عبد اللطيف بروحو أمام فوضى "الفتاوى" السياسية التي تعرفها الساحة السياسية بالمغرب، والتي يمكن أن تؤدي إذا ما انسقنا وراءها "لفوضى دستورية" غير محمودة العواقب، يحتاج الرأي العام أكثر من أي وقت مضى لنقاش قانوني ودستوري حقيقي وهادئ، بعيدا عن المواقف السياسية والحزبية والتي غالبا ما تكون موسومة بالتشنج والانفعالية والرغبة في "احتلال المواقع السياسية"، وهو ما يغيب النقاش الدستوري الفعلي ويجعل الوثيقة الاساسية للمملكة عرضة للأهواء السياسية. فقد عرف المغرب خلال الأسابيع الأخيرة جدلا سياسيا محموما، بدأ منذ الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتعيين ذ. عبد الإله ابن كيران وتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، وقد تمركز هذا النقاش السياسي بالأساس حول التحالفات وأسس تشكيل الأغلبية البرلمانية الجديدة وحظوظ النجاح والفشل في ذلك. وبالموازاة مع النقاش الدستوري الذي استمر طيلة هذه الفترة، تابع الراي العام المغربي مجموعة من الخرجات الإعلامية التي استهدف البعض من خلالها طرح "أمنياته السياسية" وحاول تغليفها بقاعدة دستورية على الرغم من أن الكثير من الأفكار حاولت الالتفاف على النص الدستوري أو إيجاد تأويلات غي دستورية من أساسها، وأصبح الدستور المغربي في حد ذاته رهين المواقف السياسية والحزبية وليس العكس، وهو ما ينذر "بفوضى سياسية" قد تتحول في أي وقت "لفوضى في الممارسات الدستورية". فعدد من المواقف السياسية والحزبية كان يتم تصريفها إما بالدعوة الصريحة للتعديل الدستوري مباشرة بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، أو عبر فسح المجال لتأويلات متضاربة، جعلت الوضع في الوهلة الأولى يبدو للرأي العام وكأنه صراع سياسي حول من يجب أن يترأس الحكومة أو من يتحكم في تشكيلها، وذلك قبل أن يتحول الاهتمام لمجال التفاوض حول التوجهات العامة لتشكيل الحكومة والمحاور الكبرى لهندستها ولبرنامجها الحكومي. كما ساهم أيضا في هذه الفوضى السياسية والحزبية بعض الصحفيين الذين أصبحوا إما "منجمين" سياسيين بتأكيدهم على أن رئيس الحكومة سيقتصر في تحالفاته على هذا التكتل الحزبي أو ذاك، أو حاولوا حشر مواقفهم الذاتية في السلوك الحزبي نفسه وكأنهم أصبحوا بمثابة "أطراف سياسية" تضغط عبر وسائلها الإعلامية على رئيس الحكومة المعين للتحالف حصريا مع هذا الطرف ضد الطرف الآخر، أو لاستبعاد طرف سياسي آخر، أو حتى "استثارة نعرات سياسية" داخل حزب العدالة والتنمية تساهم بشكل مباشر في تعميم هذه الفوضى السياسية والدستورية. وعلى الرغم من أن هذا الخطاب الملكي ليوم سادس نونبر 2016 كان قد وضع مجموعة من القواعد الكبرى المحددة لطريقة تشكيل الحكومة الجديد، فإن "أصحاب الفتاوى الدستورية الشاذة" استمروا في الخروج بالتأويلات الغريبة والمنافية للأحكام وللممارسات الدستورية المتعلقة بدور السلط والعلاقات بين بعضها البعض، ولأسس تشكيل الحكومة وقواعد وضع هندستها والمبادئ المتحكمة في صياغة البرنامج الحكومي. وهي كلها محاور مؤسِّسة تشكل منظومة متكاملة ضمن الوثيقة الدستورية وتوضح بجلاء مجال تدخل هذه السلط والمؤسسات الدستورية، سواء أثناء تشكيل الحكومة أو بخصوص آثارها الدستورية ومسار التعيين الملكي والتنصيب البرلماني. وعلى هذا الأساس يتعين الرجوع للقواعد الدستورية المتحكمة في هذه اللحظة الحاسمة في المسار الديمقراطي المغربي، وفتح نقاش هادئ ومؤسَّس على هذا المستوى. فدستور 2011 جاء بمنظومة متكاملة تتعلق بالسلط والمؤسسات الدستورية، وبكيفية اشتغالها وعلاقتها ببعضها البعض، كما نظمت أحكامه بشكل واضح ودقيق مختلف المجالات التي ترتبط من جهة بالهندسة الحكومية وما يترتب عنها من أسس صياغة السياسة العامة والسياسات العمومية التي يتعين أن يتضمنها البرنامج الحكومي، وصولا إلى دور المؤسسة الملكية على مستوى مواكبة تشكيل الحكومة وضبط هندستها، وعلى مستوى تعيين الوزراء، وذلك قبل المرور لمرحلة التنصيب البرلماني. فهذه "التراتبية الدستورية" تتضمن قواعد أساسية واضحة، ترتبط من جهة بانسجام وترابط هذا البناء على مستوى تشكيل الحكومة والقواعد الدستورية المرجعية الذي تحكمه، ومن جهة ثانية باختصاصات وسلطات المؤسسات الدستورية الرئيسية وبعلاقتها ببعضها البعض، ويتعلق الأمر هنا بالمؤسسة الملكية وبالحكومة وبالبرلمان (مجلس النواب الذي يملك سلطة التنصيب البرلماني). ومن هذا المنطلق تبدو الحاجة ملحة لاستعراض المحاور الأساسية لهذا البناء الدستوري، وذلك عبر التركيز أولا على القواعد الدستورية المتعلقة بآثار الانتخابات البرلمانية (تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز بالانتخابات)، ثم أسس تشكيل الحكومة وهندستها والتعيين الملكي