أعاد المجلس الدستوري في قراره رقم 931/13،الصادر بتاريخ 30 دجنبر 2013،بمناسبة البت في رسالة الإحالة الموجهة إليه من طرف أعضاءٍ بمجلس النواب في موضوع دستورية قانون مالية 2014،النقاش حول «إشكالية «تنصيب الحكومة ذ.عبد الإله بنكيران في نسختها الثانية. والواقع أن قراءة موقف القضاء الدستوري تجاه مسألة التنصيب البرلماني، لا تستقيم منهجيا دون العودة الى الإطار العام الذي يحكم المسؤولية السياسية للحكومة تجاه البرلمان ، على ضوء مُستجدات دستور 29 يوليوز 2011،والتذكير بالنقاش الذي انطلق إبان تعيين الحكومة مباشرة بعد انتخابات 25 نونبر 2011 ، حول مدى احترامها لقاعدة التنصيب البرلماني قبل أن يعود هذا النقاش في محطة ثانية وبصيغة أقوى انطلاقا من تاريخ تعيين حكومة ذ .عبد الإله بنكيران الثانية في أكتوبر 2013. أولاً: في الإطار العام للإشكالية: التنصيب وتحولات فكرة المسؤولية السياسية يعتبر التنصيب البرلماني للحكومة، كترجمة لفكرة المسؤولية السياسية، أهم ملامح البعد البرلماني في الأنظمة الدستورية والسياسية. وإذا كان في التجربة الفرنسية يرجع إلى الجمهورية الثالثة ،حيث كان رئيس الدولة يعهد إلى شخصية سياسية بتشكيل الحكومة، ثم يقوم هذا الأخير باقتراح وزرائه على رئيس الدولة الذي يوقع مراسيم تعيينهم، لتتقدم الحكومة بعد ذلك أمام مجلس البرلمان من أجل الحصول على الثقة، فإنه مغربيا قد شكل أحد المطالب التاريخية للأحزاب السياسية في بلادنا، حيث دعت مثلاً ،المذكرة المشتركة لحزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المرفوعة بتاريخ 9 أكتوبر 1991، للملك الراحل الحسن الثاني، إلى «ربط تقديم الوزير الأول المعين من جلالة الملك للبرنامج الحكومي أمام االمجلس (= مجلس النواب) بالتصويت عليه وحصوله على الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب، وفي حالة إذا لم يحصل البرنامج على الأغلبية المطلقة يمنح الوزير الأول فترة تأمل لمدة أسبوع يعود بعدها أمام المجلس، حيث يكفي أن يحصل البرنامج الذي يتقدم به على الأغلبية النسبية لأعضاء المجلس وحينئذ يشكل الوزير الأول الحكومة ويتقدم بلائحة أعضائها إلى جلالة الملك الذي يقوم بتعيينهم». بعيداً عن المطالب ،و من داخل التجربة الدستورية المغربية، يمكن تحقيب المراحل التي مرت منها وضعية الحكومة في علاقة مع البرلمان ومن زاوية مسؤوليتها السياسية، من خلال ثلاث لحظات: 1 - دساتير 62-70-72: الحكومة ولحظة المسؤولية شبه الأحادية تجاه الملك. في ظل هذه الدساتير الثلاثة ظلت الحكومة تخضع في وجودها للملك، إذ يعد التعيين الملكي الشرط الوحيد لتأليف الحكومة ولمباشرة مهامها دون حاجة إلى موافقة البرلمان. إنها حكومة تابعة للملك تشكيلا وتأليفاً، مسؤولية وسلطة، ولأنها تعين من طرف الملك، فهي خاضعة للمسؤولية أمامه، أما مسؤوليتها أمام البرلمان فتعقدها الإجرائي وجمودها الواقعي والسياسي جعل الحكومة عمليا مسؤولة بشكل أحادي أمام الملك وحده. في هذا السياق قدمت الوثيقة الدستورية لعام 1962 هندسة للصلاحيات داخل السلطة التنفيذية، أصبحت بموجبها الحكومة منبثقة بشكل واضح من الإرادة الملكية المنفردة، حيث فقد الوزير الأول صفته السابقة كرئيس للحكومة وأصبح بموجب الفصل 24 يعين ويعفى من طرف الملك، مثله في