في الرواية تناقشون في روايتكم إشكالية العلاقة بين التاريخ والسلطة. أتظل علاقة جوهرية تكاد تؤسس علاقة العربي بالعالم أم تغير من طبيعتها حسب ضرورات الواقع المتجدد؟ وكيف يمكن للرواية أن ترصد هذه العلاقة؟ أؤكد في البداية أن الرواية لا تناقش، إنما تحلل عبر تفاصيل تبدو عابرة ظاهريا ولكونها كذلك فهي تعتبر نفسها غربال التاريخ، أو إذا شئنا فهي سلطة متخيل مضاد لسلطة التاريخ التاريخي: لا تاريخ جورجي زيدان التلقيني في رواية (العباسة أخت الرشيد) وباقي النسيج الاسترجاعي لكتاب اليد الثانية. أوضح أكثر، عندما كتب بول ريكور موضحا علاقة السردي بالتاريخي فلكي يبرز التقاطع بين سلطتي (محكي المؤسسة المعتمد ومحكي الوعي الملحق) كما تظهر في (خفة الكائن الذي لا يحتمل)، لكونديرا، أو أخير في عمل ميشال ويلبيك الأخير (الخريطة والفضاء): أي الكتابة الدرامية لا الترويجية. إن مؤرخ الممالك والجمهوريات يدون الأحداث الصاخبة، لكن فيلسوف التاريخ كميشال دوسيرتو، في (كتابة التاريخ) و (صناعة اليومي) يقف موقف الروائي المغربل للتاريخ: أي أننا أمام مواجهة سلطتين: سلطة المؤسسة المعتمدة للمقبول. سلطة الخفي الماكر الملحق للهامشي. من ثم، تندرج رواياتي: (سيرك عمار) و (تاسانو ابن الشمس) و (مدن السكر) و (كاميكاز) في هامشي التاريخ والمسكوت عنه في المدونات، مع أنني لا أدعي كتابة ولا إعادة كتابة التاريخ ولا تقديم وعي شقي، لانخراطي في صناعة شبه فن سابع وتاسع، يوجد الشبيه والهجين والممسوخ عبر لغة تخاطر بفكرها ، وهي تدفع بها نحو فن أساليب، تكاد تكون كرنفالية بالمعنى الباختيني فرواية (سيرك عمار) تمتح من كرنفالية واقعية سحرية يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل، لحد عدم التفريق بين الوظيفتين أو تماهيمهما. أما رواية (تاسانو ابن الشمس) فتستعيد القرن السادس عشر في القرن العشرين، كما لو كان التاريخ مجرد مرايا مقعرة أو محدبة أو مكسرة، فكل قارئ يجد متعته في الصور الانعكاسية التي يقيمها مع الحدث العابر ولنا في ندوة الجديدة مثال استيعاب النقاد للتاريخ الروائي . ومع رواية (مدن السكر) يحال القارئ اللبيب على نوع من معارضة (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف، للإيهام أنه إذا كان للمشارقة مدن ملحهم فللمغاربة مدن سكرهم، منذ بداية الفتح إلى تجدد الغزو: أي أن الرواية تجد جذورها في التاريخ وأغصانها في المتخيل الزاهي: إذ لا يلتصق إلا المحار والبلداء. وأقف اليوم مع رواية (كاميكاز) مسائلا عولمة الانتحاريين والانفجاريين قبل أن يعلن بوعزيزي ( ثورة الياسمين) والأقحوان إدانة عصاب السلطة المترهلة، في عالم اليوم، أقول عالم اليوم ولا أخص العالم العربي كما يلح على ذلك سؤالك العام وفلسفته المدينة لاستعباد البيض بعد قرون على خصي السود منذ المنصور الذهبي، إلى الانتصارات العاجية لعصر ( النانو تقنية). ولأن الرواية ليست