للحكومة بشكل رسمي، وصولا إلى المرجعيات المتحكمة في صياغة البرنامج الحكومي ثم التنصيب البرلماني الذي يعتبر تتويجا نهائيا لهذا المسار الدستوري. أولا: القواعد المرتبطة بتعيين رئيس الحكومة: يعتبر تعيين رئيس الحكومة من قبل جلالة الملك أهم الآثار الدستورية الناتجة عن انتخاب مجلس النواب، فالصراع الانتخابي على مستوى الغرفة الأولى للبرلمان المغربي يتجسد بالأساس في رغبة الأحزاب السياسية للوصول إلى السلطة لتدبير الشأن العام الوطني من موقع الحكومة، وبالتالي تسعى الأحزاب الكبرى للحصول على المرتبة الأولى في هذه الاستحقاقات الانتخابية لترؤس الحكومة ولتشكيل الأغلبية البرلمانية اللازمة لها. فالفصل 47 من الدستور أصبح واضحا في أحكامه، ونص على تعيين رئيس الحكومة من الحزب التي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وبناء على نتائجها، ويتعين بعدها على رئيس الحكومة المعين أن يفتح مفاوضات مع الأحزاب الأخرى لتشكيل أغلبية حكومية تضمن التنصيب البرلماني للحكومة (إلا في حالة حصول حزب واحد على الأغلبية المطلقة وهو أمر جد مستبعد في ظل نظامنا القانوني والسياسي والانتخابي). وفي هذا السياق يتعين الوقوف على مجموعة من المعطيات المتعلقة بالممارسة الدستورية المرتبطة بأحكام هذا الفصل الذي أسال الكثير من المداد وادعى بعض السياسيين والأكاديميين وجود بعض الثغرات ضمن أحكامه أو بخصوص بعض آثار الممارسة السياسية المرتبطة به، وهو ما يبقى بعيدا عن المنطق الدستوري الذي بني على أساسه نظامنا السياسي والدستوري. وقد استغربنا لبعض الأكاديميين الذين حاولوا ابتداع قواعد دستورية لا يتضمنها الدستور المغربي لسنة 2011 وذلك بالاستناد إلى قواعد تتضمنها بعض الدساتير المقارنة المختلفة عن منظومتنا الدستورية والقانونية (وخاصة إسبانيا)، وذلك إما بالدعوة لوضع آجال محددة لتشكيل الحكومة، أو لتعيين رئيس الحكومة من الحزب الثاني في حالة فشل ابن كيران في تكليفه الملكي واللدستوري. فالصيغة الدستورية لهذا الفصل واضحة ولا تحتمل أية تأويلات، وقد حرص جلالة الملك أواخر 2011 وبعيد الانتخابات التشريعية ليوم سابع أكتوبر 2016 على ترسيخ الممارسة الدستورية الديمقراطية المرتبطة بأحكامه، وذلك بتعيين الأمين العام للحزب المتصدر لنتائج انتخابات مجلس النواب، وهو ما يُدرج هذا التصرف ضمن مجال "العرف الدستوري" وهو أمر محمود في قواعد الممارسات الدستورية. وبتعيين جلالة الملك للأستاذ عبد الإله ابن كيران وتكليفه بتشكيل الحكومة يكون رئيس الحكومة المعين قد "اكتسب حصانة دستورية" ناتجة عن اجتماع الشرطين الدستوريين الذين تتضمنهما أحكام الفصل 47 من الدستور، والمتعلقين بتصدر نتائج انتخابات مجلس النواب وبتعيين جلالة الملك. وفي غياب الآجال الدستورية فإن مهمة تشكيل الحكومة تتم تحت سلطة وتقدير جلالة الملك الذي يختص دستوريا بضمان "احترام الدستور وبحسن سير المؤسسات الدستورية" بصفته رئيسا للدولة طبقا لأحكام الفصل 42 من الدستور، ويمكن في جميع الأحوال لجلالة الملك أن يعتبر بسلطته التقديرية أن تشكيل الحكومة قد تعذر أو وصل درجة الاستحالة، كما يخوله الدستور أيضا سلطة توجيه التعليمات والتوجيهات في هذا المجال طبقا لاختصاصه الدستوري (وهو من صميم رئاسة الدولة). وفي هذه الحالة إما أن يقوم جلالة الملك بحل مجلس النواب الجديد بظهير طبقا لأحكام الفصل 96 من الدستور والدعوة لانتخابات جديدة في أجل شهرين، أو قبول استقالة رئيس الحكومة المعين في حالة تقديمها في شكل طلب الإعفاء. وهنا يتعين التأكيد على أن رئيس الحكومة نفسه –في غياب أية آجال دستورية- يمكن أن يتوصل لقناعة باستحالة تشكيل أغلبية حكومة تضمن الأغلبية المطلقة بمجلس النواب الجديد من أجل التنصيب البرلماني للحكومة كما هو مقرر في الفصل 88 من الدستور، وعندها يمكنه تقديم استقالته للملك الذي يتيح له الدستور اللجوء لإحدى الآليات الثلاث التالية: – إما حل مجلس النواب والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة؛ – أو تعيين شخص آخر من نفس الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات وذلك في إطار صيانة الاختيار الديمقراطي الذي يخوله الدستوري لجلالة الملك (الفصل 42)؛ – أو إعادة تعيين الأستاذ بنكيران نفسه مرة أخرى رئيسا للحكومة وتكليفه بتشكيل أغلبية برلمانية وحكومية تقوم على أسس جديدة لم تكن مطروحة. فالخيارات الدستورية هنا متعددة وليست مقتصرة على حالة واحدة بعينها كما يتوهم البعض، واللجوء لإحدى هذه الخيارات مسألة تتعلق بالتقدير السياسي، وهو التقدير المخول لجلالة الملك بصفته رئيس الدولة والساهر على صيانة الاختيار الديمقراطي، ويمكن للفاعل الحزبي أن تكون له مواقف سياسية من هذا الخيار أو ذاك دون أن