من المؤكد أن الحاجة ستظل دائمة إلى المثقف باعتباره سلطة معرفية وضميرا للأمة ومناهضا لكافة أشكال التطرف والنكوص إلى الماضي، ومحرضا على الانخراط في العصر واحتضان الثقافة الكونية. ولكن هل مازال ل"المثقف العضوي" بتوصيف المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، وجود في مغرب اليوم ، أم أنه استقال من هذه الأدوار وانزوى بعيدا عن كل ما يحدث في مجتمعه؟ وكل ما يموج من مخاضات وأسئلة كبرى لمجتمع مغربي متحول ومتطلع للانخراط في أفق الحداثة . و هل استقالة المثقفين من المشهد العام هي بمثابة ارتكان إلى حياد سلبي يبدون فيه غير معنيين بتقلبات السياسة وأهوائها، منتصرين فقط لاختياراتهم الفكرية والأدبية كأفق وحيد يتماهى مع وجودهم وحضورهم الرمزي. أيمكن اعتبار انسحاب المثقفين من المشهد السياسي، انسحابا من نوع من السياسة، فقدت الكثير من مقومات الفعل السياسي النظيف، القائم على مشاريع فكرية ومجتمعية واضحة، وعلى الصراع والمنافسة الشريفين ؟ أم أن الأمر يتعلق فقط بالابتعاد عن المشاركة السياسية بشكل مباشر، دون أن يعني ذلك أنهم غير آبهين بالسياسة كعمل نبيل يرتكز على الأخلاق والقيم والمشاريع المجتمعية الواضحة. تستمد هذه الأسئلة مشروعيتها من كون استقالة المثقفين، أضحت إحدى خصوصيات الواقع المغربي الذي يتميز بتراجع الثقافة وتأثيرها مقابل هيمنة السياسة وتحررها من سلطة الثقافة باعتبارها حكما وضميرا ومنارا . وما بين من يعلن نهاية المثقف ويشيعه إلى مثواه الأخير، وبين من لا زال يؤمن بأن المثقف لم يلق ولا يجب أن يلقي سلاحه جانبا، لأن معارك التغيير والتنوير والتحديث ما زالت تفرض حضوره المؤثر والموجه، ينتصب موضوع "استقالة المثقف" كأحد تجليات أزمة السياسة اليوم. + هل يمكن الحديث عن استقلالية المثقف في مغرب اليوم + مما لا جدال فيه أن المثقف المغربي قام بأدوار طلائعية في عهد الحماية وكان في مقدمة المطالبين بالاستقلال ومتزعما للحركة الوطنية، وتواصل الحضور القوي للمثقفين في المشهد السياسي وانخرط السياسي والثقافي في انسجام وتناغم في تحديات بناء المغرب الحديث بعد حصول المغرب على الاستقلال. وطوال عقود الستينات والسبعينات وربما إلى حدود تجربة حكومة التناوب التوافقي سنة 1997 ظل المثقفون حاضرين في المعارك الاجتماعية والسياسية يحتلون مواقع متميزة داخل الأحزاب الوطنية ويرفعون شعارات الديمقراطية والتحديث والعدالة الاجتماعية. من المؤكد أن تحولات كبرى قد حدثت في العقد الأخير في المجتمع وعرفت أسئلة الثقافة والسياسة بدورها تحولات، حيث من المفروض أن يدفع الحراك الثقافي والسياسي الذي تشهده المملكة بالمثقف لتجديد أسئلته ليواكبها ويساهم فيها بقوة، إلا أن تراجع دور المثقف في المشهد السياسي دفع ببروز مصطلح "استقالة المثقف". ويعتبر الأستاذ بنسالم حميش، أنه لا يمكن إطلاق صفة المثقف على أي كان، ف"المثقف في المجتمعات المتقدمة هو الضمير النقدي للمجتمع ويتوجب عليه أن يكون أعلم الناس بما يجري في المجتمع وما يحصل له في الماضي وفي الحاضر ومن أجل استشراف المستقبل". وأضاف المفكر والأديب المغربي في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن المثقف الذي يمارس الثقافة من أجل الثقافة هو غير معني بما يقع في المجتمع، وبالتالي فهو "لا يستجيب لمعايير المثقف كما يلزم أن يكون". من جانبه، يرى المفكر محمد سبيلا أنه لا يمكن الحديث عن استقالة المثقف بل عن مخاضات