ذلك مثل باقي الوزراء، هؤلاء الوزراء الذين لا يختارهم ولا يمثل رئيسا لهم ، تعبيراً عن الصلاحيات الأساسية التي تم تخويلها للملك كرئيس فعلي للسلطة التنفيذية، مقابل حكومة تابعة له بشكل كبير. ولأن دستور 1970 قد عرف تعزيزا أكبر لسلطات الملك الذي خولت له كامل السلطة التنظيمية، مما جعل الحكومة تفقد بصيص السلطة التي منحها إياها دستور 62، حيث تقهقرت وظيفة الوزير الأول إلى مجرد منسق للأنشطة الوزارية، لتتكرس بكل قوة بتبعية الحكومة بشكل مطلق للملك. الأجواء السياسية التي عرفها المغرب في بداية عقد السبعينات جعلت دستور 1972 يبث قليلا من الحياة في دور وظيفة الحكومة، حيث استرجع الوزير الأول السلطة التنظيمية، وعوضت هيمنة الديوان الملكي التي امتدت من لحظة إعلان حالة الاستثناء إلى حدود عام 1972، بالإقرار باختصاصات المجلس الوزاري، وتم التنصيص على أن يتضمن البرنامج الذي يعرضه الوزير الأول على مجلس النواب، الخطوط العريضة للسياسة الحكومية. ورغم أن الدعاية الرسمية لمشروع دستور 1972 قد تركزت على كون هندسته القانونية تتأسس على فكرة تكليف مجلس النواب بتنصيب الحكومة، فإنه من الواضح أن هذا الدستور رغم الانبعاث المحدود لدور الحكومة لم يجعل بالتأكيد من هذه الأخيرة مسؤولة أمام البرلمان قدر مسؤوليتها أمام الملك، حيث تعد قائمة بمجرد أداء الوزراء للقسم لحظة تعيينهم 2- دستورا 92و96: الحكومة بين المسؤولية المزدوجة أو التنصيب المزدوج. شكل دستور 1992 البدايات الأولى لبث «نفس» برلماني محدود في البنية الدستورية المغربية الرئاسية الطابع، حيث لأول مرة سينص الفصل 59 وبعد إقراره بأن الحكومة مسؤولة أمام الملك وأمام مجلس النواب، على أن الوزير الأول يتقدم، بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة، أمام مجلس النواب ليعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه، وان هذا البرنامج يكون موضوع مناقشة يتبعها تصويت يجب أن يقع وفق الشروط المنصوص عليها في الفقرتين الثانية والثالثة من الفصل 74، ويترتب عليه الأثر المشار إليه في الفقرة الأخيرة منه. وقد أثار هذا الفصل نقاشا فقهيا بين الباحثين الدستوريين الذين انقسموا إلى اتجاهين، الأول دافع عن كون الدستور المعدل، يقر بآلية التنصيب المزدوج للحكومة، فيما دافع الثاني على اعتبار أن الإصلاح الدستوري لعام 1992 رغم ما تضمنه من تغييرات ملحوظة وإيجابية، فإنه أبقى السلطة التنفيذية على ما كانت عليه، إذ لم يقع أي تحول أساسي في مراكزها ولم يذهب التعديل إلى حد ميلاد سلطة جديدة، فالحكومة خلافا لما قد يتبادر إلى الذهن لم تمر في ظل التعديلات المقترحة من وضعية التنصيب (Investiture) من طرف الملك وحده إلى وضعية التنصيب المزدوج (Double investiture) أي التنصيب من طرف الملك والبرلمان، وهذا ما ذهب إليه غالبية الفقه. وسوف لن تقوم الممارسة السياسية والدستورية إلا بتعزيز هذا التحليل الذي ذهب في اتجاه القول بفكرة المسؤولية المزدوجة عوض التنصيب المزدوج ، خاصة في ظل انتصار التأويل الرئاسي لمسألة التعيين الملكي للوزير الأول، وكذلك لتواتر اتخاذ الوزراء الأولين لبعض صلاحياتهم، في صيغ قرارات ومراسيم حتى قبل أن يحظى برنامجهم الحكومي بثقة مجلس النواب. 