يؤدي ذلك "للفوضى الدستورية" التي تحدثنا عنها، وهو ما يجعل النص الدستوري مؤطرا للتصرفات السياسية كما أكدنا عليه وليس العكس. وفي حالة الذهاب لانتخابات برلمانية جديدة، وحتى لو جاءت عندها نتائج الانتخابات مشابهة في عمومها للنتائج السابقة وأفرزت نفس التشكيلة بمجلس النواب، وتعذر معها أيضا تشكيل الأغلبية، فإن الملك يحق له أيضا اللجوء إلى الخيارات المتاحة بما فيها حل المجلس الجديد طبقا لأحكام الفصل 98، وبالتالي فإن الدستور وضع مختلف الحلول الدستورية بشكل صريح ولا مجال هنا للتأوُّل وابتداع قيود سياسية تتنافى مع منظومتنا الدستورية أو ابتداع قواعد مخالفة لدستور 2011. وهنا يتعين التأكيد على أن حل مجلس النواب يبقى حقا دستوريا حصريا للملك بموجب الفصل 96 من الدستور، على اعتبار أن هذه المرحلة لا تعرف وجود رئيس حكومة يمارس السلطة التنفيذية ويتملك جميع الاختصاصات المرتبطة بها. فرئيس الحكومة المعين تنحصر مهامه الدستورية في تشكيل الحكومة تحت إشراف رئيس الدولة (جلالة الملك) وتعيينها من قبل الملك وتقديم البرنامج الحكومي أمام البرلمان لنيل ثقته عبر التنصيب البرلماني المعبر عنه بتصويت الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب على البرنامج الحكومي. فخارج هذه المجالات المحددة حصريا لا يمكن لرئيس الحكومة المعين أن يمارس أية اختصاصات دستورية، سواء على مستوى ممارسة السلطة التنفيذية، أو العضوية بالصفة في بعض الهيآت المحددة دستوريا، أو حل مجلس النواب طبقا لأحكام الفصل 104 من الدستور لأنه لم يحز بعد على التنصيب البرلماني (وهو نفس الأمر بالنسبة لرئيس حكومة تصريف الأعمال). وكل ما هو مخول لرئيس الحكومة المعين يرتبط فقط بتشكيل الحكومة والحصول على الأغلبية المطلقة بمجلس النواب، إذ لا وجود في نظامنا الدستوري الحالي على ما يصطلح عليه بحكومة الأقلية مثل النظام الإسباني الذي يشبه نظامنا الدستوري السابق الذي كان سائدا في دستور 1996. إن تعيين رئيس الحكومة يخضع لقواعد دستورية واضحة ولا تحتاج لابتداع قواعد منافية ومتعارضة مع نظامنا السياسي والدستوري؛ ولا مجال هنا لوضع مواقف سياسية أو حزبية مكان النص الدستوري ومحاولة الالتفاف عليه أو جعل المواقف السياسية متحكمة فيه، سواء من قبل الأحزاب السياسية أو الفاعلين الأكاديميين أو بعض الصحفيين، لأن هذه المحاولة تبتعد عن القواعد المنظمة وتندرج في سياق افتعال فوضى دستورية غير محمودة العواقب. ثانيا: القواعد الدستورية لتشكيل الحكومة: أما بخصوص المراحل السياسية والدستورية التي تلي تعيين رئيس الحكومة، فالفصل 88 من الدستور يضع مجموعة من الأحكام المتعلقة بالتنصيب البرلماني للحكومة ويشترط تصويت الأغلبية لأعضاء مجلس النواب الجديد على البرنامج الحكومي لاعتبار الحكومة منصبة بشكل رسمي، وهذا المقتضى يتكامل مع أحكام الفصل 47 التي سبق تفصيلها. فالحصول على الاغلبية المطلقة في مرحلة التنصيب البرلماني تفترض بالضرورة تشكيل -أو على الأقل ضمان- أغلبية برلمانية، وهو ما لا يتأتى إلا بتشكيل أغلبية حكومية مكونة من الأحزاب الممثلة في البرلمان والتي تضمن هذه الأغلبية المطلقة بمجلس النواب، وهنا أيضا استغربنا لبعض الدعوات بالإسراع بالإعلان عن تشكيل أغلبية نسبية بمجلس النواب والاشتغال في ظل ما يعرف "بحكومة أقلية". فمن يدعو لهذا الأمر يجهل أسس نظامنا الدستوري الحالي على هذا المستوى، وما يبعث على الاستغراب انخراط بعض الأكاديميين والإعلاميين في حملة للترويج لهذا الأمر، وهو ما يتناقض مع أحد أهم مستجدات دستور 2011 ومع قواعد العمل البرلماني في نظامنا السياسي الحالي. فالحكومة يجب أن تنال ثقة البرلمان المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب على البرنامج الحكومي، وهو نفس النصاب الدستوري المطلوب أثناء اشتغال الحكومة (وليس فقط التصويت على البرنامج الحكومي) بحيث ستحتاج لأغلبية مطلقة بمجلس النواب عند التصويت على مشاريع القوانين التنظيمية، ولا يمكن بالتالي أيضا تصور حكومة تشتغل بدون هذا النصاب الدستوري المتطلب عند التصويت على البرنامج الحكومي. وهذا ما يعني بالمقابل أن عدم الحصول على هذا النصاب الدستوري في التصويت على البرنامج الحكومي يعيد الحكومة المعنية لنقطة الصفر ولا يجعل لها أساسا دستوريا لممارسة السلطة التنفيذية، ويجعلها في هذه الحالة أيضا في موقع حكومة تصريف الأعمال، وذلك طبقا لأحكام الفصل 87 من الدستور ومقتضيات المادة 36 من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة (ويمكن اعتبار أيضا عدم تصويت الأغلبية المطلقة على مشاريع القوانين التنظيمية إخلالا بالأغلبية الحكومية المتطلبة مما يرتب عن ذلك آثارا سياسيا أعمق من لحظة التصويت في حد ذاتها). فحتى