ستظل العلاقة بين المثقفين والسلطة دائمة، ملتبسة، غامضة ومتأزمة، ليس لأن التناقض هو الذي يطبعها دائما، بل لاختلاف في نوعية المصالح والمنافع وتباين في التوجه والغايات. قد يلفي المثقف نفسَه متوافقا ومنسجما مع سلطة ما في سياق سياسي مُعيَّن، حيث يرى في توجهها السياسي التجسيدَ الأمثل للحركة الجوانية لفكره ونظرياته. ولعل الكثير من المثقفين والمفكرين الألمان خبروا ذلك إبان النظام النازي (كارل شميت -هايدغر -غوتغريدن -إرنست يونغر... على سبيل المثال لا الحصر). أحيانا أخرى، قد يلفي المثقف نفسه متعارضا مع السلطة، تعارضا جذريا، مما يحول اختياراته الفكرية والحياتية إلى نوع من المحنة الدائمة، والأمثلة في هذا السياق كثيرة. يلزم، دوما، تناول هذه العلاقة بحذر شديد، لأن السلطة لا تصدر دوما عمن يُفترَض فيهم امتلاكها (الحاكمين)، بل قد تأتي من الأسفل، تماما كما هي آتية من الأعلى، لأن السلطة علاقة أو حزمة علاقات وليست ماهية ثابتة أو شيئا ما نمتلكه. هنا، بالذات، يمكن القول إن سلطة المثقفين أو الشرعية المتخيَّلة أو الملموسة التي يتوفرون عليها قد تكون، نوعا ما، الجانب الآخر للسلطة، مع اختلاف في الآليات وطرق الاشتغال والأهداف. الآن، هاجرت الانخراطات الثقافية نحو أصقاع أخرى، حيث تسود السلطة التحليلية الدقيقة للخبير الذي يمنحنا تمثُّلاتٍ محدَّدةً لحالات وظواهرَ محددة، هي الأخرى، ومضبوطة. وبمقدار ما انْذَغَم العالم في سرعاته القصوى نحو المزيد من الخبرة والتقنية والحكامة الثقافية أو المعرفية، بمقدار ما تزايد الطلب على الخبراء، باعتبارهم التجسيد ال«ما بعد حداثي» لصورة المثقف. هل تكفي صورة المثقف كخبير للاستجابة للحاجيات المتعددة والمتشعبة التي تُطرح على العالم، سياسيا، معرفيا، اجتماعيا واقتصاديا؟ وهل بإمكان الخبير أن يُنتج ثقافة على مقاس الإنسان؟ هل يمكن التحليلات الناهضةَ على الصرامة العلمية والتَّقانة والخبرة الدقيقة أن تكفي، وحدَها، للإجابة عن المخاطر التي تطرحها الكثير من الظواهر على الإنسانية، ككل، أيا كانت انتماءاتها السياسية والثقافية والعقائدية؟ وهل ماتت، بالفعل، الحاجة إلى المثقف المنخرط، سياسيا وإيديولوجيا، كما جسد ذلك سارتر، مثلا؟... يلفي المثقف المغربي نفسه، باستمرار، أمام اختيارين اثنين لا ثالث لهما: إما الانخراط في دواليب السلطة والاستجابة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لنداءاتها، من خلال ما يسمى «تجديد النُّخَب»، أو رفضها والانكفاء، بالتالي، داخل عزلته المعرفية الزُّهْدية. يمثل النموذجَ الأول المرحوم علال الفاسي، إلى جانب أسماء أخرى كثيرة، ويمثل الثاني، على سبيل المثال لا الحصر، المرحوم محمد عابد الجابري. إن المثقف حديث في المغرب، تماما كما الثقافة التي يحملها والأدوار المنوطة به. أما قديما، فقد عُرِف المغاربة فقط كفقهاء يتحدد وجودهم بمدى اقترابهم من المخزن أو نأيهم عنه، لكنهم يظلون، على المستوى الثقافي، منتجي أفكار محافظة ونُكوصية في الأغلب الأعم. ظل المثقف المخزني، إلى حد ما، منسجماً مع نفسه وتوجهاته وسقف انتظاراته، لأن الأفكار التي أنتجها كانت توظف، باستمرار، كإيديولوجية لشرْعنة السلطة ومنحها الدعائم السياسية والفكرية التي يمكن أن تنهض عليها (الدور الذي لعبه مثقفو الحركة الوطنية أو بعضهم في مسألة إمارة المؤمنين والطابع العروبي للدولة... إلخ). لكن