خادمة في بيت السادة ولا النقاد، فهي تندرج في الفن السابع والتاسع، وتراوح بين الكتابي والأيقوني دون ولاءات مؤسساتية لذلك فهي تقية نقية عصية. ومع أن الرواية ليست عصا موسى ولا قبعة ساحر، فهي تجد في الإمتاع والمؤانسة، التوحيدية المجال الخصب لتبليغ نبوة متنبي لا يسهر الناس جراه ولا يختصموا... ففي المجتمع الفرنسي تصدر سنويا (700) رواية سنويا، دلالة على رفد المتخيل للواقعي، فلا مجتمعات بدون متخيل، إذ بدونه نتحول إلى مجرد ربوات، ولا لغة بدون فكر ولا فكر بدون متخيل، قد يوحي كل هذا الكلام أننا بصدد رواية أفكار، أكثر مما نحو أمام رواية أساليب. لكن ليس لي أن أكون قاضيا ومتقاضيا فالتواصل مع القراء هو الحكم في فض التنازع حول جمالية الرواية، منذ روايات (بامو) و (في الطفولة) و (المعلم علي) إلى روايات الخمليشي والأشعري وحميش، ونحن نقطع مراحل التخييل تهيبا وتجريبا تفتيقا وترتيقا دون بلوغ النموذج المبتغى. دعك من نقاد أيام الخميس والجمعة، أولئك يردون الجميل إلى أشباه أسياد سلطة مزيفة مغموسة في حزبية ضيقة، أو البوكر العربية التي تحولت إلى لعبة مقامرة، على خلاف البوكر الغربية، التي تمنح فيها الجوائز لنصوص مجهولة أحيانا. فالرواية التي تغربل التاريخ تجد نفسها في ورطة التاريخ شبه الرسمي الذي يغربلها، ولنا نموذج أعضاء لجان تحكيم الآداب العربية ما يخجل. هل الحديث دون شجون فعلا؟ لا بأس لنقل جهرا ما يقال سرا في الكواليس... فحين لا تكون عضوا في لجنة ولا مترشحا لها تتحلل من ربقة الحرج، وتدخل دائرة الإحراج لحراس قلاع متخيل مدفوع له مدفوع به إلى حتفه. عندما نقول التاريخ والسلطة يتبادر إلى الذهن مفهوم المثقف ودوره في التأثير في العلاقة التي تجمع بين عناصر تلك الثنائية. وقد رأينا في رواياتكم كيف أن المثقف قد انخرط في احتفالات السلطة دون أن يكون له أي موقف تجاهها. أرى أنك تضع الأصبع على جرح التاريخ والسلطة ، لاحظ معي كيف أن كتابات كثيرة تحاول تحميل المثقف بحمولات (العضوية والالتزام والطليعة) مع أننا بعد تقليب أصحاب هذه الصفات نكتشف أنهم مجرد (فجلات) حمراء من الخارج بيضاء من الداخل، مع أن أكبر فجلة قابلة للإنبطاح، بمجرد منحها دورا في السلطة التي تنتقدها لحد القرف. فالكل يتذكر ذاك الجامعي في البرلمان وهو يضرب الطاولة ويصيح بإدانة الوضع، وبمجرد ما تقدم له رضاعة السلطة، حتى يشرع في امتصاص الثدي على طريقة ميلاني كلاين، وهي تتحدث عن عنف أطفال الرضاعة، الذين يمتصون الثدي ولا يتورعون من التهام الصدر الذي يحضنهم. أتذكر هنا تدخلا لجسوس في ندوة وهو يقول (كلنا أولاد حرام) أو قولة غرامشي (ان المثقفين طبقة انقلابية لا يوثق بها) ،إننا نبالغ في تصور المثقف الكتابي، وننسى أن كل الناس مثقفين - بدرجات متفاوتة حتى في أوغل الأميين - فمن حرك مثقفي وساسة الخضراء غير بوعزيزي: البائع المتجول الانتحاري غير قابل للتشبيه به مع باقي منتحري العالم العربي، فالإستعارات التي نحيا بها سلوك يومي وقناعات ذاتية تتجرد من الأنانيات والحسابات الضيقة للأفراد والمؤسسات. من كان يتصور جنرالا يحكم لعقدين أنه سيفر هاربا بين يوم وليلة؟ المثقف ليس وصفة جاهزة، ولكنه ولكنه ما يعبر عنه إلياس كانيتي في (الكتلة والقوة) وفي أصغر رواية هي (أصوات مراكش) لعميان يعبر بهم آلاف السواح، دون تشفير شحاذتهم، والتي استرعت إلياس كانيتي وحده دون غيره. أينه التاريخ حين تحضر الرواية؟ أينها الملاحظة حين تغيب الرؤية؟ ليس علينا أن نكون ثوريين أو يساريين لتتضح رؤيانا، بل علينا أن نكون عاديين مجرد عابرين في الزمن العابر، إذ شئنا أن نرى ما يراه الصوفي والمجذوب والكاميكاز وكل وعي شقي. نلاحظ اليوم أن الرواية صارت في طليعة الأجناس الأدبية التي يلجأ إليها المثقف، لتمرير حد أدنى من المواقف السياسية والنقدية، كيف نفسر اليوم صعود الرواية وانحسار الشعر؟ قضية (طليعية الرواية) أصبحت بين جذب وشد نقادنا، مع جابر عصفور يعتبر عصرنا عصر الرواية، وحجازي يعتبره عصر شعر، كما لو كانت القطيعة تعبيرا عن امتياز أو تخندق في النوع، دون إدراك كرنفالية الروائي والشعري، وأن القضية في درامية التعبير - مع إدوارد سعيد - في شكل الكتابة الحارقة والمحروقة، ولنا في نموذج رواة طنجة وأبناء بول بوز عبرة لمن يعتبر، في (حياة مليئة بالثقوب) لمرابط يرابط على تخوم الكتابة، أو رواة سنوات الرصاص الذين كتب كل واحد منهم روايته الوحيدة دون ثانية أو ثالثة، مخلفا وراءه ركاما من نقاد المزابل والآحاد. فلا صعود للرواية ولا انحسار للشعر، بل الصراع بين الكلمة والشيء، فالبعض يركز على الكلمة وينسى الشيء، والبعض الآخر يدغدغ الشيء وينسى الكلمة، وبما أننا في عصر الوسائط المتعددة، فإننا نجد من يركب الموجة لينزل منها خاسئا. ليست القضية في الأداة والدواة، بل تتمثل في درامية الكتابة بالكريات البيضاء أو الحمراء، فمن يتذكر رواية (الجندي شفايك) يعرف بالحدس أن القضية ليست قضية نوع، بل قضية درامية بشرية تكتب الشرط الإنساني، وهذا ما جعل رواية أمريكا اللاتينية تنخرط في واقعية سحرية تتجاوز واقعية وقائع لا تقع في الواقع. لهذا كانت الرواية غربال التاريخ، وكان شعر المتنبي والصوفية منظار الثقوب السوداء. ألا يكون انحسار الشعر راجعا إلى انخراطه في صيرورة تصفية المشترك مع المتلقي؟ هل يخشى على الرواية أن تواجه المصير نفسه إن هي انخرطت بدورها في تلك الصيرورة، وبخاصة أن هناك مع من يخشى من أن يؤدي التخريب في الرواية إلى إحداث قطيعة مع المتلقي؟ الشعر لا ينحسر، ما ينحسر هو مروجوه وهواته، الذين لا يملكون ناصية الشعر، متحولين إلى مجرد شعارير يندبون حظهم. فكل من يعيد قراءة (النبوغ المغربي) لكنون يعتقد للوهلة الأولى أنه أمام مفخرة نباهي بها المشرق. لكننا عندما نقف على (متنبي المغرب)، و(بحتري المغرب)، و(كذا المغرب) لا نلبث أن نعود إلى (العقد الفريد) لتكرر (بضاعتهم ردت إليهم) وها نحن اليوم مع آفة (أدونيس المغرب) و(حجازي المغرب) و(كذا المغرب)... الشعرور وحده المنحسر، ويظل المعداوي والكنوني وبنطلحة الشعراء، مع الاعتذار للزملاء شعراء الحداد - فالأمر على سبيل التمثيل لا الحصر - وما نخشاه على الشعر يمكن أن نخشاه على الرواية. فهل الأعمال الكاملة التي نشرتها وزارة الثقافة لروائيينا زادت من قامات الروائيين؟ - بمن فيهم من سهر على ترجمة رواياته إلى لغات أجنبية طمعا في عالمية موهومة وحده الطاهر بنجلون استطاع تجاوز خط الوصول، فلا ذاك الطايع ولا عروي هولاندا، سمحت لهما الفرانكفونية باختراق حواجز متخيل الرواية، فكل العمليات الجنسية لاتتم بواسطة اللغات بل بالدرامي التي تمنح نفسها لمن يحترق بنارها. فالقطيعة مع المتلقي ليست شعرية ولا روائية وإنما هي قطيعة من (الداندية) و(الكيتشية). هل يصح كتابة رواية حداثية في مجتمع غير حداثي؟ وأنا أطرح هذا السؤال تذكرت أن نجيب محفوظ كان يرى بأن العالم العربي، ومازال بحاجة إلى الرواية الواقعية. مفهوم الحداثة تعرض إلى تقزيم في لغة السياسيين، ليفضي إلى تقديمية ونكوصية وتمويه وسائط سمعية وبصرية، أنا شخصيا أتموضع ضمن أطروحة أنطوان كومبانون، فيما يطلق عليه (الحداثة المضادة) اعتمادا على (نظرية عماء) لاتستبعد السلبي ولا تحتفي بالإيجابي، بل تشرح الاثنين معا ضمن سيرورة وسياق اللحظة التاريخية. كما تمنحني المقاربة مناعة الوقوع في شرك الثنائيات التفضيلية، ففهم الاشكالية لايجعل من تحيز نجيب محفوظ للواقعية أمرا بديهيا، فليس كل ما هو واقعي مقدس العصر، لأننا أمام واقعيات عديدة، كما أننا لم نعد في مواجهة ظاهرة بسيطة بل أمام ظواهر معقدة بتعبير إدغار موران كما أن القضية تتجاوز محلية العربي أو الغربي للإحاطة بالشرط الإنساني، دون دونية ثالثية ولا تعالي العالم الأول. أما كون العالم (مجرد مجتمع غير حداثي) فكل النقاد يتذكرون كتابات باختين في الثلاثينيات من القرن السابق، وكيف تحولت إلى حداثية في الستينيات. كما أننا نحتفي بسيرفانتيس ورابلي كحداثيين. وعلى غرارهما يمكن القول: (معاصرنا المتنبي) (معاصرنا القرطاجني).. فحين كتب أدونيس (الثابت والمتحول) وأبوديب (جدلية الخفاء والتجلي) لم يكن ذلك عبثا واعتباطيا، بل دلالة على حداثيين غربلا تواريخ عصورهم إلى متخيل شعري ونقدي. لقد كثر اليوم الحديث عن أزمة المناهج أو إفلاسها، فكيف تقيمون وضعية المناهة النقدية؟ بالطبع كثر الحديث عن أزمة المناهج كأزمة إسقاط لحالات أصحابها، لكننا لانتساءل عن أطروحة (ضد المنهج) لفيرابند؟ وهو كتاب يظهر أنه لم يثر انتباه نقادنا، أو نقد القطيع الثقافي. لقد كان ج.