لو امتنعت المعرضة عن التصويت على البرنامج الحكومي، فإن الحكومة المشكلة يتعين أن تحوز على الأغلبية الطلقة لأعضاء مجلس النواب وليس فقط الأغلبية النسبية، فلو افترضنا مثلا أن البرنامج الحكومي نال 190 صوتا بمجلس النواب وصوت ضده فقط عشرة نواب أو عشرين أو مائة، فإن ذلك يعتبر رفضا للبرنامج الحكومي، لا تعتبر الحكومة عندها منصبة وتتحول إلى حكومة تصريف الأعمال. لذا يتعين الحصول على أصوات الأغلبية الطلقة لأعضاء مجلس النواب لصالح البرنامج الحكومي، وهو ما يتطلب بالضرورة وجود أغلبية برلمانية واضحة للحكومة عند تشكيلها. وهذا الوضع ناتج عن إحدى أهم مستجدات دستور 2011 مقارنة مع نظامنا الدستوري السابق، ففي ظل دستور 1996 كانت الحكومة تصبح منصبة إذا لم يعترض على البرنامج الحكومي أغلبية أعضاء مجلس النواب طبقا لأحكام الفصلين 60 و75، وساوى عندها الدستور بين حالة الحيازة على التنصيب البرلماني وحالة التصويت على ملتمس حجب الثقة عن الحكومة. كما يختلف نظامنا الدستوري الحالي عن النظام الإسباني الذي يحدد دستورها بوضوح حالة المرور نحو الأغلبية النسبية للتصويت على الحكومة بعد تعذر التصويت عليها بالأغلبية المطلقة، ويتضمن الدستور الإسباني صراحة مسألة السماح بتشكيل حكومة أقلية في حالة امتناع أحد الأطراف السياسية عن التصويت ضد الحكومة، بما يجعل الحكومة منصبة بأغلبية نسبية، وهو ما يشبه المسطرة الدستورية التي كانت قائمة بالمغرب قبل دستور 2011. وعلى هذا الاساس لا يمكن دستوريا تشكيل حكومة دستورية دون أن تكون مسنودة بأغلبية برلمانية واضحة معبر عنها سياسيا بتحالف حكومي يمتلك الأغلبية المطلقة بمجلس النواب، وهنا تعتبر مرحلة المشاورات والمفاوضات مع الأحزاب السياسية من قبل رئيس الحكومة المعين بمثابة المرحلة الأساسية الأولى التي تلي تعيينه من قبل جلالة الملك، ولا يمكن الوصول لمرحلة تشكيل الحكومة بعد ذلك دون الاتفاق حول نوعية الأحزاب المتحالفة والتوجهات الاساسية التي يتم الاتفاق عليها لتشكيل الحكومة. ويتعين في هذا الإطار استحضار ممارسة دستورية هامة تتعلق بالتوجيهات والتعليمات الملكية التي يمكن أن توجه لرئيس الحكومة المعين، وهي ممارسات تجد أساسها الجلي في النص الدستوري نفسه، ولا يمكن لأحد أن ينفي بعدها الدستوري أو إلزاميتها وضرورة احترامها من قبل رئيس الحكومة المعين، وهذه التعليمات أو التوجيهات تستمد أساسها من النظام الرئاسي الذي رسخه الدستور المغربي ونظم قواعده، ويعتبر أساس إعداد أسس تشكيل الحكومة أو ما يعرف بالهندسة الحكومية. ثالثا: أسس الهندسة الحكومية: قبل دستور 2011 لم يكن هذا المصطلح السياسي متداولا عند تشكيل الحكومات المتعاقبة، فالسلطة المطلقة دستوريا كانت للملك الذي يعين الوزير الأول دون أي تقييد دستوري (الفصل 24 من دستور 1992 المراجع سنة 1996)، ولم تبرز أهمية ضبط اختصاص ومجال تدخل السلط الدستورية على مستوى الهندسة الحكومية إلا في ظل الدستور الحالي، سواء عند تشكيل حكومة بنكيران الأولى في يناير 2012 أو عند التعديل الحكومي الموسع شهر أكتوبر 2013. فتقوية وتعزيز مكانة الحكومة في الدستور الجديد يوازيه حرص المشرع الدستوري على ضمان التوازن والانسجام مع "التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة"، وإذا كان رئيس الحكومة المعين يملك اختصاص اقتراح التشكيلة الحكومية على جلالة الملك، فإن هذا الاختصاص يبقى مؤطَّرا بأحكام دستورية ترتبط بأسس البرنامج الحكومي ارتباطا بالهندسة الحكومية من أساسها، ومن هنا يأتي الحديث مرة أخرى عن التراتبية الدستورية لعمل المؤسسات والسلط تحت إشراف رئيس الدولة في إطار المجالات المحفوظة له دستوريا. فالملك في نظامنا السياسي والدستوري هو رئيس الدولة، وهو النظام الذي رضيه المغاربة واعتمدوه بشكل ديمقراطي عبر الاستفتاء على الوثيقة الدستورية (على اعتبار أن الاستفتاء الشعبي هو أرقى شكل من أشكال الممارسة الديمقراطية). ومن منطلق السلطة الرئاسية المخولة للملك فهو يعتبر رئيسا لجميع مؤسسات الدولة الأخرى (بما فيها الحكومة ورئيسها) وفق أحكام الدستور نفسه، وتتم في العادة ممارسة هذه السلطة الرئاسية عبر عدة أشكال، ومن ضمنها ترؤس الملك للمجلس الوزاري (يعتبر بهذه الصفة رئيسا مباشرا لرئيس الحكومة بما يترتب عن ذلك من آثار قانونية) والسهر على السير العادي لمؤسسات الدولة، وكذا توجيه التعليمات أو التوجيهات لرئيس الحكومة. وفي هذا الإطار تعتبر التوجيهات الملكية بمثابة أوامر رئاسية، سواء تعلق الأمر بتشكيل الحكومة أو بتسييرها وبممارسة السلطة التنفيذية، أو بباقي مجالات تدبير الشأن العام؛ وذلك بعض النظر عن الصيغة أو الشكلية formalité التي تم بها توجيه التعليمات أو التوجيهات، فهي قد توجه