انفتاح المثقف المغربي، وخصوصا منذ أوساط ستينيات القرن الماضي، على تيارات فكرية ونظريات غربية متعددة ومختلفة، كالاشتراكية والماركسية والسوسيولوجيا (علم الاجتماع) وغيرها، أدى إلى بروز نمط آخر من المثقف العفوي المنخرط في القضايا السياسية والمدنية، وهو ما سماه المرحوم عبد الكبير الخطيبي، في إحدى مقالاته، «المثقف المذهبي الذي يضع معرفته رهن إشارة القضية التي ينخرط فيها ويتموْقف دفاعا عنها L'intellectuel) doctrinaire). لقد غيَّر هذا المعطى الجديد من طبيعة العلاقة بين المثقف المغربي والمخزني، إذ صارت صدامية، تناقضية، بعدما كانت مُهادِنة. برزت، إذن، صورة المثقف المتمرد المسلح بمعرفة نظرية واسعة وصلبة تسمح له بتحليل الواقع الملموس بأدوات ملموسة. إنها صورة المثقف كمتدخل في الحقل السياسي، بقصد منازعة السلطة شرعيتَها. برزت هذه الصورة بالذات في المغرب كنتيجة غير مباشرة لعقد تناقضات متشابكة التأثيرات والأسباب. كانت هناك ردود الفعل اليسارية على هزيمة 7691، حين انتقض مثقفون عديدون في العالم العربي ارتبطوا بحركات قومية وماركسية، على الأنظمة الدكتاتورية الانقلابية المسؤولة عن «النكسة»، ومن ضمنها النظام الناصري. تنضاف إلى ذلك تأثيرات ثورة الطلبة والعمال في ماي 8691 في فرنسا وحركات التحرر الوطني في مناطق متعددة من العالم. السمة الأخرى التي ميَّزت هؤلاء المثقفين الملتزمين يساريا بقضايا الفئات الشعبية انفتاحُهم على المعرفة والثقافة الغربيين وكون الكثيرين منهم مارسوا الكتابة الأدبية والسياسة باللغة الفرنسية. يكفي، هنا، التذكير بالدور الهام الذي لعبته مجلة «Souffles» عند نهاية عقد ستينيات القرن الماضي، والتي تساوق صدورها مع صيغتها العربية «أنفاس»... انشغل المثقفون اليساريون بقوة بمسألة التحرر الوطني، وبالمسألة الثقافية، خصوصا في شقها الوطني الديمقراطي. صاحب هذا الظهورَ نوعٌ من التوافق التام بين مهمة المثقف، كمنتج للأفكار والمعرفة في مجال تخصصه (علم الاجتماع، الكتابة الأدبية، العلوم السياسية، التاريخ... إلخ)، ومهمته كمتحدث باسم الفئات الشعبية المهمَّشة والمقصية من دائرة الإنتاج، ومن مجال السلطة والعدالة الاجتماعية. حضرت فكرة الالتزام السياسي، بقوة، كعنصر مؤسس لهذا التاريخ السياسي الحديث للمثقفين في المغرب، تاريخ الحلم والطوبَى «Utopie» (بلغة عبد الله العروي) والرماد. كانت التجربة التاريخية والسياسية والثقافية لمثقفي اليسار مشوبة، دون شك، بأعطابها وعوائقها. كانت تجربة أقلية نخبوية مفصولة عن شرائح الشعب، الذي افترضت الحديثَ باسمه، والإسهام، بشكل فعال، في تشكيل وعيه الطبقي والسياسي والسماح له بإمكانية تملك وجوده التاريخي ضمن شروط تاريخية ملموسة. لا يمكن الأفكارَ، مهما كانت طبيعة القضايا التي تدافع عنها، أن تغير العالم إلا إذا كانت هناك قوى اجتماعية فعلية تسنُدها وتدعمها. كل الحركات والتيارات الفكرية التي تغيَّتْ إنجاز مهمة التعبير أخفقت، للسبب نفسه. تُعلمنا التجربة، دوما، ضرورة إيجاد نوع من التوافق بين الكلام الحي والمنشغل بقضايا حارقة والفعل المرتبط بواقع إكراهيّ. إنها الضرورة التي تدفع المثقفَ الملتزم، باستمرار، إلى الاشتغال في ظل عقدة تناقضات صعبة. يعلمنا هذا الدرس، أيضا، إمكانية الحوار وقواعد التعايش، وهو ما يفترض في المثقف التوفر على فضيلتين أساسيتين: الصمود واحترام كرامة الآخر