كلمة قبل البداية: لكي تشعر بأنك تكتب أو تقرأ لابد أن تكون للقراءة والكتابة مساحة في خريطتك الذهنية، وأن يرتبطان بك في حياتك كما هو الشأن لمفتاح بيتك، فهو لا يفارقك فكذلك القراءة والكتابة. فمن المواضيع من يأتي بعد التدبر والتأمل، ومنها من يأتي من وحي الواقع بالتفاعل معه، ومنها من يأتي من وحي التجربة، ومنها من يأتي كاستفزاز، إلى غير ذلك من الأسباب الداعية لممارسة عملية البوح والكتابة، ويأتي موضوع المثقف والمجتمع، من قائمة المواضيع التي تأخذ من وقتي الكثير في الفعل التأملي والتدبّري، وبالتحديد المثقف وعلاقته بالمجتمع وقضاياه المتجددة، ويعتبر المثقف بمثابة مصباح ينير الدروب المظلمة، إن كان قادرا على عملية الاحتراق من أجل المجتمع الذي يعيش في الظلام الدّامس، فبه يتحرر المجتمع من الظلم ليعيش تحت مظلة العدالة، والمثقف هو من لا يرتدي أقنعة، ولا يستعمل مساحيق لتلميع فكره، ولا يسكن بالقصور الفخمة، إنما هو رجل يفكر في أمته ويعمل من أجلها ويحترق لتستمتع بنوره، ويعمل على تنظيم المجتمع ليخلق منه الرشد بعد التيه، والعدل بعد الظلم، والعلم بعد الجهل، المثقف إذن هو الضمير الحي الذي لا يموت داخل المجتمع. وبعد الكلمة: يدور في خاطري إشكالات جوهرية أود أن أناقشها في هذا الموضوع الحي، لأن الخطب جلل، وما عدنا نحتمل هذا الوضع الراكد الذي نعيش فيه، دماؤنا هنا وهناك، وأشلاؤنا مزقت، نساؤنا اغتصبت، اطفالنا شردت، إذن نحن أمام وضع كارثي يقلق الضمير، ويزعج راحة البال، فما هو دورك أيها المثقف ؟ وما هي حالتك الإعرابية في مجتمعك الذي تعيش فيه؟ كم عدد مثقفي الأمة، وما حجم ثأثيرهم في المجتمعات، وما هي خصائص المثقف الرسالي؟ 1 - وصف الظاهرة: المثقف والمجتمع أية علاقة؟ إن المتأمل في واقع الأمة ليكشف أنها تعيش عصور الغمّة، والفوضى والجمود والركود الذي ليس له حدود، فكل هذه الإشكالات له علاقة وظيفية بالمنظومة الفكرية التي تسود في المجتمع، إن الفكر له تأثير في سيرورة المجتمع، وأهل الفكر هم المثقفون والمفكرون والدعاة والعلماء وكل من له ضمير حي في هذه الأمة، إلا أن الذين يحسبون أنفسهم من النخبة تجد خطابهم في واد والمجتمع في واد، فإن عدنا إلى الخزانات في مختلف الدول العربية والإسلامية نجد كمّا هائلا من المؤلفات والمجلدات والمصنفات والنظريات، وإن قمنا بالملاحظة المجردة لواقعنا نجد الفرق الشاسع بين الكتاب المسطور والواقع المنظور. فقادة الأمة اهتموا أكثر ببناء العمران بدلا من بناء الإنسان الذي يصنع الحضارة، لكي يقال إن هذا البلد الفلاني له أكبر وأجود البنايات، فمنذ سنوات والأمة ماتزال تعيش مرض محاربة الأمية، فمن فقه الأولويات كما قال أهل المقاصد أن نُعلِّم الناس، فلا يعقل أن يوجد بيننا من لا يقرأ ولا يكتب ونحن نعيش عصر السرعة، وما فساد إدارتنا وتخلف خدمتنا إلا بوجود الأمي والجاهل بيننا، ومن الأمراض التي تعاني منها الأمة أيضا، (التّعَالم) كما يسميه مالك بن نبي رحمه الله تعالى، قال في كتاب مشكلة الثقافة: ( ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضا جديدا مستعصيا هو (التّعَالم)، وإن شئت فقل الحرفية في التعلم، والصعوبة كل الصعوبة في مداواته...) لقد صح كلامه رحمه الله لهذا فإن المجتمع ينقسم إلى نوعين من الأمراض: 1- فئة أمية لا تعرف الكتابة والقراءة. 2- أصحاب التّعَالم من الذين يحملون الشواهد، ولا علاقة لهم بما يجري في المجتمع (السلبيين). إذن فالأمة تعيش الهوة فيما بين المثقف والمجتمع، لنرجع قليلا ونتكلم عن الجيل الذي بنى الحضارة الإسلامية، وحقق النهضة الحقيقية وأسس لمفهوم الأمة الشاهدة، إنه الجيل الذي زكاه القرآن، فقال الله عزوجل في حقهم : ( تراهم ركعا سجدا) وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لوأنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهم المثقفون والمفكرون والعلماء الحقيقيون الذين جمعوا بين فقه النص وفقه الواقع، وجمعوا بين القول والفعل، وكان منهم من استغرق عشر سنوات في حفظ السورة من القرآن، فتعلم العلم والعمل، هم المثقفون الذين ليست لهم شواهد مع التوصية بالطبع، ولكن لهم بصمات في تاريخ الأمة، وعجزت النساء أن تلدن أمثالهم، فمن يذكر سيدنا عمر يذكر معه العدالة الاجتماعية، ومن يذكر سيدنا عثمان يذكر الإنفاق، فهم علماء الأوطان وليسوا بعلماء السلطان، بنوا الإنسان قبل العمران، ففازوا برضى الرحمان، ودخلوا الجنان، عكس بعض مثقفينا الذين اشتغلوا بالجدل، ومنعوا العمل، وفقدوا الأمل، وعاشت معهم الأمة الجراح والألم، سوريا تنزف، العراق ممزق، فلسطين مغتصبة، اليمن مقسّم، مصر إلى المجهول، فإلى أي حد ستبقى الأمة على هذا الحال؟!. 2- المثقفون أنواع، فهل لهم من إشعاع؟ إن شبكة العلاقات التى تحكم المثقف تجعل منا نميز بين ثلاثة أنواع من المثقفين كما ذكر ذلك مالك بن نبي: أ- المثقف الحزبي: وهو الذي يتكلم انطلاقا من خلفية سياسية، فيكون المنظِّر الفكري للحزب أو لجماعة معينة، وهذا حال أغلب مثقفي الأمة اليوم، فيكون القلب النابض للحزب وضميره الحي، لكن هذا النوع من المثقفين لا يخرج عن إطاره الحزبي. ب- المثقف المصلحي: وهو الذي يربط علاقته مع من يملكون القرار من السلطة، فيكون مشجعهم وناطقهم الرسمي، ليأخذ بذلك المقابل المادي، ولا يهمه ما يدور في المجتمع من أمراض فكرية، بذلك تكون مهمة هذا النوع من المثقفين هو تقوية أجندة الفساد في البلاد. ج- المثقف الحر: وهو المثقف الشمولي في الفكر والتصورات والمناهج، فلا يكون ملتزما بالضوابط الحزبية، أو بقرارات السلطات المخزنية، يحترم السنن الكونية في تحليلاته وتوجيهاته، همه هو بناء الإنسان الشاهد، الذي يقود هذه الأمة إلى الأمام. وجهة نظر: إن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة إلى مثقفين لهم القابلية النفسية والعقلية لبناء مجتمع طاهر وعادل ومتطور، ويجب على المثقف أثناء ممارسة فعله الثقافي أن يقدم مصلحة أمته على كل المصالح، لأن الإشكال الذي تعاني منه الأمة وجود المثقف الذي يحرص على المادة، وهذا يشكل خطراً كبير عليها، فمن يتأمل في حياة المتقدمين من علماء ومثقفي هذه الأمة يجد أنهم كانوا يشتغلون لله ومن أجل الله، فماتوا ولم يخلّفوا أرصدة بنكية ولا عقارات، وإنما تَرَكُوا المصنفات والمجلدات، تَرَكُوا الفكر لأنهم عاشوا حياة الذكر، وما تخلّفوا عن الشكر، فهموا المقصد من قوله تعالى: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) سورة الصف 9. فقراءة هذه الآية تحيلنا على المعنى الظاهر وهو التبليغ، لكننا نختلف في الفقه التنزيلي لها، فالمثقف اليوم يجلس في برجه ليخاطب الناس وقليل من يسمع له، فإن الواجب عليه اليوم أن ينخرط في المجتمع ويشارك الناس في أفراحهم وأحزانهم، ويمشي في أسواقهم ويأكل ما يأكلون ويلبس ما يلبسون، ويقدم لهم الدين في وسطيته وعدله، لأن هذه المهمة هي التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين من بعدهم. 