بشكل مباشر لرئيس الحكومة في نشاط ملكي أو استقبال رسمي، كما قد تكون في صيغة رسالة ملكية، أو عبر الخطابات الملكية الموجهة للمواطنين أو خطابات افتتاح البرلمان، والتي تتضمن توجيهات لرئيس الحكومة ولباقي المؤسسات الدستورية. وبالتالي قد تتعلق التوجيهات الملكية في هذا السياق بعمل الحكومة وكيفية اشتغالها (وهذا ما كان سائدا) أو بكيفية تشكيل الحكومة وبالقواعد والأسس التي يجب أن تتألف السلطة التنفيذية بناء عليها، سواء تعلق الأمر هنا بطريقة تشكيل الحكومة في حد ذاته أو بكيفية تعاطي الأحزاب السياسية مع هذه الممارسة الدستورية، أو حتى بالهندسة الحكومية وبهيكلة القطاعات الوزارية وشروطها. فالهندسة الحكومية تروم في نهاية المطاف وضع قواعد لهيكلة الحكومة وفق منهجية موضوعية بعيدا عن التقسيم الاعتباطي أو توزيع للمناصب بشكل حسابي صرف بين الأحزاب السياسية، وعادة ترتبط الهندسة الحكومية بالتوجهات العامة الكبرى للبرنامج الحكومي أو تتحكم فيه، وهذه المنهجية العلمية في تشكيل الحكومة تجعل التفاوض أكثر عقلانية بين الأحزاب المتحالفة (وقد توضح نوعية هذا التحالف من أساسه)، وتحمي أيضا رئيس الحكومة من أي ضغط حزبي للخروج عن القواعد الموضوعية لتشكيل الحكومة. كما أن الاتفاق المسبق على الهندسة الحكومية تحت إشراف جلالة الملك يجعل تشكيل الأقطاب داخل الحكومة أمرا متيسرا، وتتفرع عنها الهيكلة الحكومية، ولا يهم هنا من ناحية الفعالية والنجاعة عدد القطاعات الحكومية بقدر ما يتعين أن تكون الأولوية لقواعد الهندسة الحكومية. فعندما يجد رئيس الحكومة المعين أمامه مجموعة من التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة التي تم اعتمادها تحت إشراف ورئاسة جلالة الملك وفق أحكام الدستور (في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى السياسة الخارجية) فإن الهندسة الحكومية يتعين دستوريا وسياسيا أن تتأسس عليها سواء على مستوى وضع هيكلة للحكومة أو عند صياغة البرنامج الحكومي كما سيتم تفصيله. وجميع هذه المراحل (التي تعتبر مؤسِّسة وليس فقط شكلية) تخضع لنفس التراتبية الدستورية، بمعنى أنها تندرج في مجال الاختصاص المخول لرئيس الحكومة المعين تحت رئاسة وإشراف جلالة الملك بصفته رئيس الدولة. ولا يعتبر هذا الأمر انتقاصا من اختصاص رئيس الحكومة كما يحاول البعض ترويجه، وإنما يعتبر من صميم ممارسة الاختصاصات الدستورية للملك ولرئيس الحكومة، على اعتبار أن نظامنا السياسي محدد بوضوح في الدستور الجديد (وهو نظام رئاسي أو شبه رئاسي قريب من النظام الفرنسي)، ولا يمكن المطالبة بممارسات دستورية متناقضة معه وتتأسس على نظام مخالف له (النظام البرلماني أو المجلسي الذي يختلف عن نظامنا الدستوري). رابعا: التعيين الملكي والتنصيب البرلماني للحكومة: إن التراتبية الدستورية المتعلقة بتشكيل الحكومة، سواء على مستوى الهندسة الحكومية أو هيكلة قطاعاتها، تعتبر أساس ممارسة الاختصاصات المخولة للملك ولررئيس الحكومة، وهي تسمح بشكل تلقائي باستكمال المساطر الدستورية لتشكيل الحكومة. وإذا كان الفصل 47 من الدستور يتحدث في فقرته الثانية على "تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها"، فإن عملية التعيين هاته ليست ممارسة شكلية أو بروتوكولية صرفة كما هو الحال في عدد من الأنظمة الأوربية، وإنما في نظامنا الدستوري يمكن أن نعتبرها إجراء دستوريا جوهريا يعبر عن موافقة الملك بصفته رئيس الدولة على التشكيلة الحكومية وعلى أسماء الوزراء المقترحين للقطاعات الحكومية. وهذه المرحلة يمكن اعتبارها لحظة تتويج لمسار الإشراف الملكي على الهندسة الحكومية، خاصة وأن الخطاب الملكي بمناسبة المسيرة الخضراء يتضمن بشكل جلي هذه الأسس المحددة لتشكيل الحكومة، بحيث أكد جلالة الملك صراحة على حرصه على تشكيل الحكومة بناء على المعايير التي تضمنها نفس الخطاب الملكي، وهو ما يسير في اتجاه ترسيخ ممارسة دستورية منهجية للإشراف على تشكيل الحكومة، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه فيما يتعلق بأسس وقواعد تشكيل الحكومة (خاصة على مستوى الهندسة الحكومية) وينسجم أيضا مع أحكام الفصلين 42 و47 من الدستور. فالتعيينات الملكية إذاً ليست مجرد إجراء شكلي أو بروتوكولي، وإنما تتويج لمسار منهجي لتشكيل الحكومة، مثلما يعتبر التنصيب البرلماني أيضا تتويجا لمسار آخر متكامل معه ويتعلق بالأساس بإعداد البرنامج الحكومي على أساس التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة وبناء على البرامج السياسية والحزبية والانتخابية للأغلبية الحكومية. فالدستور المغربي الحالي لا زال يؤكد على "ازدواجية الثقة الملكية والتنصيب البرلماني" كشرطيين دستوريين لتشكيل الحكومة وقدرتها على ممارسة