3- دستور 2011:الحكومة ولحظة التنصيب البرلماني. لم يترك دستور 2011 أي شك في كون النظام الدستوري المغربي قد مر إلى لحظة التنصيب البرلماني للحكومة. فالفصل 88 منه، ينص في فقرته الأخيرة على أنه: «تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب، المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح البرنامج الحكومي». وهنا لا يمكن أن نفهم من مصطلح التنصيب إلا ما يعنيه بالضبط كمفهوم دستوري واضح يستحيل معه تصور ممارسة الحكومة لصلاحياتها الدستورية قبل تحققه. إن المرور إلى لحظة التنصيب، يتضح كذلك من طبيعة الأغلبية التي أصبح من حقها ممارسة هذا الاختصاص المهم، فعلى عكس دستوري 92 و96 فالتنصيب يقتضي «تصويتاً إيجابياً» لأغلبية موصوفة ووازنة، توازي حجم المهمة الدستورية، هي الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب، وليس فقط شرط عدم تصويت الأغلبية ضده. إن التنصيب في حالة دستور 2011 يعد كذلك ترجمة لمبدأ المسؤولية المنصوص عليه في الفصل الأول، وتنزيلا للمرتكز الرابع من الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011 الذي تحدث عن قيام «حكومة منتخبة» بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، والتي تحظى بثقة أغلبية مجلس النواب. لقد اتجه المشرع الدستوري نحو جعل الحكومة مسؤولة حصرياً أمام مجلس النواب (انظر الخطاب الملكي ل 2011-6-17)، لذلك اختفت من دستور 2011 تلك الفقرة التي ظلت حاضرة في الدساتير الخمسة السابقة (62-70-72-92-96) والتي تجعل الحكومة مسؤولة أمام الملك وأمام مجلس النواب، لذلك فهذه المسؤولية هي التي تشكل عمق وخلفية إجراء التنصيب وأبعاده السياسية. ثانياً : المحطة الأولى للنقاش حول مسألة التنصيب ؛تذكير سريع. شكلت مسألة مدى احترام وزراء حكومة ذ.عبد الإله بنكيران لمقتضيات الفصل 88 من الدستور، إحدى حالات الجدل الدستوري و السياسي ،الذي رافق تجربة تفعيل دستور 2011،حيث طرحت إشكالية «حدود» تدبير هؤلاء الوزراء لصلاحياتهم ،في اللحظة الفاصلة بين التعيين الملكي وبين حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب بالتصويت على البرنامج الحكومي. وعلى عكس الوضوح القانوني للفصل المذكور، فقد اعتبرت بعض الآراء الفقهية والسياسية أن بإمكان « الحكومة أن تباشر كامل اختصاصاتها في أفق تحضير أساس التنصيب البرلماني»، وأن البرلمان ليس سوى «سلطة استكمال التنصيب» والحال أنه منطوق الفصل 88 يبين أن البرلمان هو سلطة التنصيب وليس شيئا آخر. وبعيداً عن تبرير عدم احترام مقتضيات دستورية واضحة، فإن بعض النقاشات التي وقفت-خلال فترة ما قبل التنصيب البرلماني-على عمليات تسليم السلط أو مدى قانونية عقد اجتماعٍ للمجلس الحكومي، أو «شرعية» قرارات بعض الوزراء ،تعود كذلك ،في نظرنا من جهة إلى إشكالية الموائمة بين التنصيص على مسطرة التنصيب البرلماني وبين كون تعيين باقي الوزراء سابقا من الناحية الإجرائية على زمن التنصيب، في حين أن الحالات الأعم في التجارب الدستورية المقارنة والتي تنطلق من مبدأ التنصيب البرلماني، تجعل من أمر تعيين باقي وزراء الحكومة لاحقاً على حصول البرنامج ، الذي يقدمه رئيس الحكومة، على ثقة أغلبية النواب. كما أن غياب -آنذاك- نص مثل القانون التنظيمي للحكومة ،قد أضاف بعض الغموض على القضايا المثارة في تلك