يقول المفكر الراحل ادوارد سعيد في مقدمة كتابه (الثقافة والإمبريالية) بأن الأفكار وحدها هي القادرة على مقاومة الامبريالية ، والتصدي لجبروتها...، وهذه العبارة تحيل إلى مسألة العلاقة بين الثقافة والسياسة، التي كانت من ضمن القضايا المحورية والأساسية في أعمال ادوارد سعيد -الاستشراق الثقافة والامبريالية – تغطية الإسلام- المثقفون والسلطة ...) سؤال الثقافة، سؤال مهم ، رافق الإنسانية ، في جميع أطوارها وحقبها..، طرحته الأديان، والفلسفات، والحضارات جميعها بحيث لا نكاد نجد عصرا من العصور، لم تثر فيه المسألة الثقافية أي دور الأفكار في عملية التطور والتقدم والتحرر، الروحي والعقلي والمادي للمجتمعات البشرية ... إن للعمل الفكري وزنه وفعاليته في الصراع، وللمفكر دوره في عملية التغيير والتحول الاجتماعي.. إن علاقة الثقافة بالسياسة تندرج ضمن إطار بوتقة الصراع المجتمعي، وجدلية الفكر بالواقع، وما يترتب عنها، من تشكيلات إيديولوجية يجب أن تفهم فهما صحيحا من خلال ما تطرحه المباحث المعمقة لسيولوجيا المعرفة ..، التي تربط التغيير الإجتماعي بالوعي بمعنى القدرة على إدراك حقائق الأشياء ، وطبيعتها، وقوانينها المؤثرة في الجسم الاجتماعي (Le corps social ) باعتبار الفكر هو أساس الجهاز الاجتماعي ، كما يقول أوجيست كونت وبالتالي فلا سبيل لإصلاح المجتمع ، إلا بإصلاح الفكر الإنساني ،ويرى كونت بأن مظاهر الفوضى العقلية (l'anarchie mentale ) هي نتيجة اختلال في التفكير ، واضطرب في الفهم ، فبصلاح الفكر، يصلح ما فسد من الأخلاق و بصلاح الأخلاق تصلح جميع فروع الحياة الاجتماعية. إن العلاقة بين الثقافة و السياسة علاقة جدلية و في نفس الآن إشكالية معقدة ومركبة تنتهي في الغالب إلى صراع مرير بين طرفي المعادلة سلطة الفكر و سلطة السياسة. وبالرغم من وجود صراع متجذر بين الفكر السياسة ، فلابد من التأكيد من أن هناك ترابط وتأثير متبادل بين المجال الثقافي و المجال السياسي ، وذلك في منطلق ، أن الفكرة حسب رأي الأستاذ مالك بن نبي – لا تقاوم إلا لأنها العضو الفعال في الحياة السياسية . فالسياسة تعني اصطلاحا ، حكم الدول ودراسة المبادئ التي تقوم عليها الحكومات وعلاقتها بالمواطنين . وجاء في معجم روبير ( 1962 ) ، بأن السياسة هي فن حكم المجتمعات ومعنى كلمة (حكم) السلطة المنظمة (أي الدولة ) أما لسان العرب فقد ورد فيه ، بأن السياسة هي القيام بالأمر بما يصلحه والأمر يدل على تدبير شؤون حكم الدولة ... وخلاصة القول أن الدولة علم و فن و إدارة موارد.. ومن هذا المنطق فإن رجل السياسة يمارس سلطته على الواقع، يعمل على ضبطه وتوجهيه ، والتحكم فيه ، بوضعه في قوالب ونظم ، وأنساق تضبط مساره وذلك بإخضاعه للسلطة الحاكمة باعتبارها القوة التي تنوب عن المجتمع في تدبير شؤونه. ويرى ميكيافلي في كتابه (الأمير) بأن سلامة الدولة مقدمة على كل مصلحة أو شريعة .. ، فعلى ولاة الأمر أن يسوغوا عملهم للشعب بما يقنعه لاستدامة إيمانه بالشريعة وقوانين الإخلاص. ومن ثم فإن الحكم القوي في تصوره هو الذي يمزج بين دهاء الثعالب وجرأة الأسود لكي يلتف عليه رعاياه عن حب و مهابة وثقة ، لا عن خضوع وخنوع و استسلام.. أما