السلطة التنفيذية. واختلال أو غياب أي من الشرطين لا يجعلها حكومة مكتملة الأركان، فغياب التعيين الملكي يجعلها منعدمة ولا يمكن اعتبارها مشكَّلة دستوريا، وغياب التنصيب البرلماني يجعلها مجرد حكومة تصريف الأعمال كما سبق تفصيله. فالتنصيب البرلماني يعبر عنه بتصويت الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب على البرنامج الحكومي (والذي يكون مسبوقا بمناقشة في مجلسي البرلمان)، وهنا يتعين التأكيد مرة أخرى على ضرورة تشكيل أغلبية برلمانية للحكومة ولا يمكن دستوريا الحديث عن حكومة أقلية. وعلى هذا الأساس، وبناء على ما سبق تفصيله، لا يمكن أيضا اعتبار التعيين الحكومي والتنصيب البرلماني محطات شكلية أو بروتوكولية فقط في المسار الدستوري لتشكيل الحكومة الجديد كما يُحَاوِل عدد من الأكاديميين والصحفيين تصويره، وإنما يجسدان إجراءات جوهرية في هذه السيرورة. كما لا يمكن للمسار الدستوري لتشكيل الحكومة أن يقتصر على هذه القواعد، وإنما يطال أيضا مرحلة إعداد البرنامج لحكومة في حد ذاته، واذي يُفترض أن ينسجم كما رأينا سالفا من جهة مع الهندسة الحكومية، ومن جهة ثانية مع التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة التي نص عليها الدستور الجديد، وتعتبر بدورها من أهم مستجداتها على مستوى ضبط ممارسة السلط والمؤسسات لاختصاصاتها الدستورية. خامسا: المرجعيات المؤطِّرة للبرنامج الحكومي: يعتبر التعيين الملكي لأعضاء الحكومة، باقتراح من رئيسها، مرحلة مفصلية تؤدي للوجود الفعلي دستوريا لهذه الحكومة الجديدة في انتظار استكمال مرحلة التنصيب البرلماني، وبما يعني عمليا نهاية مدة انتداب حكومة تصريف الأعمال الجارية. فمباشرة بعد التعيين الملكي لأعضاء الحكومة يتم تسليم السلط بين الوزراء المعيَّنين والوزراء المغادرين لمناصبهم في حكومة تصريف الأعمال المنتهية ولايتها، ويتم عندها البدء في صياغة وإعداد البرنامج الحكومي الذي سيتم اعتماده من قبل الحكومة ثم تقديمه أمام غرفتي البرلمان لمناقشته في المجلسين، ثم التصويت عليه في مجلس النواب بالاغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم هذا المجلس (الفصل 88 من الدستور). فمجلس النواب يمنح ثقته للحكومة عبر تنصيبها برلمانيا، وذلك وفق تعاقد واضح معبر عنه بالتصويت على البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الحكومة، وهذا البرنامج يتضمن الخطوط العريضة لعمل الحكومة في مختلف مجالات النشاط الوطني على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وهنا تثار مسألة جوهرية تتعلق بالمرجعية الدستورية المؤطرة للبرنامج الحكومي ولمضامينه وللسياسات العمومية والبرامج الكبرى التي يُفترض أن يتضمنها، فعلى الرغم من أن الفصل 88 من الدستور لا يتضمن أية أحكام تتعلق بهذه المرجعية، إلا أن فصولا أخرى في دستور المملكة تضع ضمنيا هذه الأسس المرجعية أو تحيل عليها. فعندما نجد مثلا أن الحكومة تشتغل على السياسات العمومية والسياسات القطاعية (الفصل 92)، فإن ممارستها لهذا الاختصاص يتعين أن يتم على أساس وفي إطار "التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة" (الفصل 49) التي تعتبر في نفس الوقت أشمل من البرنامج الحكومي )ومن مجال اشتغال السلطة التنظيمية) ومتحكمة فيه. وإذا كان البرنامج الحكومي عبارة عن وثيقة تتضمن الخطوط العامة الكبرى لما تعتزم الحكومة تنفيذه على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، بما يعني أسس إعداد وتنفيذ السياسات العمومية والسياسات القطاعية والبرامج والأوراش الحكومية، فإنه من الضروري أن تنسجم محاور هذا البرنامج الحكومي مع التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة والأوراش التنموية الاستراتيجية التي تم اعتمادها من قبل السلط الدستورية المختصة والتي تُلزم الدولة بتنفيذها في إطار استمرارية السلط والمؤسسات الدستورية. وقد دأبت المملكة منذ أزيد من عشر سنوات على اعتماد استراتيجيات كبرى تهم مختلف المجالات التدبيرية والتنموية، وباستقراء سريع لما تم اعتماده من قبل المجلس الوزاري خلال السنوات الماضية، نجد أن المغرب اعتمد، في إطار مقتضيات الفصل 49 من الدستور، مجموعة من "التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة" وكذا مشاريع "قوانين الإطار" التي يفوق مداها الولاية الحكومية وتكون ملزمة قانونيا لمختلف الحكومات المتعاقية، وقد همت هذه المجالات بشكل خاص المواضيع التالية: – الدعوة لإصلاح الإدارة وعلاقتها بالمواطنين ونظام نزع الملكية وتشجيع الاستثمار، والمتضمنة في الخطاب الملكي عند افتتاح البرلمان بتاريخ 14 أكتوبر 2016؛ – التوجهات العامة لتطوير المنظومة القانونية والمؤسساتية المتعلقة