المرحلة حول حدود عمل الحكومة المنتهية مهامها والمُكلفة بتصريف الحكومة الجديدة ،ومهام الحكومة الجديدة المعينة قبل تنصيبها من قِبل مجلس النواب، وهي القضايا التي جاء لتقنينها الباب الخامس من مشروع القانون التنظيمي رقم 065.13،المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة وبالوضع القانوني لأعضائها. ثالثاً: المحطة الثانية للنقاش حول مسألة التنصيب: الحجج والحجج المضادة؛ حجج الدستور وحجة «السلطة». الواقع أن النقاش حول مدى حاجة حكومة ذ.عبد الإله بنكيران الثانية للتنصيب البرلماني، قد انطلق فعلياً حتى قبل تعيين هذه الحكومة، إذ عبر البعض عن ضرورة المرور من مسطرة الفصل 88،إبان انطلاق مشاورات رئيس الحكومة من أجل بناء أغلبية سياسية ونيابية جديدة. وإذا كانت المعارضة البرلمانية قد دافعت بقوة على ضرورة عرض الحكومة المذكورة لبرنامج جديد أمام مجلس النواب ،للحصول على الثقة ،فإن جزءاً من الأغلبية الحكومية، ممثلاً في حزب التقدم والاشتراكية، قد اعتبر أن هناك حلاً وسطاً لهذا الجدل السياسي والدستوري ،يكمن في تقديم رئيس الحكومة لتصريح أمام البرلمان ، يليه نقاش ولا يكون متبوعاً بأي تصويت. وسواءٌ داخل جماعة الباحثين الدستوريين، أو داخل الفاعلين ،فإن الحجج قد تباينت دفاعاً عن التنصيب البرلماني ،أو دفاعاً عن غياب الحاجة إليه. المُدافعون عن التنصيب البرلماني، انطلقوا من كون المنطق البرلماني الذي صار يحكم علاقة الحكومة بمجلس النواب، يستوجب اعتبار الحكومة في نسختها الثانية ،حكومة جديدة ،لأننا أمام أغلبية سياسية جديدة ،وهو ما يُحَتم اللجوء الى تعاقد جديد مع مجلس النواب ؛في صيغة تصويت بالثقة. كذلك فتفاوض رئيس الحكومة مع الحليف الجديد، لابد أن يكون قد تعلق بشكل من الأشكال بالبرنامج الحكومي، وهو ما يجعل الحكومة الجديدة ملزمة بعرض برنامجها الجديد على مجلس النواب للحصول على ثقته. وهنا فمسألة البرنامج تُحيل كذلك على موقفي كلٍ من فريقي التجمع الوطني للأحرار والاستقلال بمجلس النواب، الأول صوت رافضاً البرنامج الحكومي الذي تقدمت به الحكومة المعينة بُعيد الانتخابات ،فكيف يمكنه الالتحاق بحكومة تُطبق برنامجاً صوّت ضده دون صياغة برنامج جديد ،والفريق الثاني صوت بالإيجاب لفائدة ذات البرنامج ،فكيف تستقيم معارضته لحكومة تُطبق برنامج صوت معه! لقد قام رئيس الحكومة بممارسة سلطته في اقتراح الوزراء على الملك مرّتين ، حيث لم يقتصر على تعويض وزراء مستقلين ،بآخرين جُدد ،بل أعاد بناء الهيكلة الحكومية ،مضيفاً قطاعات جديدة ولذلك فلا شيء في المقابل يمنع البرلمان نفسه من إعادة ممارسة سلطته في التنصيب للمرة الثانية كذلك. في نفس السياق فإن التعيين الملكي «الجديد» لأعضاء الحكومة ،يجعل هؤلاء الوزراء ملزمين بالمرور عبر مسطرة الفصل 88من الدستور ،لاقتران مسطرتي التعيين الملكي والتنصيب البرلماني. في المُقابل المؤيدون لعدم جدوى حصول الحكومة على التنصيب، انطلقوا من التركيز على موقع رئيس الحكومة الذي يعين بناء على نتائج الانتخابات ولا يمكن إعفاؤه من مهامه.