الفيلسوف دفيهيوم فيرى بأن رابطة الاجتماع ، لا تخضع للتعقل في جميع الأحوال ، في حين يرى روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي بأن الإرادة العامة قوام القوانين والأخلاق. أما ماركس الذي يربط في أطروحته الاقتصاد بالسياسة فيعتبر أن الإنتاج الاقتصادي هو أصل كل سلطة وأصل كل عرف و عادة وأن الطبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج الاقتصادي هي التي تضع القوانين والآداب التي تخدم مصالحهم . وفي نفس السياق ذهب الفيلسوف الإيطالي باريتو مؤلف كتاب "العقل و المجتمع" ، يجب أن نلاحظ في تطبيق على نظريات الاقتصاد ، أنه من الوهم أننا أقرب إلى الواقع حين نبدأ بقانون العرض و الطلب مما نكون حين البدء بقانون الاستعمال و المنفعة أو الندرة و المحدودية وغيرها من القوانين الاقتصادية. فنحن في النهاية راجعون إلى التجريدات العامة .. ، فلا محيص إذن من التفرقة بين القوانين التي يثبتها التطبيق طردا وعكسا كقوانين الجاذبية مثلا وبين القوانين التي تبنى على حشد الأمثلة و المقارنات..، ثم نأخذ الحقائق فيها بالتغلب.. ". ويقرر باريتو ، أن أعمال الإنسان ، لا تقترن كلها بالتعقل ولا بمعرفة الأسباب ولا تكون الأسباب التي تعزى إليها هي الأسباب التي توحيها ولاسيما الأعمال التي تدور عليها سياسة المجتمعات .. " ففي كل المجتمعات تتصارع القوى وتتدافع المطامع، ولا ينقطع التنافس على مراكز الحكم بين ذوي الحول و الحيلة و الدهاء.. وسوف تتناوب الأجيال على مقاليد الحكم ، لأن المجتمعات لا تستقر على حال ، ولا تطرد على واحد بين جميع الأجيال . وما يمكن استخلاصه من استقراء الوقائع التاريخية ، وكذلك من التفكير المنطقي لشؤون السياسة في كل عصر أن السلطة السياسية توطد أركان الحكم بالقوة و الحيل و الدهاء لأن الغاية من السيطرة تكمن في إعادة تشكيل المجتمع ، وتوجيهيه التوجيه الذي يصون المصالح والآداب و العقائد التي يعلنها الحاكمون ويحافظون عليها.. وكلما أختلت و تصدعت البنية الاجتماعية نتيجة اضطراب الأحوال و تشعب المصالح .. ، يتم التطلع إلى حكم من طراز جديد وبأساليب شتى تمزج بين السطوة و الحصافة بحيث تجمع بين وسائل السياسة وغاياتها ... وخلاصة القول فإن السلطة هي المحرك الرئيسي للعمل السياسي ومن مقوماتها القدرة على السيطرة ، و التأثير و التغلب و الإكراه ... ومن خصائص السلطة القدرة على القهر كما يقول ابن خلدون وهي خاصة لازمة لكل حكم أيا كان شكله أو نظامه أو فلسفته . إن دراسة ظاهرة السلطة في المجتمع ، كشفت عن تلازم السلطة مع ما يتجاوز القوة و التغلب أو القهر في التأثير في المجتمع ونعني بذلك قوة الأفكار و المبادئ و القيم ...ومن هنا جاء تعريف جورج بوردو ، بأن السلطة هي قوة في خدمة فكرة فساهم في توجيه علم السياسة إلى ضرورة الأخذ بالعامل الثقافي ورافده المتعددة . وفي هذا الصدد نشير إلى رأي الأستاذ كاتلين الذي يقول بأن السلطة هي إرادة التسلط على الآخرين أو إرادة التوفيق بين إرادات متعارضة .. ، و بالتالي فإن الإرادة السلطوية قائمة وراء كل فعل سياسي أما عالم السياسة الأمريكي هارويد لزويل فيربط بين السلطة و القيم ، فهو يرى بأن السلطة لابد أن تكون في خدمة قيمة أو مجموعة من القيم فلا يمكن فهم السلطة إلا بدراسة التغيرات القيمية الحادثة في المجتمع ..