3 - المثقف والدور المفقود: إن الكلام عن دور المثقف في الأمة يستدعي منا التأكيد على ضرورة الخروج من دائرة العزلة الثقافية إلى ساحة الفعل الحضاري المؤثر في الزمان والمكان، لأن أغلب خطابات مثقفي الأمة لم تتجاوز النخبة، لذلك نجد بعض المثقفين يجتمعون في صالونات تخصهم لوحدهم، في حين عامة الناس من المجتمع يعيشون الجهل والتخلف، فالمثقف الحقيقي هو الذي ينزل لعامة الناس ويشرح لهم، لأنهم هم أولى بالمعرفة من غيرهم، وإذا نظرنا للأموال التي في أيدي النخبة من المثقفين تعد بالملايين، في حين لو أخذنا على عاتقنا تعليم الذين الأميين، فلن يكلفنا أكثر مما يصرف على الندوات والمحاضرات والملتقيات، فهذه بعض الصفات التي تميز بعض المثقفين اليوم: أ- الطهرانية: إدِّعاء الطهارة الفكرية، وأن عامة المجتمع من المعوقين فكريا والمتخلفين ثقافيا. ب- البرغماتية: يدور مع مصلحته حيث دارت ولا تهمه المبادئ، لذلك نجد أغلبهم من المتسلطين. ج- الهامشية: يترك ساحة النقاش والسجال، ويعيش أحلام اليقظة والانتظارية. 4 - ماذا نريد من المثقف؟ فكرة لابد من التنبيه إليها، فعندما أتكلم عن المثقف لا أقصد به الذكر دون الأنثى، فبناء المجتمع كله قائم عليهما معا، لأن التركيز على المشترك الكلي جزء مهم في تقدم الأمة، وليس كمن يقولون إن وظيفة المرأة أن تجلس في بيتها فقط، فالمثقف هو الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، للدلالة على أن المجتمع لا يقوم إلا بهما، إذن المثقف هو إنسان يترعرع في بيئة اجتماعية معينة، (الأسرة، المجتمع، المدرسة، التلفاز، المسجد، الجمعيات...)، لذلك لايمكن أن نتكلم عن دور المثقف إلا إذا استحضرنا أصله، ومن أين تلقى المعرفة، ولذلك يجب أن نميز بين جانبين من المعرفة، حتى نحدد المثقف الذي نريد: * المعرفة التي تجمع بين العقل والنقل وتجعل من المصادر التشريعية هي الأصل. * المعرفة التى تكتفي بالعقل، وتلغي النقل، وتجعل من المصادر تبعاً للهوى والمصلحة. فمن هنا يمكن أن نتكلم عن المثقف الذي نريد وماذا نريد منه، فاعتبارنا ننتمي إلى الأمة الإسلامية، فلاشك أن رصيدنا الثقافي والفكري يقوم على أساس الجمع بين العقل والنقل، إذن فعلى المثقف مايلي: - الانخراط في عملية البناء الفكري للأمة وذلك بالفاعلية، وأن يكون فقيها بالواقع. - أن يشكل الضمير الحي في الأمة، لا تغريه المظاهر ولا الأموال، يقول مالك بن نبي في كتاب (في مهب المعركة): (وعليه فإن الكاتب إذا أراد أن يؤدي رسالته كما ينبغي فإنه يجب عليه أن يبقى حراً...)، لأن في التبعية التنظيمية سلبيات وأهمها التحيّز الفكري. - التحلي بأخلاقيات النقد البنّاء، وليس مجرد النقد للظواهر المرضية في المجتمع، ومن شروط النقد كما حددها مالك بن نبي: الإخلاص للشهادة، والكفاءة للحكم. - فتح ورشات تكوينية لنقل الأفكار من النظري إلى التطبيقي، لأننا سئمنا سنوات البكاء على الماضي والتأزم من الواقع الحالي. تذكير: إن الحس النقدي الذي نريده من المثقف تجاه الواقع، سواء كان من داخل الأحزاب، أو أثناء مشاركته للسلطة، أو من خلال التفاعل مع المجتمع، يجب أن تكون فيه خاصية جوهرية وهي التعاطي بشكل نقدي في مناقشة الأفكار التي تخالف المصلحة العامة للأمة، وبشكل حواري هادئ وجاد. عود على بدء: لكي يقوم المثقف العربي بدوره كاملا في عملية الإصلاح ومحاربة الفساد، لابد من إتاحة المجال أمامه حتى ينتج للأمة خطابا ثقافيا جادا، وفتح كل قنوات التعبير أمامه، بدءا بالتعليم والإعلام وكل المؤسسات الاجتماعية، بحيث تكون مصلحة الأمة فوق كل المصالح، وأن يكون المنتوج الثقافي للمثقف يصبُّ في قضايا الأمة بعيدا عن المصالح الشخصية أو الحزبية، لأن الظروف الراهنة تفرض علينا أن نؤسس جيلا يجعل من الوعي الجمعي هدفه المنشود، فالآخر يعمل في صمت من أجل هدم كل القيم والمبادئ التي جاء بها الدين. والله أسأل التوفيق والسداد أمين.