فحالات الإعفاء تشمل الحكومة ككل ،إذا لم تحصل على الأغلبية الموصوفة اللازمة لنيل ثقة مجلس النواب ،سواء عند عرض برنامجها الحكومي أو بمبادرة من رئيسها الذي يمكنه أن يطلب ثقة مجلس النواب حسب الفصل 103،أو عند التصويت على ملتمس الرقابة من طرف مجلس النواب، أو عند تقديم رئيس الحكومة لاستقالته. وهذا ما يجعل الحكومة مرتبطة وجوداً وعدماً بوجود رئيسها، وهو ما يجعل حكومة النسخة الثانية مجرد امتداد للأصل ؛أي للحكومة المُعينة في 3يناير 2012،مادام لم يقع أي تغيير في موقع رئيس الحكومة الذي ظل نفسه محتفظاً بتعيينه الأول. أما ما يتعلق بقراءة الفصل 88،فالتنصيب بالنسبة لهذا التحليل ليس سوى نتيجة للثقة التي تحصل عليها الحكومة من خلال المصادقة على البرنامج الذي يعرض رئيس الحكومة خطوطه العريضة أمام البرلمان ،وهذه المعادلة لا تشمل أعضاء الحكومة لا من حيث أسمائهم ،ولا من حيث انتماءاتهم السياسية. إن التنصيب يرتبط ،هنا بتشكيل حكومة جديدة ،والحال أننا أمام مُجرد تعديل حكومي تم وفق أحكام الفصل 47 من الدستور ،وهو تعديل يشبه ما عرفته حكومة ذ.عبد الرحمان يوسفي ،سنة 2000،أو حكومة ذ.عباس الفاسي ،سنة2009. ولأن الأمر لا يتعلق بحكومة جديدة، فإن ظهير تعيينها جاء ،فقط، معدلاً و مغَيراً لظهير تعيين الحكومة /الأصل في يناير 2012،ولذلك فديباجته أحالت على الفصل 47،وليس على الفصل 88. المزاوجة بين الحجج السياسية والدستورية، لم تمنع بعض أطراف هذا الجدل من اللجوء في بعض الحالات ،الى حجة «السلطة»، خاصة بعد انعقاد أول مجلس وزاري بحضور حكومة النسخة الثانية ،حيث أصبح هذا الحدث كافياً «لإفحام « المدافعين عن التنصيب ،بعدم صواب أطروحتهم! رابعاً: المجلس الدستوري وإشكالية التنصيب. بعد دقائق من التصويت على مشروع قانون مالية2014، بمجلس النواب، يوم 27 دجنبر 2013،تم وضع عريضة موقعة من طرف أعضاء بهذا المجلس ، تٌحيل هذا القانون على المجلس الدستوري ،للطلب بالتصريح بعدم دستوريته. رسالة الإحالة تضمنت خمسة مآخذ ،أولها يتعلق بعدم تنصيب الحكومة، حيث تم اعتبار أن مشروع القانون تم تقديمه من طرف حكومة جديدة غير منصبة، علما بأن الدستور حرص على ربط انطلاقة عمل الحكومة بالحصول على ثقة مجلس النواب ،وهو ما يجعل من المنطقي أن تشتغل الأغلبية الجديدة ،خاصة بعد انسحاب وزراء حزب الاستقلال وانضمام التجمع الوطني للأحرار، على صياغة برنامج حكومي جديد يكون موضوع تعاقد جديد مع مجلس النواب ، ويتفرع عنه قانون المالية كأداة لتنفيذ البرنامج الحكومي. قرار المجلس الدستوري، الذي صدر ثلاثة أيام بعد ذلك ، قضى بأنه ليس هنالك ما يدعو دستورياً لتنصيب جديد للحكومة القائمة ،انطلاقا من الحيثيات/العناصر التالية: - إمكانية حصول تعديلات وتغييرات جزئية في أعضائها والهيئات المكونة لها ،بعد تعيينها من طرف الملك وتنصيبها من لدن مجلس النواب (الفقرات 5،4،3من الفصل 47) -كون إعفاء الحكومة بكاملها لا يترتب الا عن استقالة رئيس الحكومة.(الفقرة 6 من الفصل 47) -اعتبار أن تجديد الهيكل التنظيمي للحكومة وتركيبتها وتوزيع الصلاحيات بين أعضائها وما يطرأ على كل ذلك من تغييرات بعد تنصيبها ،أمور تعود الى الملك وإلى رئيس الحكومة .