، ويركز دفيد ايستن عالم السياسة الأمريكي في دارسته على التوزيع السلطوي للقيم في المجتمع من منطلق أن رجل السياسة يستطيع أن يتبنى سياسية ما أو يتخذ قرارا ما أو يرجح قيمة على أخرى باعتباره يمتلك قوة التمثيل و التنفيذ معا بخلاف المفكر الذي قد يطلق فلسفة للقيم قد يتقبلها الناس أو يرفضونها. وإذا كان الدور الرئيسي للرجل السياسية هو التأثير و التنفيذ و التقرير فإن السياسة انطلاقا من هذا الدور تعتبر عملية اتخاذ القرارات السلطوية المؤثرة في المجتمع. الحق أن كل الفعاليات المجتمعية تساهم بطرقة ما في صنع سياسة للمجتمع .. وأهم الفعاليات تأثيرا في المجتمع فئة الصفوة من قادة الرأي من مفكرين مثقفين وعلماء الذين يبدعون الأفكار ويصوغون المبادئ و القيم التي تتشكل منها الثقافة الرمزية للمجتمع. يتضمن العالم الرمزي الفن و العلم و الدين ... (القيم المركزية في المجتمع ) إنهم يحفظون قيم المجتمع و ثقافته الرمزية .. إن المثقف كائن رافض بطبعه ، يعيش بالأفكار ، ومن أجل الأفكار ويقوم بتوظيف كامل الأفكار بوصفها قيما تقود الحياة الاجتماعية . أحيانا يكون جادا مثل الأمير الذي يعمل في خدمته وأحيانا يكون مضحكا (مثل مهرج السرك. ) . المثقفون هم الذين ينتجون ، ويبدعون ، ويجددون في المجال الثقافي و الجمالي والإيديولوجي ... ويعتبر الإنتاج الفكري شكلا من المعارضة .. ، تجاه التقليد و تجاه السلطة باعتبارها مجموعة من المؤسسات (نظام سياسي أو ديني ) أنهم أحيانا حراس التقليد و القيم و مؤسسات المجتمع المركزية ، ويشاركون في نظام القيم الذي يشكل القلب الرمزي للمجتمع . لقد وجد محترفو الثقافة في كل المجتمعات كما وجد محترفو الكتابة والفكر، إنهم يتموضعون على حدود الفلسفة و السياسة وبين الدين و الثقافة من الناحية أخرى. تعتبر الانتلجنسيا (طبقة الصفوة من الأذكياء) بأنها ممثلة لشعب وناطقة باسمه ..، وبأنها ضمير الأمة . وهذا الادعاء يطرح مسألة التمثيل المعرفي أو السياسي لزمرة المثقفين ومدى صدقيتها أو شرعيتها . وما ينبغي التأكيد عليه بخصوص هذه المسألة يمكن إجماله في أن الفكر هو شهادة على عصر وحكم على واقع وكشف لحقيقته و المفكر أو المثقف هو الذي يحمل رسالة الفكر . إلا أن رسالة الفكر حسب رأي الأستاذ حسن حنفي ليست بعرض اكبر كمية من المعلومات وتغطية الواقع و تغليفه بها بدعوى نشر الثقافة وليست رسالة الفكر ترديد أي نظريات في أية بيئة حضارية .ولست رسالة الفكر الحديث بلغة العلماء وعرض النظريات على المستوى العلمي الخالص. رسالة الفكر هي التعبير عن الواقع بأسلوب مباشر يؤثر فيه ، وهي التحليل المباشر للواقع أو عرض الواقع نفسه فالواقع فكر، والفكر هو التعبير عن حركة الواقع و بالتالي فإن المفكر الذي يقدر له البقاء هو الذي يعبر عن واقع عصره أو يعي روح عصره. وقد اعتبر الأصوليين القدماء الحقيقة ذات طرفين النص و الواقع وأن النص بدون واقع فراغ وخواء وأن مهمة المفكر هي تحقيق المناط أي رؤية مضمون النص في الواقع المعاصر الذي يعيش فيه الفكر أو الفقيه أو المجتهد" (فكرنا المعاصر ص 15). المفكر إذن