ب ريتشار يردد باستمرار أن النظرية والمنهج لايمنعان وجوده، ولا تطبيق الحسوية الموضوعاتية التي يمارسها على الشعري النثري منذ خمسة عقود خارج الطليعة ليست المناهج هي التي أفلست، ما أفلس هو انتقائية النقاد وركوبهم موجة العموميات والسهل غير الممتنع. ومفهوم الأزمة في حد ذاته يعد وعيا بالإشكالية فقلة هم من يستشعرون هذه الأزمة في مقاربتهم، لقفزهم على الاشكالات بترتيقات سلبية، تتجاوز الحواجز ولاتتعامل مع الأدب كمعوقات وألغاز يتوجب فك شفراتها. والآفة اليوم في التركيز على الكلمة وإهمال الشيء، وهكذا ننظر إلى الأصبع الذي يشير إلى القمر دون رؤية الأخير، متجاهلين الأبعاد المعرفية والزمنية للقضايا، والمثال البارز يبدو من خلال استعراض أعمال عبد العزيز حمودة وعبد المالك مرتاض، وهما ينظران للمناهج دون أدنى اهتمام أو تقديم قضاياهما ولو بفقرة واحدة عن هم الابستمولوجية، كما لو كانت الجزر التي يتحدثان عنها لاتنتمي إلى كوكب نسقي، بل إلى مجرد مرايا مقعرة ومحدبة وتيه معرفي. من اللافت اليوم أن كثيرا ممن كانوا يتغنون بالمناهج إلى أمس قريب، صاروا من أكبر خصومها اليوم. هل يحق لمثقف أن يتنكر لموروثه العلمي والنقدي بهذه السهولة؟ ما يلفتني في سؤالك الإشارة إلى الإشكالية ب (التغني بالمناهج)، فالتغني لايعتبر تأصيلا ولا استمرارية بين الأجيال لترسيخ تقاليد نقد لايوجد من فراغ، ولا تصنعه الموضة ولا التبعية لفتات موائد الفرانكفونية، التي يقبل عليها كتاب جرائد الخميس والجمعة، فأن تكون بنيويا في الصباح وشكلانيا في الظهيرة يفضي بك باستمرار إلى كلام ليل يمحوه النهار. وأن تكون مريدا اليوم وخصما في الغد، يعبر عن تهافت غزل داعر. فكل ناقد من نقادنا يكتفي بالإحالة على نجومه المتهاوية في الثقوب السوداء، وقد لايفهم لماذا تهاوت أمام ناظره متسببة في خيبة القابض على الماء، مع أن المناهج والنظريات تعتبران مغامرة للتجاوز ، إنطوان كومبانون في (مارد النظرية) يستلهم بودلير في مقطعه القائل: (هذا السقراط التعيس لم يكن إلا ماردا للمنع أما ماردي أنا فهو المجيز الكبير لا أظن أن الأزمة هي أزمة منهج بل هي أزمة نقد بصفة عامة، بل هي أزمة كلية تعرفها الثقافة اليوم، التي أصبحت تعيش نوعا من الضمور في التسويق لدورها الريادي التاريخي. هي بالفعل أزمة مزدوجة وكلية كما تقول، فالمثقف ليس معزولا عن كل هذا، لأنه يمتح بدوره من دينامية الوسط الذي ينتمي إليه، فكل عاهات المجتمع تنعكس عليه، لأنه يكاد يكون المرصد الذي يسجل قوة وضعف التحولات التي تعصف بالأفراد والجماعات، ومع ذلك لا أظن أن عليه أن يكون تابعا كخيال ظل، بل حالة أعراضية للروح الأخرى والعين الثالثة، إذا لم تعصف به الولاءات والوساطات، وإذا ما استطاع امتصاص الصدمات وتحويل اليأس إلى قوة دفع ذاتي، فليس الاقتصاد وحده ما يصنع الثقافة، بل توجد قوة روحية تقود كل الاقتصادات الأخرى بكل أشكالها، فلا يوجد عالم لاحب أو منحدر يكفي فيه الانزلاق، لنبلغ سدرة المنتهى.. ففي الصحراء يمكن العثور على حياة تتكيف فلا يلتصق إلا المحار والبلداء. ليست الأزمة في حد ذاتها إلا وعيا بالأعراض لتجاوز