اجتماعية وسياسية وإيديولوجية ضخمة غيرت خريطة المثقفين وأدوارهم، إذ لم يعد المثقفون منخرطين في العمل السياسي المباشر، وتفرغوا لعملهم الثقافي ليقدموا بالتالي خدمة للجمهور وللوطن وللثقافة المغربية عبر كتاباتهم. وأكد الأستاذ سبيلا في تصريح مماثل، أن "استقالة المثقف" مقولة غير دقيقة ومضللة لأنها تتضمن "حكم إساءة تجاه المثقف الذي لم يعد قابلا للتبعية وللخضوع وإبداء كل أشكال الولاء المجاني"، موضحا أنه يمكن الحديث بالأحرى عن استقلالية المثقف لأنه مزود بقدرات على الفهم والتحليل واتخاذ مسافة حيال الأحداث والقرارات. ويقر المفكر المغربي بأن تراجع دور المثقفين يمكن أن يكون ساريا بالنسبة للمثقف التحديثي في الأحزاب الوطنية الديمقراطية نتيجة "انخراطها في السلطة، وفي التناوب التوافقي والدخول الواسع لفئات المناضلين والمثقفين في السلطة" التي أفرزت نوعا من الانحسار في تعاطي الشأن الثقافي الحزبي، إما لتفرغ المثقف مهنيا أو نتيجة ل"خيبات أمل المثقفين في السياسيين وخاصة المثقفين الذين لم يندمجوا في السلطة ولم يستفيدوا منها أو لم يشعروا أنهم قادرين على الانخراط فيها". + جدلية السياسي والثقافي+ واعتبر الأستاذ حميش، وهو أيضا عضو المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أنه كان هناك طوال عقود "تبخيس للبعد الثقافي باعتباره ترفا وبذخا ليس إلا"، مشيرا إلى أن "السياسي يستخف دائما بالمثقف ويحذر منه وعند لحظة القرار يهمشه وهذا أمر حاصل في الكثير من الأحزاب المغربية في حين أن الأحزاب في البلدان المتقدمة لا تشهد انتعاشا إيديولوجيا وفكريا إلا بفضل المثقفين لأنهم أهل معرفة وفكر وتنظير وهم الذين يمتلكون السلطة الفكرية". وعبر السيد حميش عن أمله في أن يقع نوع من" التصالح ما بين المثقفين وما بين السياسيين"، مشددا على ضرورة توزيع الأدوار بينهما، فالسياسي برأيه يقوم بعمله ويعرف الخريطة السياسية وموازين القوى وله قدرة على التكتيك، غير أنه لبلورة كل هذا لا بد أن تتم الاستعانة بكفاءات المثقف ولاسيما "المثقف المفكر" لأنه هو الذي سينظر في تطبيق هذا البرنامج. وأكد أن التناغم بين السياسي والمثقف مطلوب ف"المثقفون في الأحزاب بألمانيا وفرنسا وإيطاليا مثلا سواء من اليمين أو اليسار هم الذين يزودون هيئاتهم السياسية بالقدرة التنافسية في مجال الأفكار، خاصة وأن الأفكار هي التي تقود العالم وتقود السياسات". واعتبر الأستاذ محمد سبيلا أن العلاقة بين ما هو ثقافي وما هو سياسي معقدة لأن الثقافة، وعلى عكس التصور الماركسي الذي يعتبر الاقتصاد هو الموجه والمحدد، تعد بنية تحتية عميقة موجهة لاختيارات المجتمع و للإيديولوجيا وللثقافة بل موجهة حتى للسياسة والاقتصاد. وأوضح أن قوة البنية الثقافية وعمقها ورسوخها يتم على المدى البعيد وليس على المدى القريب، لذلك يظهر أن الثقافة تابعة للسياسة لأن هذا "التحكم يرتبط بسلطة الدولة وبسياستها وبإمكانياتها وبقدرتها على تدجين وترويض النخب". وأضاف "عادة السياسة تنتقي أطرها من المجال الثقافي وخاصة المثقفين الذين لديهم قدرة على التكيف مع معطيات المجال السياسي، لأن المجالين مختلفين، فمجال السياسة، هو مجال المصالح والمرونة والفعل والتأثير المباشرين، في حين أن الثقافة هي مجال القيم والمثل واليوتوبيات". + في الحاجة إلى المثقف + وأبرز الأستاذ حميش أن الحاجة إلى المثقفين ستتقوى بفعل الأزمات التي تعيشها الأحزاب لأن" الأزمة هي الموقظ وهي التي تجعل مناضلي حزب معين مثلا في حالة تعبئة لكي يعيدوا الاعتبار له ويجعلوه فاعلا ومؤثرا وقويا، وفي هذه الحالة لايمكن القفز على الباحثين والمحللين إلا إذا أردنا أن نقفز عليهم إلى الهاوية". من جهته، يرى الأستاذ سبيلا أن الحاجة إلى المثقف ليست حاجة سريعة وظرفية بل هي حاجة عضوية بنيوية في المجتمع وهي "حاجة معرفية لأن المثقف هو ناقل للمعرفة ومترجم لها ومساهم في إنتاجها، وأيضا لأن دور المثقف يتجلى في قدرته على التوعية واستيعاب التحولات واتخاذ مواقف نقدية تجاهها وذلك بحكم كفاءته النظرية وبحكم امتلاكه لمفاهيم وأدوات مستقاة من العلوم الاجتماعية والإنسانية والفلسفية العصرية". + اتحاد كتاب المغرب بين إرث الماضي وتعثرات الحاضر + مما لا شك فيه أن اتحاد كتاب المغرب، الذي حرص منذ تأسيسه على أن يحافظ على استقلاليته، واكب التحولات المهمة التي شهدها الحقل الأدبي والثقافي وساهم في بروز أجيال من الكتاب، ودافع عن قيم جمالية مختلفة. كما أن هذا الصرح الثقافي الذي ظل طيلة عقود طويلة محتضنا لكل المثقفين المغاربة بتوجهاتهم السياسية والأدبية المختلفة ساهم بشكل كبير في خلق ثقافة مغربية جديدة تقوم على الانفتاح والتعدد وتدافع عن قيم التحديث والعصرنة. غير أن الأزمة الداخلية التي شهدها الاتحاد مؤخرا وتراجع تأثيره مقارنة مع الماضي جعل البعض يدخل هذا الانحسار في سياق التراجعات العامة التي تعرفها العديد من الإطارات السياسية والجمعوية وإن كان من المفروض أن ينفلت مجال الإبداع والأدب من هذا الجمود. وفي هذا السياق، أوضح الناقد والباحث عبد الرحيم العلام، أنه "لا يمكن أن نزعم بأن دور الاتحاد الثقافي والتأثيري قد تراجع، فالمتأمل في أنشطة الاتحاد، وفي مواقفه، وفي إيقاع تزايد أعضائه، ومنشوراته، وانفتاحه على المحيط الثقافي والاجتماعي العام، من شأنه أن يلمس ربما عكس ذلك". ويعترف نائب رئيس اتحاد كتاب المغرب، في تصريح مماثل، بأنه "ثمة بالفعل تراجعا لافتا قد طال اليوم الدور الاعتباري للمثقف في مجتمعه، بحكم تضافر عوامل عديدة، ساهمت في بروز هذا التراجع بشكل سلبي، من ذلك مثلا انكماش النخب التقليدية، موازاة مع انشغالها بالبحث عن سبل أخرى، لتحقيق المزيد من رغائبها وطموحاتها الشخصية، وتبعيتها المبالغ فيها للسياسي والظرفي، وانحسار دور المقاومة والمواجهة والانتقاد لديها، مع استثناءات قليلة". كما عزا هذا الانحسار أيضا إلى تراجع دور الجامعة، وتدني مستوى التعليم والبحث بالمغرب، وبروز ثقافة نكوصية مهيمنة، وتراجع دور الأحزاب السياسية في تفريخ نخب جديدة مؤثرة. وخلص الناقد إلى أن "ثمة بريق أمل يشع في الأفق، مبشرا بعودة المثقف إلى الواجهة، وهو ما يزكيه اليوم تزايد الشعور لدى المثقفين بضرورة خلق حوار وطني حول الثقافة ودورها، حوار من شأنه أن يعيد الأمل والثقة للمثقف، وأن يعيد للثقافة مكانتها وموقعها واستقلاليتها، وبالتالي استرداد ما ضاع منها من فرص تاريخية عديدة". ولعل النداء الذي أطلقه الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في أبريل الماضي من أجل ميثاق وطني للثقافة، من شأنه أن يساهم ، بالإضافة إلى مبادرات أخرى في إبقاء بوابة الأمل مشرعة، لأن "النكران المستمر لرهان الثقافة "حسب صاحب جائزة الغونكور "يعرض للتلف المكتسبات ذات البعد الرمزي القوي التي تحققت خلال العقد الأخير، وأفدح من ذلك قد يؤدي في المستقبل إلى تعطيل المشروع الديمقراطي برمته".