(الفصلان 47و90) -انسحاب هيئة حزبية من الحكومة وانضمام هيئة أخرى إليها، يندرج في مسار السلوك السياسي للهيئات الحزبية التي يعود إليها وحدها تبرير ذلك أمام ناخبيها والرأي العام. -الفصل 88 يجعل من تنصيب الحكومة يتم على أساس البرنامج الذي يعرضه رئيس الحكومة أمام مجلسي البرلمان، وهو البرنامج الذي تعمل الحكومة تحت سلطة رئيسها على تنفيذه وبالتالي التنصيب ينصب على البرنامج وليس على التركيبة. -عدم تقديم الحكومة لبرنامج جديد ، بعد تغيير بعض مكوناتها، يعد بمثابة التزام من الحكومة المعدلة بمواصلة تنفيد البرنامج الأصلي الذي نالت على أساسه ثقة مجلس النواب . انطلاقاً من كل ما سبق ،يمكن تقديم الملاحظات السريعة التالية: 1- القرار دون أن يفترض ذلك، أجاب بوضوح عن الأسئلة التي أثيرت خلال المحطة الأولى للنقاش حول إشكالية التنصيب ،حيث أبرز بشكل واضح التمييز بين لحظتي التعيين الملكي والتنصيب البرلماني ،في مسطرة تشكل الحكومة وفقاً لمقتضيات دستور 2011. 2- تحاشي قرار المجلس الدستوري ،بشكل واضح ،أدنى إشارة الى مفهوم «الأغلبية الحكومية»، إذ رغم أن المعجم الدستوري المنبثق من وثيقة 2011،تبنى هذا المفهوم (الفصل 98)،ورغم أن هذا المفهوم يبقى مؤسساً ومُهيكلاً وحاسماً ، في الطابع البرلماني للعلاقة برلمان/حكومة ،كما تصورها الدستور نصاً وروحاً ،فإن القرار المذكور لم يتحدث بالمطلق عن تغيير الأغلبية كمصدر لكل هذا الجدل حول التنصيب ،مفضلاً عناء البحث عن كلمات ومصطلحات أخرى ،مثل :»التعديلات في هيكلها التنظيمي»(أي الحكومة)،» تغييرات جزئية في أشخاص أعضائها !والهيئات المكونة لها»، «تحديد تركيبة وتوزيع الصلاحيات بين أعضائها»،» التغيير الذي طرأ على بعض مكوناتها»، «انسحاب هيئة حزبية وانضمام هيئة أخرى اليها»... إن هذا الغياب/التغييب يوضح الى أي مدى كان من شأنه ان يُشوش مفهوم الأغلبية على تحليل المجلس الدستوري الذي ركز على» البرنامج « عوضاً عن «الأغلبية» كموضوع للتنصيب. 3- يعتبر قرار المجلس الدستوري أنه بعد لحظتي التعيين الملكي والتنصيب البرلماني، يمكن أن تعرف الحكومة تعديلات وتغييرات جزئية في أعضائها والهيئات المكونة لها ،والواقع أن حدود هذه التغييرات الجزئية ،تبقى غامضة ،فاعتبار أن بقاء رئيس الحكومة في موقعه كافٍ للقول بأن الحكومة تظل نفسها بالرغم من تغيير الأغلبية ،قد يجعلنا أمام تغييرات جذرية وغير جزئية للأغلبية ،ومع ذلك يمكن تصور، وفقا لمنطق القرار، استمرارية الحكومة. وهكذا مثلاً يكفي استمرار حزب رئيس الحكومة ضمن الأغلبية الحكومة، حتى بالرغم من إمكانية تغيير كل مكونات التحالف الحكومي-وهذا طبعاً ليس تغييراً جزئياً -للقول بأننا أمام نفس الحكومة. 4- يعتبر القرار ،في الحيثية الثالثة ، بشأن مأخذ عدم التنصيب أن تحديد الهيكل التنظيمي وتركيبتها وتوزيع الصلاحيات بين أعضائها، وما يطرأ على كل ذلك من تغييرات بعد تنصيبها ،أمور تعود الى الملك والى رئيس الحكومة وفق أحكام الفصلين 47و 90من الدستور. والواقع أن الإحالة هنا على الفصل 90،تطرح أكثر من سؤال. فالفصل الذي يتطرق لممارسة رئيس الحكومة للسلطة التنظيمية، وإمكانية تفويضه لبعض سلطه للوزراء، لا علاقة لها بموضوع تغيير بنية الحكومة الذي طرحته عريضة النواب حول عدم دستورية قانون مالية2014. أما الإحالة على الفصل 47، فتوضح المخاطر التي من شأنها تكييف المسألة المعروضة على المجلس الدستوري انطلاقاً فقط من مقتضيات هذا الفصل ،دون ربطها بباقي فصول الدستور وأساساً الفصل 88. إن قراءة المجلس الدستوري لصلاحيات الملك ورئيس الحكومة المُتضمنة في الفصل 