حالة الترهل، التي يعاني منها المثقف والجماعات المشروطة بوضعيات تكاد تشبه صخرة سيزيف. الحل في إرادة المعرفة وإرادة الكينونة، ففي كل نهاية بداية عالم، لذا لا يجدر إلقاء المسؤولية على المثقف من قبيل تبييض سيرة السياسة والاقتصاديين، لأن القضية قضية مجتمع بكامله، فكل الشرائح مثقفة بدرجات متفاوتة، لأن الثقافة ليست كتابة فقط ولا حوارا سقراطيا ولا افتاء بالحل والمنع. الثقافة فعل حضاري أكبر من مجرد مصالح ظرفية، فنحن ننبهر أمام التحفة واللوحة والقصيدة والملحمة كجينات ذكية، فما يصنع الشرط الثقافي هو لحظات الذكاء البشري اللامحدود. هل دخلت الثقافة الإنسانية اليوم إلى ما يشبه التيه، وبخاصة في ظل غياب سرديات كبرى موجهة أو إشكاليات مركزية، تستأثر بالإهتمام الجماعي وتنتج السؤال الكوني؟ الإشارة إلى التيه طرحت علي في ندوة بالرياض، حول تقييم أطروحة الغذامي عن (النقد الثقافي)؟ كان الجواب: ترجموا الكتاب إلى لغة أجنبية لاكتشاف معنى الفحولة والزعامة، والدعوة إلى استبدال النقد الأدبي بالنقد الثقافي. ظاهرة التيه الثانية، هي ما يطلق عليه (نظرية الأدب الإسلامي)، التي تدعي أنها حققت في عقدين ما لم يحققه الأدب العربي في ما ينيف عن القرن من النهضة. ظاهرة التيه الثالثة، تلك الخاصة بالبحث عن سلطة خارجية لدعم ردها الثقافي على الامبراطوريات بالترجمة وافتعال المعارضات والطفرات إذ نستشهد بالآخر الذي لا يستشهد بنا إلا في حالات تبعية تنجز بلغته هو. لكن التيه النقدي الذي احتفى به عبد العزيز حمودة، من منظور الحداثة السلفية، قد يكون في جزء منه صحيحا، لكن تأويله يتخذ مسارات التخندق في صف معتمد مؤسسة - تمسك غريق بغريق - إذ من السهل هدم معمار بينما يصعب بنينته، لذلك تقدم الكتابات حول التيه تيها آخر لجهد كبير يحصد نتائج هزيلة، لا ترقى لا إلى نقد النقد ولا إلى لي عنق اللغة، للالتفاف حول أطروحة واحدة تدور حول إدانة الحداثيين، مع أنه لا أحد يملك الحقيقية - سلفيا أو حداثيا- في الراهن الثقافي المغربي عرف اتحاد كتاب المغرب ضجة وصخبا في الآونة الأخيرة. كيف تابعتم كل ما قيل ويقال عنها؟ يقال عادة أن سقوط الصومعة تتبعه إدانة إلى كل المؤذنين داخلها، فالنظرة من الخارج تمنح أبهة أكبر من اللازم لجمعية أو اتحاد أو حزب، لكن النظرة من الداخل تكشف عن هشاشة أفراد، يبذلون جهودا في غياب العمل الجمعي، لهذا توجه السهام ربما إلى غير محلها، لاستهداف فاعلين وهميين دونكشوتيين. القضية بنيوية، تشمل تحولات كبرى لم تستوعب أو حولت اتجاهاتها، لتصب في اختزالات كبرى، ولإفراغ القضايا من محتوياتها وملئها بتبريرات للعجز وجلد الذوات وإرضاء العصاب. اتحاد كتاب المغرب أو إتحادات كتاب العرب مجرد مراصد، لصياغة ما هو عليه الإبداع، مع أنها لاتصنع الكتاب بل تستهلكهم ، ففاقد الشيء لا يعطيه وصاحب التاج يحتاج... فكل تجمع يقيم بنتائجه أمام تشرذمات مثقفين حالمين