والتسامح الفعلي. انتهى الكثير من المثقفين الذين عايشوا تلك التجربة وانخرطوا فيها وجوديا وإبداعيا، إما إلى الصمت أو الهجرة أو إلى الاكتفاء بالكتابة الأدبية أو البحث في مجالات تخصصهم، والقليل منهم، مثل عبد اللطيف اللعبي، ظل حاضرا، بشكل ما من الأشكال، داخل الشأن الثقافي والسياسي العام، لكنْ وفق نمط من الانخراط النقدي المسائل للظاهر والخطابات، الانخراط المدني المواطِن، الذي ينأي، بكثير، عن كل أدْلَجة مجانية أو تبسيط سياسويّ ضيّق. البعض الآخر فضل نوعا من المصالحة مع الذات الفردية، أولا وأخيرا، أي إعادة النظر، جذريا، في ماضية والقطع معه جملةً وتفصيلاً، دون القدرة، أبدا، على مجابهته ومساءلته، نقديا. فضَّل هذا النمط الثاني من مثقفي مرحلة الالتزام اليساري العيش بلا ذاكرة أو بذاكرة مثقوبة، ليلغي نفسه متوافقا مع أحد الاختيارين اللذين تحدثنا عنهما أعلاه، وهو الانخراط في مسألة تجديد النُّخَب، لضخ دماء جديدة في شرايين السلطة. كانت هناك، طبعا، اختلافات ملموسة في النوايا والمقاصد. يتعلق هذا الأمر، بالذات، بمسألة الاختيارات ولا علاقة له بأي شأن متعلق بالنزاهة. السؤال الوحيد الممكن طرحه في هذا السياق، هو: لماذا فضَّل الكثير من المثقفين الفاعلين في تلك المرحلة المسماة «سنوات الرصاص» أن يعيشوا بلا ذاكرة وأن يحرموا الأجيالَ القادمة من جزء هام من تاريخهم الثقافي والسياسي الحديث؟! ليس المجال هنا، أبدا، لمحاكمة النوايا وشرحها انطلاقا من التفسير التآمري للوقائع والأحداث، لأن نزاهة هؤلاء المثقفين وطبيعة مسؤوليتهم الفردية والأخلاقية تظلان فوق كل اعتبار، وتكفي هنا الإشارة إلى العمل النزيه والباذخ الذي أنجزه الراحل أحمد بنزكري لتأكيد ذلك. فضَّل بعض المثقفين من كبار منتجي الأفكار في المغرب الحديث، للأسف، العيش كجُزُر متباعدة، حيث تجاهل كل منهم الآخر، بشكل ما من الأشكال، كالمرحومين محمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي... حاول كل منهم بناء إشكالياته النظرية بعيدا عن الآخر، وفي عزلة تامة، مقطوعا عن الإرث الفكري الذي أنجزه كل واحد منهم على حدة، فلم نَرَ العروي يناقض أطروحة «النقد المزدوج» عند الخطيبي، ولا الجابري يناقش «إشكالية التراث والحداثة» عند العروي، والعكس.. كان هذا التجاذب والتأقْطُب والتباعد، في حد ذاته، وسيلة إغناء فكري ونظري في الحقل الثقافي المغربي الحديث، ولكنه أقصى إمكانية التلاقُح الفكري بين الأطروحات والإشكاليات المطروحة من طرف كل واحد على حدة، كما كان الحال، مثلا، بين جيل دولوز وميشيل فوكو في فرنسا وغيرهما. صنف الخطيبي في مقاله آنف الذكر (جريدة البيان بالفرنسية 52/30/8002) المثقفين إلى: المثقف المذهبي الذي يواجه معرفته لخدمة قضية. المثقف التأويلي الذي يقوم بإعادة قراءة النصوص (المقدسة أو غير المقدسة). المثقف العضوي الذي يرى نفسه رجل علم وعمل. المثقف الممارس لمهنة المدرس الباحث. المثقف التواصلي الذي فهم، بعمق، علاقة العلامة المكتوبة مع الصوت والصورة. الآن، يمكن أن نضيف إلى هذه التصنيفات نموذج المثقف المدبر (L'intellectuel gestionnaire) الذي برز مع تزايد الطلب على الخبرة الموثوق منها، والتي تسهم في توجيه القادة والسماح لهم باتخاذ القرارات في ما يخص السياسات العمومية. إنه نموذج المثقف الذي برز، الآن، في المغرب وأصبح تأثيره متزايدا في دوائر الشأن العام.