47 (أساساً الفقرات الثالثة والرابعة والخامسة )،كصلاحيات تنتمي إلى زمن ما بعد التنصيب البرلماني، دون أي حرص على ربطها بالفصل 88،هي في الحقيقة قراءة من شأنها أن تصل الى حد إفراغ مبدأ التنصيب والفصل 88 نفسه من أي مُحتوى، وهو ما يعني في النهاية تعزيز التأويل الرئاسي للوثيقة الدستورية. إذ يمكن أن نتصور وفقاً لهذه الرؤية ،أن الحكومة التي بمجرد حصولها على التنصيب البرلماني ،تصبح عرضة للتعديلات الجزئية والهيكلية وحتى لتغير الأغلبية المكونة لها ،وكل هذه التحولات التي لا يحدها إلا بقاء رئيس الحكومة في موقعه، تتم تحت يافطة الفصل 47. إن عزل الفصل 47 عن الفصل 88، وعن روح العلاقة حكومة/برلمان كما تصورها المشرع، معناه تحويل مبدأ التنصيب الى محدد هامشي و محدود التأثير على بنية الحكومة ،التي تصبح بمجرد تنصيبها تحت رحمة الفصل 47 بكل حمولته . 5-تقر الحيثية الرابعة بأن انسحاب هيئة حزبية وانضمام هيئة أخرى ،يندرج في مسار السلوك السياسي للهيئات الحزبية، وهو ما يعني بالمخالفة -في سياق قراءة القرار- أنه لا يؤثر على الوضع القانوني والدستوري للحكومة ،والواقع أن المجلس الدستوري هنا ،لا يفكر في احتمال انسحاب الهيئة الحزبية التي ينتمي إليها رئيس الحكومة نفسه، انسحاب لاشك أنه سيدفع هذا الأخير الى تقديم استقالته، وهو ما سيجعله ليس مجرد عمل يندرج في مسار السلوك السياسي، بل مؤثراً على وضع الحكومة ككل. 6-يجعل المجلس الدستوري،-مؤسساً لقاعدة جديدة -،الإرادة المنفردة للحكومة ،في تغيير برنامجها الأصلي، قادرة على إطلاق مسطرة التنصيب البرلماني .وهنا لابد أن نتساءل عن شرعية هذه الإمكانية ،في علاقة مع مقتضيات الفصل 88 من الدستور التي تربط بين التنصيب والتعيين الملكي للحكومة الجديدة. 7-الحيثية الثامنة التي تستعرض الفصول الدستورية المنظمة لأدوات مساءلة البرلمان للحكومة ،لا تبدو مقنعة في سياق بناء حجج قرار المجلس الدستوري ،فمضمون الإحالة (عريضة الطعن)يتعلق هنا بإشكالية التنصيب ،وليس بموضوع آخر. 8-في ما يشبه خلاصة تركيبية للجزء المتعلق بالتنصيب، في القرار موضوع هذا المقال ،تأتي الحيثية التاسعة لتكثف حجج المجلس الدستوري ،حيث تعتبر أنه ليس هناك ما يدعو لتنصيب جديد ،مادامت الحكومة لم يتم إعفاؤها بكامل أعضائها من لدن الملك نتيجة استقالة رئيسها ،ومادامت لم تقرر تغيير برنامجها الأصلي. وهنا فإن هذه الخلاصة تختزل إمكانية قيام حكومة جديدة في حالة واحدة هي إعفاؤها بكامل أعضائها من طرف الملك وفق الفقرة السادسة من الفصل 47من الدستور، وهذا ما يخالف الواقع حيث يمكن تصور حالات أخرى مثل عدم تصويت الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب على منح الثقة للحكومة(الفصل103)، أو بالتصويت على ملتمس الرقابة (الفصل 105). خامساً: فكرة للختام. عملياً فإن قرار المجلس الدستوري قد حسم النقاش حول مسألة التنصيب البرلماني، عندما انتصر الى فكرة ربط التنصيب بالبرنامج ،لكن من جهة أخرى فإن هذا النقاش أبرز مأزقاً حقيقياً في منطق البناء الدستوري ،يتجلى في عدم الربط بين قيام أغلبية جديدة وبين تشكيل حكومة جديدة، وهو ما من شأنه في العمق المس بالقراءة التي طالما انطلقت من الطابع البرلماني كمُحدد رئيسي للعلاقة بين الحكومة والبرلمان داخل دستور2011.