بطوباوية مدينة فاضلة، يصنعها كل واحد حسب طموحه وهواه أو تهافته، فاتحادات كتاب العرب كالجامعة العربية، تتحدث بالنوايا والمزايدات لافتقاد الأداة والدواة... لهذا علينا عدم تضخيم دور الاتحادات كيفما كان نوعها (ثقافية أو حزبية أو اقتصادية) في مجتمع تصنعه هندسة التعمير بتلك العمارات المتشابهة، وأشباه المدن كأشباه الروايات وأشباه النقود وأشباه مثقفي المواسم وأعوام السحاب. فالتسامي وحده لايصنع الثقافة، والمثقف العضوي تبين أنه مجرد فاعل مواسم شرق وغرب. الكل يتذكر مهزلة العضويين الذين اكتراهم (الشارخ) للتنويه بروايته (العائلة) في طنجة والرباط والبيضاء. (زه) فمن يدفع أكثر تصيبه العضوية أكثر، وشهود مهزلة هذه القراءات وحدهم من يقرر قواعد اللعبة في مكتبة وطنية. وماذا عن الصخب الذي صاحب جائزة المغرب لهذه السنة؟ جائزة المغرب ككل الجوائز المؤسساتية لإعلان رضاها عمن تود تدجينهم، مع أن الفكرة النبيلة تظل تشجع الانتاج والإعلاء من شأن فكر أمة، يسعى إليها البعض كما تسعى هي إلى البعض الآخر. يكفي أن تعرف أسماء أعضاء لجنة من لجن السنة الماضية، حتى تعرف من ستعطى له كاملة بدل مناصفتها. والأدهى من كل هذا أن رئيس نفس اللجنة هو من سيتسلمها بالنيابة عمن يختفي وراء الحجب المتجاورة؛ يا للوقاحة العضوية تأكل الغلة وتحرض على الملة، بالدعوة إلى التمرد على وزارة حزبه هذا إن كان له حزب كما هو لأخيه في الحزب الآخر. ولأن (الجوكير) ورقة (بوكير) فهي في كل لجان الشرق والغرب مادامت السلاحف تسبح دائما في الماء العكر للمزايدة المافيوزية على (المغفلين في الأرض). هكذا نطالب الساسة بالديموقراطية ويخرقها المثقفون أشباه (العضويين أو العدوانيين). ألا يجعلنا هذا خجلين من أنفسنا بعد أن عرت (ثورة الياسمين) وبعدها (ثورة الأقحوان) عورات أشباه العضويين وطواحين الهواء. جائزة الكونكور تمنح صاحبها (أورو) واحداً رمزيا، وتزيد مبيعات عمله الى ما ينيف عن (30000) نسخة وترجمات الى لغات عديدة. وجوائزنا تقبر الأعمال المتجاورة.... جائزة (البوكر) الأروبية منحت للكندية مارجريت أتور (القاتل الأعمى) (2000) والنيجيري بن أوكري (طريق الجو) (1991) دون معرفة مافيوزية، بل احتكاما الى العملين لا إلى كاتبهما وجنسه. أما (بوكر) العرب ففهمت على أنها قمار الأقزام بالعمالقة. جائزة الرواية العربية بالقاهرة يكفي استعراض الناطق باسمها في الحفل الختامي ليتبين لك سر تأرجح الجائزة بين ليبيا والجزائر.... جائزة المغرب كباقي الجوائز العربية مالها حلال ورمزها حرام، وفي ظل الأزمات النقدية للمثقفين فهي تفك أزمات فرودية (فموية/ شرجية/ قضيبية) إذا لم تكن ميلاني كلاينية (لإلتهام الثدي وصدر أمه). يقال إن المثقف قد فقد شرعية رمزية عندما انخرط في دوامة صراع حول موائد السلطة والمخزن، فإذا كان المثقف قد رضي بأن يحارب من أجل امتيازات وهمية، فمن باب أولى أن يقوم بذلك الانتهازيون. تقصد