اتسم الخطاب الملكي الأخير على مستوى منهجيته بنفس خصائص الخطب السابقة. أول هذه الخصائص: استعمال إيحاءات دينية لتأكيد “الشرعية “وجعل الملكية فوق أية مساءلة أو منازعة. قال الملك في بداية الخطاب: “لقد مرت عشرون سنة، منذ أن حمّلني الله أمانة قيادتك. وهي أمانة عظيمة، ومسؤولية جسيمة”. فالله جل جلاله – حسب نص الخطاب- هو الذي حمّل الملك أمانة قيادة البلاد، ولا يخفى ما لهذا من دلالة. ولنا أن نتساءل إلى أي حد تبقى هذه الإيحاءات، التي كانت تستعملها الملكيات المطلقة القديمة، مستساغة في العصر الحالي؟ الخاصية الثانية على المستوى المنهجي: المنحى التشخيصي، فمنذ مدة أصبحت خطب الملك لا تتضمن فقط ما يُعتبر إنجازات وتوجهات السياسة العامة، وإنما تشير إلى واقع الاختلالات. يقول الملك:”ومن منطلق الوضوح والموضوعية، فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية، هو أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات، لم تشمل، بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي”. وضوح وموضوعية مطلوبان، لكن ما هو مطلوب أكثر هو الإقناع بما يعتبر إنجازات والوقوف على أسباب التعثر وتحديد المسؤوليات بشيء من نكران الذات ووضع حلول ملموسة لتجاوز ذلك، وهذه أمور، رغم بعض الإشارات، ظلت غائبة في الخطاب إلى حد بعيد. وكان من الأولى أن تحضر بشكل واضح بالنظر إلى مدة 20 سنة من الحكم. وغيابها يعني ما يعني. الخاصية الثالثة: تأكيد الاستمرارية، ليس فقط من خلال تكرار العديد من الأفكار والعبارات التي وردت في الخطب السابقة، ولكن أيضا من خلال اعتماد نفس مقاربات الحلول(لجنة ملكية، تعديل حكومي…). ويتسم الخطاب على مستوى المضمون بميزتين، أولاهما: الإقرار بالاختلالات وظروف المعيشة الصعبة والفوارق الاجتماعية الصارخة ومعاناة الطبقة الوسطى.. والميزة الثانية: استعمال لغة هادئة- وعلى غير المعتاد أحيانا- في مخاطبة الجارة الجزائر. ومع هاتين الميزتين هناك بعض الملاحظات والتساؤلات في المضمون، منها: أولا: الملك بنص الدستور هو الساهر على احترامه، هذا يعني، مما يعني، أن يكون كلامه، خاصة فيما يتعلق ببعض القضايا الأساسية، مطابقا لنص الدستور، لكن بالعودة إلى الخطاب نلاحظ أنه تحدث عن إجماع الأمة بخصوص ثوابت ومقدسات وخيارات كبرى هي: الملكية الوطنية والمواطنة، والخيار الديمقراطي والتنموي، والإصلاحات العميقة والمصالحات المحققة والمشاريع الكبرى..وبالعودة إلى الدستور نجد الثوابت كما حددها الفصل الأول من الدستور تتمثل في الدين الإسلامي، والوحدة الوطنية، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي. هكذا نلاحظ غياب إشارة الخطاب للدين الإسلامي والوحدة الوطنية ضمن الثوابت والخيارات الكبرى، وفي المقابل نلاحظ إقحام الخيار التنموي، رغم أنه محل انتقاد ودعوة للمراجعة في الخطاب الملكي، كما نلاحظ جعل “الإصلاحات العميقة” و” المشاريع الكبرى” ضمن الاختيارات الكبرى التي عليها “إجماع الأمة”، مما يدفع في اتجاه جعل تلك الإصلاحات والمشاريع في منأى عن أية مساءلة. ثانيا: كانت النقطة الأساسية في الخطاب هي ضرورة تجديد النمودج التنموي، وليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن ذلك، فقد سبق للملك أن قال بتاريخ 17 أكتوبر 2017، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية 2017-2018: “أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية”. وهذا تقريبا نفس ما قاله الملك في خطابه الأخير: “لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية.. “. ويمكن أن نتساءل لماذا انتظار كل هذه المدة، قرابة السنتين، لتكرار الحديث، وبنفس العبارات، عن فشل النموذج التنموي؟ ونحن نعلم أهمية الزمن في موضوع التنمية، لماذا لم تتم خطوات عملية في الموضوع؟ ولماذا لم تؤسس لجنة جمع المساهمات والاقتراحات بخصوص النموذج التنموي، التي تم الحديث عنها في خطاب 12 أكتوبر2018؟ وكانت قد تحددت فترة تقديم المساهمات آنذاك في ثلاثة أشهر؟ هل حدثت ظروف صعبة منعت ذلك؟ وما هي هذه الظروف؟ أم أنه، وكما يذهب إلى ذلك بعض المتتبعين، لم يحن الوقت المناسب لتنزيل “التصور التنموي” المعد مسبقا؟ أم أن للتأخير في الإعلان عن “النموذج التنموي” علاقة بالانتخابات المقبلة؟… وبغض النظر عن أسلوب تشكيل اللجن، الذي أصبح أسلوبا مستهلكا، وتبين في كثير من الأحيان عدم جدواه رغم تكلفته المادية والزمنية، بل تبين أنه أسلوب لتنزيل الإملاءات وليس لبلورة إصلاحات تشاركية…بغض النظر عن ذلك يتبيّن من نص الخطاب أن اللجنة المزمع تشكيلها بخصوص النموذج التنموي ليست لجنة لمراجعة الخيار التنموي، ولكنها في الحقيقة، وحسب ما يفهم من الخطاب، لجنة استشارية تقنية مطوقة، مهمتها تقديم مقترحات لتفعيل خيارات سابقة، يقول الملك: “وعليها –أي اللجنة- أن تأخذ بعين الاعتبار التوجهات الكبرى، للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها، في عدد من القطاعات، كالتعليم والصحة، والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي؛ وأن تقدم اقتراحات بشأن تجويدها والرفع من نجاعتها”، ويقول أيضا: “إن الأمر لا يتعلق بإجراء قطيعة مع الماضي، وإنما نهدف لإضافة لبنة جديدة في مسارنا التنموي، في ظل الاستمرارية”. ويمكن أن نتساءل إذا كان الأمر يتعلق بتحيين وتنزيل نفس الاختيارات السابقة لماذا كل هذه الكثافة الخطابية بخصوص النموذج التنموي؟ ولماذا إحداث لجنة أصلا؟ ألا يمكن أن تقوم بذلك الحكومة أو إحدى المؤسسات الاستشارية الموجودة؟ ثالثا: في الخطاب إشارة إلى إمكانية تعديل حكومي وتغيير في الأطر الإدارية العليا، وإذا كان ذلك يعتبر أمرا عاديا في مسار الحكومات، فإن الصرامة التي تم الحديث بها عن تشكيل الحكومة في البداية تجعل من المشروع التساؤل بخصوص إجراء أكثر من تعديل في نفس الولاية الحكومية، خاصة إذا كان التعديل هذه المرة بمبررالإغناء بالكفاءات. وأحيل هنا إلى الخطاب الملكي في دكار بعد انتخابات 2016 الذي ورد فيه: “الحكومة المقبلة، لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية…الحكومة هي هيكلة فعالة ومنسجمة، تتلاءم مع البرنامج والأسبقيات. وهي كفاءات مؤهلة، باختصاصات قطاعية مضبوطة. وسأحرص على أن يتم تشكيل الحكومة المقبلة، طبقا لهذه المعايير، ووفق منهجية صارمة”. فماذا يعني التعديل الحكومي؟ هل يعني أن معيار الكفاءة لم يتم احترامه بالشكل المطلوب عند تشكيل الحكومة؟ أم يعني أن أربع سنوات كانت كافية لتفقد بعض الأطر الوزارية والإدارية كفاءتها ولتظهر كفاءات عالية أخرى لا يمكن للحكومة والإدارة أن تستمر في غيابها؟ أم أن الباعث شيء آخر غير الكفاءة التي نسمع عنها كثيرا ولا نراها؟….