بالاستثمار، والتي تم اعتمادها خلال المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 23 يونيو 2016؛ – الانفتاح على القارة الإفريقية، والمتضمنة في الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء بتاريخ 6 نونبر 2016؛ – استراتيجية تنفيذ النموذج التنموي الجديد لتنمية الأقاليم الجنوبية (المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 6 فبراير 2016)؛ – الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015-2030 (المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 6 فبراير 2016)؛ – مشروع قانون إطار يتعلق بحماية حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة (المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 14 أكتوبر 2014)؛ – مشروع قانون إطار بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة، (المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 7 مارس 2013)؛ – …. فهذه المواضيع والمحاور الكبرى تندرج في ظل التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة بغض النظر عن كيفية توجيهها، وتوجد دستوريا في مرتبة أعلى من السياسة الحكومية، وبالتالي يتعين مبدئيا أن تكون أساس العمل الحكومي في بعده التدبيري والتنموي (البرنامج الحكومي الذي تنبثق عنه السياسات العمومية والسياسات القطاعية والمنظومة القانونية التي ستشتغل عليها الحكومة في مخططها التشريعي). وهنا يبدو جليا التوجيهات الملكية بالضرورة في مجال الأسس المرجعية لإعداد البرنامج الحكومي، فهي تعتبر من صلب ممارسة الاختصاص الرئاسي لجلالة الملك، ويمكن أن تُقدم بصيغ متنوعة (خطاب ملكي، رسالة ملكية، توجيهات شفوية…)، ويتعين على اية حكومة أن تلتزم بها لأنها ستشتغل تحت رئاسة الملك بصفته رئيس الدولة، ويحضر هنا مثال الانفتاح على القارة الإفريقية وإعطاءها اهتماما أكبر في السياسة الحكومية. وبالتالي فإن هذه التوجهات الاستراتيجية تعتبر الجزء الأساسي للمرجعية الدستورية والسياسية التي يتعين أن يؤسس عليها البرنامج الحكومي، والذي سيتم تنزيله عبر سياسات عمومية وقطاعية وبرامج متعددة السنوات وقوانين المالية السنوية وباقي النصوص التشريعية والتنظيمية. كما يمكن الاستناد أيضا على مرجعيات أساسية أخرى واردة في النص الدستوري، والتي يتعين أن تكون أيضا أساس إعداد البرنامج الحكومي، وعلى رأسها الثوابت الدستورية (الدين الإسلامي والوحدة الوطنية والملكية الدستورية والاختيار الديمقراطي). فهذه الترابية الدستورية إذاً تبدو منطقية فيما يخص بمرجعية السياسات الحكومية، ويتعين بالضرورة احترامها فيما يخص إعداد البرنامج الحكومي قبل عرضه على البرلمان. وهنا يفترض أن تراقب السلطة التشريعية مدى انسجام البرنامج الحكومي المعروض عليها مع هذه المرجعيات الدستورية (عند مناقشته) خاصة فيما يتعلق بالالتزام بالتوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة التي تعتبر أساس إعداد السياسات العمومية والسياسات القطاعية التي تبقى من اختصاص السلطة التنفيذية. فالبرلمان سيمنح ثقته للحكومة على أساس هذا البرنامج الحكومي، والسلطة التنفيذية ستختص بتنزيل المحاور الكبرى لهذا البرنامج إما عبر عبر سياسات عمومية وسياسات قطاعية، أو عبر مشاريع النصوص التشريعية (القوانين التنظيمية –قوانين الإطار – القوانين العادية – قوانين المالية السنوية…) مع احترام مجال اختصاص كل سلطة من السلطات الدستورية (مشاريع القوانين التنظيمية وقوانين الإطار التي تحتاج للإشراف الملكي عبر آلية المجلس الوزاري. فهذه المنظومة الدستورية تهم أولا الأحكام المتعلقة بمرجعية البرنامج الحكومي قبل أن تنظم المساطر الدستورية والإجراءات الكبرى المتعلقة بطريقة نيل ثقة البرلمان، فالتنصيب البرلماني يعتبر آخر محطة دستورية في هذه السيرورة التي تبدأ من وضع القواعد المتعلقة بتعيين رئيس الحكومية، وتمر من جميع مراحل تشكيلها عبر تحديد اختصاص ومجال تدخل السلط الدستورية الرئيسية. سادسا: التحكيم الملكي من صميم السلطة الرئاسية للملك: إن تشكيل الحكومة في ظل الدستور المغربي ليس مجرد مسطرة إجرائية أو بروتوكولية بسيطة كما يتوهم البعض، وإنما هو منظومة متكاملة من الأحكام المرتبطة بالهندسة الحكومية وبهيكلة القطاعات الوزارية، وتتأسس كما رأينا على تراتبية دستورية واضحة فيما يتعلق بدور جلالة الملك بصفته رئيس الدولة، وكذا على المرجعيات المؤسِّسة والمؤطرة لإعداد البرنامج الحكومي. فيما يبقى التنصيب البرلماني مجالا دستوريا قائما بذاته، نظرا لاعتباره تتويجا لهذه السيرورة وفي نفس الوقت أيضا شرطا مبدئيا لاستكمال مراحل تشكيل الحكومة، فالحكومة المعينة من قبل جلالة الملك وفق الشروط والشكليات التي