لن تتطور ديمقراطيتنا، و لن تكون رافعة لتحقيق تنمية وطننا، إلا إذا استطعنا أن نجد حلا هيكليا لمعضلة الوضع الذي أصبحت عليه التنظيمات الحزبية ببلادنا، من حيث الصورة السيئة التي أضحت لغالبيتها في أذهان الغالبية العظمى من المواطنين، و من حيث كونها تشكو من أمراض بالجملة تشل حركتها و تجعلها تبدو في حاجة إلى علاج بالصدمة حتى تستعيد عافيتها، و تخرج من رتابة ما هي عليه. و يكفي دليلا على خطورة الأمر، ما يشاهده الجميع في مواقع التواصل الاجتماعي و في المنتديات، و في الشارع العام، من انتقاد لاذع للسياسيين و المنتخبين، و من تحريض على العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية و في الانتخابات، و من تسفيه لكل شيء، حتى أصبحت أغلبية الناس لا تتردد في البوح بأنها تعتقد أن الأحزاب السياسية، رغم مكانتها المتميزة و المكرسة دستوريا، عوض أن تساعد في تطوير البلاد أصبحت تعيق تحقيق إنجازات في مستوى التطلعات و الأمال. و مما يزيد من قوة هذا الإعتقاد هو : – استمرار الأحزاب، باعتراف أطرها الحكيمة و قياداتها الرزينة و الموضوعية، في عجزها عن تحقيق اختراقات مجتمعية تمكنها من إعادة كسب ثقة المواطنين، و تشجيع انخراطهم في الحياة السياسية عبر التنظيمات المؤسساتية، عوض أشكال التعبير التي تنقل الاحتجاج الشعبي عبر قنوات جديدة و غير مألوفة. – عدم استطاعة الأحزاب أن تقنع الرأي العام بأنها تحتضن القدر الكافي من الكفاءات المطلوبة، كما و نوعا. – استمرار ضعف، و عدم جدية و شفافية، دينامية تجديد النخب. – عدم تحيين أنساق تفكيرها، كي تتماهى مع واقع المرحلة و تتفاعل مع تحدياتها المختلفة. – تواضع الفعل الحزبي و محدودية نجاعة تواصله وضعف جاذبيته، و عدم قدرته، باستثناءات محدودة، على إنتاج أفكار و برامج تستفز ذكاء الناس و تقنعهم برصانتها، و تحد من هدر الزمن الذي تحتاجه تنمية الوطن. أعتقد أنه لا معنى بتاتا، لأن نظل هكذا نتفرج على هذه المعضلة الحقيقية، دون البحث لها عن حلول، يكون منطلقها الاعتراف بما هو فاسد في الممارسات التنظيمية المتراكمة، و تجديد العهد بديمقراطية داخلية حقيقية تضخ دماء جديدة و نقية. هيئات الوساطة السياسية والمدنية، من أحزاب وجمعيات ونقابات، وما فيها من “النخب”، عليها مسؤولية أخلاقية و وطنية في أن تواكب إرادة الإصلاح و تسهل الإقلاع الشامل، عبر تصحيح صورة العمل السياسي و المدني و النقابي. وفي رأيي، أن ذلك يمر عبر خطوات كفيلة بإحداث قطيعة حقيقية مع ما هو قائم من ممارسات، و من تمثلات شعبية لأصحاب تلك الممارسات، أوجزها كالتالي: – العودة إلى مبدأ التداول الديمقراطي على المناصب والمسؤوليات القيادية، في الأحزاب و النقابات و الجمعيات؛ – منع الجمع بين أكثر من مسؤولية حزبية واحدة في نفس الوقت؛ – قبول “مبدأ التقاعد السياسي” في سن معقول؛ – العودة إلى أساسيات الديمقراطية الداخلية المبنية على احترام الاختيار الحر للمنخرطين و المناضلين، و ليس على منطق “صناعة الزعماء” بالكولسة و تجييش الأتباع بأساليب البلطجة، وشراء الولاءات والذمم والاصطفافات المصلحية. – تجديد “النخب”، و ترك مقام “الزعامة” لجيل جديد من القيادات و الأطر التي لم تأخذ فرصتها، لتتقدم أمام المغاربة في امتحان عسير لاسترداد الثقة على أساس “تعاقد سياسي و أخلاقي جديد”. – تجنب السقوط في مشكل أخلاقي كبير، يشاهد تجلياته عامة الناس و يعرفونه، و تبينه الهوة بين “الواقع النخبوي” لبعض القيادات الجمعوية و السياسية و النقابية، الغارقة في “المنافع”، من جهة؛ و بين “الأقوال و التصريحات، و الحوارات الإعلامية، و الخطابات الجماهيرية” المتخمة بالحديث عن “القيم” و عن “الشفافية” و عن “مصالح المواطنين”، من جهة ثانية. لأن ذلك كان أحد الأسباب الرئيسية لنفور المواطنين و ابتعادهم عن العمل الحزبي والنقابي والجمعوي. – تجويد مضامين العروض السياسية و النقابية و المدنية، عبر تحيين المعرفة بالواقع، و عبر نقاشات عميقة يجب أن تفتح مع المواطنين المستهدفين، بحسب كل مجال، و تشخيص انتظاراتهم، و إشراكهم في بلورة أجوبة و حلول و بدائل رصينة للقضايا المجتمعية و السياسية، المطروحة على الجميع محليا و جهويا و وطنيا. أما استمرار الوضع الحالي كما هو عليه، فسيكون معناه أن المجتمع، حتى لو لم نصرح بذلك علنا، قد وصل إلى مرحلة الإقتناع الجماعي بأنه “لا جدوى من وجود الأحزاب بالمطلق”، و أنه من الممكن أن نتفق على “صيغ أخرى جديدة” لتأطير المواطنات و المواطنين سياسيا، و تمكينهم من المساهمة في تتبع السياسات العمومية، و تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام، دون الحاجة إلى المرور عبر “الهيئات و التنظيمات السياسية”. ولأن “هاديك هضرة أخرى”، أظنها تحمل في طياتها مخاطر بالجملة، لعل أكثرها حساسية هو اعتقاد الناس أن “مشاكلهم هي مسؤولية الدولة”، بينما في الديمقراطيات، الراسخة أو النسبية، و نحن منها بدرجة تنسف كل تحليل يحاول أن يضعنا في خانة أخرى مناقضة، الأصل هي أن الحكومات هي من يصيغ السياسات العمومية و يدبر البرامج التنموية و المؤسسات التابعة للدولة. و بالتالي لا يمكن للانتقادات و للاحتجاج أن يتجه إلا صوب الحكومات، و صوب الأحزاب باعتبارها هيئات وساطة موكول لها دستوريا “الفعل السياسي”. ألا فلنفتح نقاشا مجتمعيا مستفيضا في الموضوع، و لنأخذ بزمام المبادرة، كي لا ينتصر الفراغ على ترددنا و توجسنا.