ليس ثمة هدية يُمْكِنُ تقديمها للسّلطوية أفضلُ من نخبةٍ سياسيةٍ مُهلهلة وضعيفة. في هذه الحالة، تُصبح وضعية النخبة، وحالتها المُتردية، حٌجّةً مُضادةً للديمقراطية، ومُسوغاً مُفحماً لجدارة التدبير التكنوقراطي. النخب السياسية الضعيفة أسوأ مُدافعٍ عن الديمقراطية، وعن المنهجية الانتخابية، وعن تعزيز المنافذ الحزبية، للولوج إلى المسؤوليات العمومية. تنهضُ إيديولوجيا السّلطوية على ازدراءٍ طبيعيٍ وتلقائيٍ للنخب المسيسة، مقابلَ إعلاء منهجي للنخب التكنوقراطية. إنها خطابٌ مستمرٌ حول تمجيد الفعالية التقنية، ورمي دائم للسياسة بشتى نعوتِ عدم القدرة على التدبير والعجز البنيوي على اتخاد الحلول الصعبة. لأجل ذلك، تقدم النخب السياسية المتهالكة أكبر خدمة لأُسطورة التفوق التكنوقراطي، ما يجعلها تلتقي موضوعياً مع الخيار السلطوي، فهي تمدُّهُ بأسبابٍ إضافيةٍ للاستمرار. تُشكل النخب، بالتعريف، فضاءً للوساطة بين المواطنين والدولة، بين المجتمع المدني والحكومات. لذلك، ممارساتها وسلوكاتها وأخلاقياتها، خصوصاً في مراحل الخروج من السّلطوية، حاسمةٌ في تمثل الشعب للديمقراطية، وفي إدراكه الحسي والواعي للسياسة. طبيعة النخب هي من سيقنعه هل الديمقراطية هي أن يُعبر عن صوته، وأن يصبح مؤثراً في القرار العمومي، أم أنها مُجرد تسوياتٍ مصالحيةٍ غامضة بين نافذين داخل النخبة؟ وحدها النخب تساهم في تكريس صورة السياسة كتدافع للأفكار والمشاريع والقيم، أو في ترسيخها قناعاً وهمياً للدفاع عن المواقع، ورداءً مزيّفاً للفساد والزبونية. قد نختلف في تحديد أسباب هذه الرّدة الأخلاقية والثقافية والسياسية التي تعيشها نخب اليوم، بين من يُرجعُ ذلك إلى اليَدِ الخفية، أو الظاهرة، للدولة العميقة، وبين من يُرجِّحُ أثر التحولات الاجتماعية والقيمية التي تعرفها المُجتمعات العربية. بين من ينظر للنخبة نتيجة للعطب الديمقراطي، وبين من يعتبرها إحدى الأسباب القوية لهذا العطب نفسه. لكننا مطالبون جميعاً بالإدانة الأخلاقية لهذه الردة، وبعدم البحث لها عن أي تبريراتٍ إضافيةٍ، يذهب بعضها إلى حدّ تمثل انحطاط النخب، كقدرٍ، على الجميع التكيف معه. يرتبط تجديد النخب وتأهيلها والرهان على تخليقها بجهدٍ مضاعفٍ يهم في العُمق المَنْفَذين الأساسين لعملية التنخيب، هما الأحزاب السياسية والاستحقاقات الانتخابية. لذلك، إصلاح أدوات الإصلاح ممثلة في الأحزاب، ودمقرطتها ومأسسة اشتغالها وتحويلها إلى رئة حقيقية للديمقراطية المنشودة، يشكل، إلى جانب إعادة الاعتبار للعمليات الانتخابية، وضمان نزاهتها وتنافسيتها، انخراطاً واعياً في مسار إعادة بناء النخب السياسية، على قواعد أخلاقية جديدة.تشكل أزمة النخبة السياسية، اليوم، إحدى أعطاب التحول السياسي ومشكلاته في المجتمعات العربية، بعد أن ظلت تشكل، عقوداً، أمَلَها في التغيير. في حالاتٍ كثيرة، لم تعد هذه النُخب، على العموم، تهتم بنزاهة الوسائل، وأصبحت معها الحياة الحزبية، في الغالب، مطبوعة بتصدر نوعيةٍ جديدة من الزعامات، الفارغة فكرياً وثقافياً، المُنْحطة أخلاقياً، والمستقوية بأساليب التجييش والإنزالات والإقصاء و"البلطجية"، وهي زعامات تحوم حولها شبهات قوية حول نظافة يدها واستقلالية قرارها الداخلي. طبّعت غالبيتها مع الفساد، وتكادُ تُصبح تهديداً حقيقياً للاستقرار المجتمعي، وهي، قبل ذلك، خطرٌ مؤكد على إمكانات التحول الديمقراطي. كثيرون يعَوّمون النقاش حول النخب السياسية، في تحليلاتٍ تنطلقُ من أن الأخيرة مُجرد تعبيرٍ أمينٍ عن انحدار سُلّمِ القيم في المجتمعات العربية، وعن سيادة ثقافة الانتهازية والزبونية في أوساطها. في الواقع، لا تبحث مثل تلك التحليلات سوى عن التبرير، فالمؤكد أن كثيراً من مجتمعاتنا العربية لا تستحق نخبها السياسية، ثم إن بعض هذه المجتمعات التي أنتجت تحولات الربيع العربي عام 2011، ليست بالصورة التي يصورها خطاب التبرير والتيئيس، كمجتمعاتٍ تخلق طلباً فائضاً على الفساد. في وسع النخب، دائماً، أن تعبر عن أفضل ما تختزنه المجتمعات من قيمٍ ونزوعاتٍ، فهي تستطيع أن تكون أقرب ما يكون القرب، إلى أحلام النهضة والتقدم، وأن تجسد ريادة التحديث المتجه إلى المستقبل، أكثر من أن تظل رهينةً لأسوأ ما في المجتمعات.