بالتأكيد شرعية كتاب أيام الخميس والجمعة، أو هؤلاء الذين يتقافزون فوق الحواجز والمزابل. الآن نجد أن المهرجانات الروحية والتناسلية أوجدت لها منشطين يتآزرون فيما بينهم لنصرة أخاك (أيها الجيلالي)، لكن علينا الانتباه إلى مثقفي الظل المتمنطقين بصمت الحكمة يتفرجون على (ساحة الفنا) هذه التي مر بها إلياس كانيتي وخرج بها ب (أصوات مراكش) ويمر بها المئات والآلاف ويخرجون منها صفر اليدين من يمنح الشرعية للمثقف؟ هل هي محاكم شرعية؟ هذه الشرعية تمنحها الأعمال وحدها لا الولاءات.. الاعتراف بالشرعية لا يمنح بل ينتزع انتزاعا، لأن المثقف بطبعه يمثل الوعي الممكن أو الشقي لمجتمعه، لهذا فهو يغضب المؤسسة ويراهن على مستقبل يحدس به ولا يحدده. كل الناس المثقفين حين يمتلكون إرادة المعرفة وإدارتها، ألا نرى كيف يسعى الآباء على أميتهم إلى تثقيف الأبناء للإنتقام لهم من الحيف الذي أصابهم بسبب بلاوي الاقصاء فبعد خمسين عاما على استقلال بلد مازال أكثر من 50% من الأمية ينخر جسدها، ومع ذلك نحتفل بخمسين سنة من الإنجازات النخبوية، الموزعة بين الولاءات الفرانكفونية والعربفونية والاسلاموفونية.. والشاطر من يكسر صدفة الحلزون... الشرعية الوحيدة للمثقف عندما تتعادل فرص المجتمع في التثقيف والتطبيب والديموقراطية. إذ لا يكفي أن تكون مجرد متعلم في وسط أمي (فموسم الهجرة إلى الشمال) لا يعيد الألق إلى المثقف العربي بقدر ما يدينه. لماذا يفضل المثقفون العفويون التواري والانزواء؟ هل ذلك قدرهم؟ أتذكر في هذا المقام الروائي البرتغالي ساراماغو الذي فقدناه منذ أيام والذي أعطى للإنسانية مفهوما جديدا لعلاقة المثقف بالإلتزام؟. المثقف هو كل فرد من أفراد القبيلة الإثنية والأنثروبولوجية، الذي يستطيع بلورة وعي جماعته والانفتاح على باقي الجماعات المحلية والقارية، بغض النظر عن التمايز الثقافي الذي قد يتحول إلى برج بابلي، لاستعراض معارف الآخرين وإبخاس الذات أو جلدها، بعد أن خاب الظن في أشباه المثقفين العضويين الماكرين بالإتباع والمستغفلين للمريدين. فكم هم أولئك الذين تسلموا جوائز الاعتراف الثقافي من صدام العراق وابن علي تونس؟ هل يجرؤ أحدهم الآن على التباهي بكونهم مثقفين؟ أتذكر في بغداد كيف احتج يوسف إدريس لما منحت له جائزة صدام مناصفة مع جبرا، فكاتب صدام قائلا إنه ليس نصف مثقف حتى تمنح له نصف جائزة صدام فأعطيت له جائزة كاملة، لكنه وبعد احتلال الكويت، كتب يوسف إدريس (من يمنحني ثمن جائزة صدام حتى أعيدها إليه؟) أليس هذا قمة (الكذا كذا شي؟) المثقف العفوي إذن بديلا للشبه عضوي. ففي قريتي املشيل وأنفكو من يستحقون جوائز سنوية لمقاومة الإقصاء الثقافي، فهل كان بول بولز طنجة على خطأ وهو يقدم لنا شكري والمرابط، وهل كانت مهرجانات الفولكلور على خطأ وهي تقدم لنا (المايسترو العجوز) وهو يؤدي رقصاته؟ المثقف العضوي ليس كتابة وقراءة وتشكيل فقط، إنه كينونة.