“سقط الحصان، فالقائد، فالجيش، فالدولة، ويبقى سر سقوط الدولة عند الحداد الذي صنع حدوة حصان القائد المنهزم في ساحة المعركة… لذلك القائد الناجح من يهتم بجزيئات الأمور” غير خاف على عقل إنسان يستبصر مستقبله، أهمية سياسة المجتمعات في تجنيبها ويلات الصراعات، فالسياسة بدون أدنى شك تتعايش مع زمن السلم لا الحرب، يكفي أن تسعى لتأطير المواطن وتكوينه وتحصينه ضد الانجرافات، وتعزيز انخراطه في التدبير من منطلق أن “الوطن للجميع” وبه تبقى مسؤولية رعايته عامة وشاملة للكل وإن اختلفت المواقع بما يتناسب مع العدالة في تحملها. هو كلام يزكيه الواقع، فما إن تفشل السياسة في الإقناع حتى ينقشع السلم، وممهدات هذا الفشل تكمن في ضمور حس المواطنة الذي يقتات على الإحساس بالتهميش ورعاية الفوارق الاجتماعية، وترسيخ منطق الإمتيازات الطبقية والفئوية، وتخريج أفواج البطالة، وتعميق الهوة بين طبقة وطبقة بتذويب تلك المتوسطة بدل توسيعها لذلك ما من مصلحة ترجى في التكالب على رجل السياسة الذي يحركه تحالف ثلاثي “المال والسلطة والإعلام…”، وهو تكالب لم يسلم منه المثقف بما أن الهجوم على الفكر النقدي يتنامى يوما بعد يوم، حتى أصبحنا أمام مثقفين رسميين، بعد أن كان المثقف ملهما للجماهير منيرا للطريق مجاهر برفض الفساد والاستكانة، إلا أن ذلك يؤيده إقصاء ممنهج وتشجيع للتفاهة وتقويض للقيم، لنصبح أمام مثقف يائس منقطع عن هموم مجتمعه، وهو ما عبر عليه مستشار الملك المنارة الفكرية “بنعيسى الجيراري”، بلفظ “استقالة المثقف”، ودق هذا الناقوس يبعث على ضرورة استحضار تلك التحية التي ألقاها “آلان تورين” على دور الثقافة في إعادة بناء الحداثة وما بعدها، وهنا لا مناص من استدعاء صاحب كتاب “الشيخ والمريد” الانتروبولوجي عبد الله حمودي، حيث يثير دور المثقف في الخروج من السلطوية فكريا، وما هو إلا مثال حي على ذلك المثقف الذي شغله سؤال “مصير المجتمع” حتى أنه استنتج تشابه علاقة الشيخ بالمريد حتى أصبحت علاقة نموذجية لمختلف العلاقات التي تبرمها السلطة، وهذا ما من شأنه في اعتقادي إنشاء مثقف طيّع، وإذا كان من عيب المسؤول السياسي جلوسه في برجه العاجي فإن مصيبة المثقف تربعه في برج التنظير دون النزول إلى الواقع والتأثير فيه ما قيل ينصرف إلى قطع حبل الوريد بين الأسرة باعتبارها أهم حقل للتنشئة وتكوين شخصية الفرد والمدرسة، حتى أن هذه الأخيرة أضحت وسيلة لتكريس الطاعة وقتل روح النقد بالتوجه نحو مسلسل منهج الإخضاع، كذلك الجامعة التي يغيب دورها في التنمية، وذلك ما يظهر من خلال مناهج “تختبر ذاكرة الطالب لا تحليله ونقده” بعد الاستجابة لتقرير البنك الدولي سنة 1995 بما هدف إليه من تأسيس لتسليع الإنسان وتنميطه، وذلك ما لا تعتقد فيه مصلحة، بل إن المصلحة في التوفيق بين التربية على قيم الاختلاف والتعدد وكذا القيم المتفق عليها بالمجتمع كذلك لا مصلحة تستشف، من تفجر الدكاكين الإعلامية “المسوشية” تحت الطلب، التي تتهافت حول تشويه سمعة الناس وإثارة الفتن ونشر الأخبار الزائفة، لما في ذلك من تحويل لحقل لا مناص منه إلى سوق أسبوعي بلا حسيب ولا رقيب، وإنه لمن سنة الكون تميز الطيب عن الخبيث، أضف إليه أن تلفزة مفتقدة لروح الإبداع، لا ترجى منها منفعة، ولا أظن أن الإبداع بيد التافهين المراد تسويقهم نموذجا بل إن الإبداع من صعوبته الجمع بين الإمتاع والتثقيف والتربية على قيمنا الحضارية، ألا إن التوفيق بين “الحرية والمسؤولية” معيار نجاح أي مجال كمثله لا مصلحة، في معاينة أحزاب تغيب الديمقراطية الداخلية بين مكوناتها، بل أرحام فروعها تعاني العقم في إنتاج النخب وتكوينهم السياسي، ونجم الحوار وتقبل الآخر آفل داخلها، بما يولد رؤى وبرامج غير واضحة ولا واقعية، هكذا تكون المناسبة شرط لاستدعاء روح الشاعر الكبير “محمود درويش” ليعظ الكثيرين بقوله: “سنصير شعبا حين ننسى ما تقوله القبيلة”، فأي تغيير يرجى من تنظيمات ما زالت مؤمنة بثقافة “الأعيان والقبيلة والعصبية…”، فالأحزاب حتما مسؤولة عن من ترشحهم لذلك ما من عجب في النقد اللاذع الذي ينبغي أن تتلقاه حتى من الداخل دون تقديس وحزبية ضيقة، وإن الأحزاب التي تثير مصطلح “الإرادة الشعبية” في مواجهة خصومها في الحقيقة أكثر من يساءل، إذ أنها تغفل أن الإرادة الشعبية الحقيقية اليوم لا تثق في أحد، وهذا مدعاة لتأجيج القلق فإذا كان كل ما سبق ليس في مصلحة أحد، فكيف يكون في مصلحة الدولة حينما يحاول البعض قتل السياسة فيها بفتح معركة لا تضع في قاموسها الأخلاق، لنكون أمام جيل جديد من الوسائل لتكميم الأفواه، جيل بدون شك ينزل النقاش من العقل إلى تحت الحزام، حتى صار من اعتقدناه مثقفا قد يحمل جزء من فسيلة الإصلاح مبتلعا للطعم متحدثا عن النفاق ضاربا عرض الحائط ما يصدّر من مبادئ، في تفاعل مبطن مع خرجات رجل يحال على التقاعد السياسي الإستثنائي، ويأبى إلا أن يتمسك بسلفيته السياسية، وإن أخطأ هذه المرة في محاولة صناعة الخصم بإساءة الظن بدعاة “الملكية البرلمانية”، فيما أن الخصم ظاهر كسطوع الشمس في كبد السماء، يلبس حليته وزينته حتى يضرب بالدفوف على زواج معلن مسبقا في 2021… لهذا لن يكون في مصلحة أحد تصارع من يبتغي الإصلاح، اللهم في مصلحة من يريد قتل التفكير النقدي.