تم تفصيلها تحتاج في نهاية المطاف أيضا لثقة البرلمان لتصبح مختصة بممارسة السلطة التنفيذية. فنظامنا الدستوري يعتمد مبدأ ازدواجية التنصيب الملكي والبرلماني. فجلالة الملك يختص دستوريا بتعيين رئيس الحكومة وتعيين الوزراء باقتراح من رئيس الحكومة، والحكومة هنا تصبح قائمة دستوريا وتحتاج للثقة البرلمانية لتصبح سلطة تنفيذية، والتنصيب البرلماني المعبر عنه بالتصويت على البرنامج الحكومي يعطي للحكومة الصفة النهائية للاشتغال كلسطة تنفيذية. وفي انتظار التنصيب البرلماني، تمارس الحكومة التي تم تشكيلها وتعيينها مهام إعداد البرنامج الحكومي وإصدار قرارات تفويض الإمضاء وممارسة الصلاحيات المتعلقة بحكومة تصريف الأعمال (حسب مقتضيات المادة 38 من القانون التنظيمي المنظم لأشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها). وفي هذا السياق يتعين تصحيح عدد من الأخطاء التي يقع فيها عدد من الإعلاميين والأكاديميين، خاصة في حالة فشل الحكومة الجديدة في نيل ثقة البرلمان. فخلافا لما يعتقده البعض، فإنه في حالة رفض البرلمان منح الثقة للحكومة (عدم الحصول على الأغلبية المطلقة لاعضاء مجلس النواب) فإنه يترتب عن اللجوء لثلاث مسارات دستورية وليس فقط الذهاب للانتخابات التشريعية كما نجده في عدد من الكتابات، وهي كلها تندرج في مجال الاختصاص المحفوظ للملك دستوريا، ويأخذ هنا أيضا شكل تحكيم ملكي. فعند رفض البرلمان منح الثقة للحكومة الجديدة (عدم الحصول على الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب) تصبح في وضع حكومة تصريف أعمال، وفي هذه الحالة أيضا يختص جلالة الملك بسلطة اتخاذ القرار الملائم استنادا على أحكام الدستور (خاصة الفصل 42 الذي يتعلق بصيانة الاختيار الديمقراطي وحسن سير المؤسسات)، وهنا قد يتم اللجوء لثلاث احتمالات: – قيام جلالة الملك بحل مجلس النواب الجديد بظهير والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة؛ – قيام جلالة الملك بتعيين رئيس حكومة جديد من نفس الحزب الحاصل على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة ومنعه فرصة جمع الاغلبية البرلمانية؛ – أو قيام جلالة الملك بتعيين نفس الشخص رئيسا للحكومة مرة أخرى ومنحه فرصة جديدة لتشكيل أغلبية برلمانية أخرى (مختلفة نسبيا أو مطلقا عن الأغلبية الحكومية التي لم تتمكن من الحفاظ على أغلبيتها البرلمانية) وذلك على أساس منهجية مختلفة لتشكيل الحكومة وصياغة البرنامج الحكومي. فهذه الخيارات هي نفسها المطبقة على حالة عدم تمكن رئيس الحكومة من جمع أغلبية برلمانية (كما تم تفصيله أعلاه)، وعلى الرغم من أن الأبعاد السياسية لهذه الخيارات تختلف وتتضارب إلا أنها تبقى إجراءات دستورية مستنبطة صراحة أو ضمنا من أحكام دستور 2011 بغض النظر عن ملاءمتها سياسيا للحظة الحالية. فقد يبدو اللجوء لإحدى الخيارات الدستورية غير ملائم سياسيا في ظل الظرفية التي تعرفها البلد، في حين قد يبدو خيار آخر من عمق التأويل الديمقراطي للدستور، فهذه الأحكام الدستورية هي عامة ومجردة، ويبقى للسلط الدستورية المختصة تقدير مسألة اللجوء لإحدى الخيارات من عدمه. وإذا كان رئيس الحكومة المعين، كما أكدنا سالفا، يختص بتشكيل الحكومة تحت إشراف جلالة الملك، واقتراح الوزراء والسهر على استكمال المساطر الدستورية، فإن جلالة الملك كلسطة دستورية رئاسية يختص من ضمن ما يختص به بالسهر على صيانة الاختيار الديمقراطي واحترام الدستور وحسن سير المؤسسات وذلك بصفته رئيس الدولة وضامن استمراريتها والحكم الأسمى بين مؤسساتها (الفصل 42 من الدستور). ويعتبر السهر على صيانة الاختيار الديمقراطي أهم الاختصاصات المرتبطة بهذا المجال القابل للتأويل والاختلاف، والمتعلق بآثار العملية الديمقراطية من أساسها، وعند الاختلاف في التأويل الديمقراطي للدستور فإن اللجوء للتحكيم الملكي يعتبر من صميم ممارسة هذا الاختصاص الرئاسي للملك، ويجد أساسه الواضح في دستور 2011، وذلك ايضا خلافا لما يعتقده البعض الذي يحاول وضع قيود سياسية على تطبيق الأحكام الدستورية خدمة لمواقف سياسية شخصية، وهو ما لا يمكن أن يقول به عاقل. فالنص الدستوري يجب أن يحكم العلاقات بين المؤسسات الدستورية ويؤطر النقاش السياسي وليس العكس، أما الاستعمال السياسي والانتصار لمواقف شخصية (من قبل بعض الأكاديميين والإعلاميين) فيؤدي إما إلى ابتداع أحكام لم ترد في دستور 2011، أو إلى تقييد أو تضييق مجال تطبيق النص الدستوري في حد ذاته، أو إلى ربط ممارسة الاختصاصات الدستورية بشروط سياسية وهمية لم ترد في الوثيقة الأساسية للمملكة، وهو ما سيؤدي لتفاقم فوضى الفتاوى الدستورية التي أشرنا إليها أعلاه. دكتور عبد اللطيف بروحو متخصص في العلوم الإدارية والمالية العامة