ينظر كلية إلى قضايا التي تثار حوله ويهتم بالتصورات المشتركة و المعاني الكونية و القيم المطلقة. إن سلطة الفكر تقوى في مواجهة حجر السلطة السياسية على العقول من أجل إحتوائها وتدجينها لكي تتحول إلى مجرد حواسب ذكية، مفرغة من الأحاسيس النبيلة، والحدس الجمالي، والقدرة على إجادة فن الحكم على الأشياء، وفهم أوسع للطبيعة البشرية. وبهذا الصدد يرى المفكر الفرنسي إدجار مورين (Edgar Morin) بأن أمراض الحضارة المعاصرة ناتجة عن ثلاثة أخطاء، هي العزل والتبسيط والإختزال، وكلها نتيجة ما يسميه بالذكاء الأعمى (l'intelligence aveugle) أو الحالة المرضية للمعرفة الإنسانية (Pathologie du Savoir) فلابد إذن، من معرفة جديدة، موحدة، وناظمة، وواصلة، وتنتمي إلى نسق، مفتوح، وفكر مركب.. إن العالم في نهاية القرن العشرين وقع في منحدر الأزمات (Crisiologie) نتيجة الحروب، والتلوث، والتقدم التقني السريع... إن الفوضى العالمية أفقدت العالم إنسجامه وتماسكه، ورمت به في متاهات، لا قرار لها.. لقد حولت العقلانية (Rationalisme) الأفكار إلى مذاهب، وعقائد تقولب العالم في صيغ جاهزة، تقضي على التنوع، والتعدد، والاختلاف. إن الذكاء الأعمى أدى إلى فكر تجزيئي، وتبسيطي، عاجز عن إدراك الحقيقة الإنسانية، بجميع خصائصها، ومقوماتها... الأمر الذي جعل الفكر الإنساني يدور في الحلقة المفرغة للعلم، والسياسة ، والإيديولوجيا... ويرى إدجار موران بأنه ما دامت العقلانية تراقب كل شيء، فإنه لن تكون هناك أية إضافة إبداعية بالنسبة للنوع البشري... وقبل أن تتعقد الوضعية، وتتفاقم الأزمة، فيجب أن نقي الفكر من كل مرض يهدد صحته، ويؤدي إلى التحضر الهمجي، وذلك بفعل النزعة الآلية للحضارة التقنية... إن التفكير ينبع إما من داخل مرجعية ثقافية (الأفكار والنظريات التي تتناول موضوعات الفكر) أو من خلال مرجعية معرفية (مفاهيم ونظريات لمقاربة موضوع يتناول معطيات الواقع، من أجل تحليله، وتفسيره). من هذا المنطلق يمكن التأكيد على وجود علاقة محددة بين الأفكار وبين ضروب النشاط البشري، بحيث يصاب النشاط بالشلل، عندما يدير ظهره للفكرة، كما تصاب الفكرة بالشلل اذا انصرفت عن الاهتمام بما يمور به الواقع من قضايا وأحداث.. ومفتاح المشكلة يكمن، في توجيه الأفكار لإقرار التوازن الضروري في هذا المجال، حتى لا يبقى هناك فراغ.. فالثقافة رسالة، تتجاوز الإيديواوجيات الجادبة، والخادعة..، لأنها هي مجموع الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية المؤثرة في الأفراد، تربط سلوكهم بأسلوب الحياة، باعتبارها فلسفة ومقومات للفرد والجماعة... يقول دلامبير (d'alember) وهو أحد الموسعين، من كتاب القرن الثامن عشر بأن غليان الأفكار، مثل السيل الجارف، يحطم الحواجز..، ومثل المد والجزر في المحيطات، فهو يلقي إلى الشاطئ بأشياء، ويحمل معه أشياء أخرى .. والمثقف صاحب رسالة، ومبادئ، يحمل أفكارا لتغيير الواقع الاجتماعي، والسياسي.. وحول هذا الدور نسجت العلاقة بين الثقافة، والسياسة، عبر العصور..، ومنذ القرن الثامن عشر أصبح المثقف يتصدى النظام السياسي و الاجتماعي ويستمد منه سلطته، ويستوحي رسالته ودعوته إلى الحرية والعدالة، والتقدم..