجماعي بخصوص كيفية استعمال مفهوم/قاعدة وتحديد الهدف وتقدير الامكانيات، ففي إطار تقدير الآخر وتثمين جهوده يبقى إدراك الحقيقة العلمية وحده غير مجد، دونما استيعاب الطريقة المتبعة في إنتاجها وفهمها. إن التربية على المواطنة وترسيخ السلوك المدني ليس معرفة تلقن، بقدر ما هي نشاط ذاتي يتعهده الفرد/المتعلم بنفسه انطلاقا مما تخلقه له المدرسة من وضعيات تعلم حقيقية يكتسب من خلالها المتعلم قواعد التفكير les Régles de raisonnement والتدبير الواعي للأنشطة الذهنية Gestion consciente des activités mentales، ومن خلال العمل بمبدأ المزاوجة بين نقل المعارف، والتكوين الهادف الى بناء الحكم عليها/ ومن خلال ترسيخ الفكر النقدي، وبين التربية على القيم والتكوين الهادف الى الحكم على تلك القيم. تعتبر الممارسة الفعلية السليمة من خلال الخبرات والتجارب اليومية داخل المدرسة، وفي غيرها من الفضاءات العامة، مدخل أساس لإكساب الطفل الكفايات القيمية النبيلة التي تجعله يمارس إنسانيته بوعي متحرر يمنحه القدرة على اقتراح مبادرات، وإنجاز مشاريع، باعتبارها أدوات للتواصل والإدماج المهني، وللتشبع بروح المواطنة، وهذا ما يجعل المدرسة تواجه تحديا حقيقيا له صلة وطيدة برهان تكافؤ الفرص وتحقيق المساواة في التحصيل والتكوين، فإذا كانت المدرسة معنية بتأسيس فعلها التربوي على ترسيخ القيم، فلا يمكن أن تتحقق ديمقراطية المعرفة العلمية إلا بالمعنى الذي تكون فيه تلك المعرفة ديمقراطية، وفي متناول أكبر عدد من الأفراد، ومهمة المدرس تصبح ذات معنى إذا كان منخرطا ومشاركا في إنتاج قيم لدى أطفال مؤسسة على إكسابهم ثقافة النقد، والتمحيص والمبادرة، وتفعيل المشاريع، وإبداء الرأي وتقدير الآخر. إن خيار التوافق المعمول به فيما يتعلق بمنظومة القيم في المدرسة المغربية تنجم عنه تأثيرات سلبية تجعل المدرسة فاقدة لتجانسها وفعاليتها من تجلياته التضارب القيمي الذي تحمله المقررات الدراسية على اختلافها، وإذا كان التوافق المذكور تمليه اعتبارات سياسية محضة، فإن انعكاسه في مجال التربية معناه تأجيل الحسم في إشكالية بناء المرجعية الفلسفية للمشروع التربوي ، وإيقاف كل الجهود الفكرية والتنازلات الممكنة لإعادة بناء فلسفة المنظومة التربوية وفق اختيارات محددة، ونتيجة لذلك يحصل نقل "تنازع القيم" الموجود في المجتمع إلى داخل المؤسسة التربوية. ويجعل استمرار غموض الغايات التربوية، وعدم وضوح السياسة التعليمية صياغة مشروع أخلاقي دقيق مهمة في غاية الصعوبة، فالحسم في مسألة المشروع الأخلاقي يبقى المدخل الاستراتيجي للاستجابة للمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية مع مراعاة شرط وضوحه وصلاحيته بخصوص مواصفات المتعلم الذي نريده، وانسجامه مع المعرفة وفق ما هو متعارف عليه داخل العلوم الإنسانية، علاوة على توفير الشروط والإمكانات الضرورية لبلوغ الأهداف المرسومة. على سبيل الختم، من الإنصاف القول أن تشخيصا أوليا لواقع السلوك المدني داخل المؤسسات التعليمية يقود إلى نتيجتين: تثمين الحصيلة الإيجابية وتقدير المكتسبات في مجال التربية على القيم وحقوق الانسان من جهة، وإدراك جسامة التحدي الذي يصاحب إثارة هذا الموضوع باعتباره انشغالا دائما للمدرسة المغربية يحتاج إلى تفكير وبحث متجددين من جهة ثانية، بيد أنه في حال لم تستطع المدرسة كسب الرهان وتداركه عبر تقليص الهوة بين الخطاب والممارسة ، فإن المجتمع سيكون عرضة لشتى أشكال العنف والتطرف والاغتراب.