إنه لشيء مُفرح أن نرى الشباب المتعلم والمثقف المتحمس للالتزام والمتعطش للمعرفة والتواق لحمل المشعل يجتمع حول العلماء والمفكرين وقادة الإصلاح بكل إخلاص واحترام وتقدير وتبجيل، ولكن ما يشوش على هذه الصورة الجميلة أن نرى بعض الشباب يسمع من شيخه أو قائده، دون أن يعقب ودون أن يميز أو يمحص الأفكار ومضامينها، أو يناقش الفكرة أو ينبه إلى جوانب الضعف فيها. وأنا أتكلم عن هذا الموضوع بعد أن عاينت بعض الحالات التي بلغ فيها الوضع ،وإن خاض القائد أو العالم في أمور خلافية أو في أمور بعيدة عن مجالات تخصصه، و إن تكلم على سبيل الجزم في أمور قد يخالف فيها المنطق ومعطيات الواقع ومسار التاريخ وقوانين الطبيعة، فإن جمهوره لم يتعلم إلا أن يُسَلّم له بما يقول وأن يتقبل منه كل أفكاره بكل تسليم ودون نقاش. وكأننا بذلك نعيد إنتاج عبارة بعض المتصوفة :"من قال لشيخه لم يفلح أبد" ولئن كان البعض في معالجته لهذه القضية يتوجه بالدرجة الأولى إلى الأتباع وإلى المرؤوسين من أجل حثهم على التحلي بروح النقد والتفكير المبصر، وهذا أمر جيد، فإنني ارتأيت أن أتوجه إلى كل إنسان مسؤول أو قائد أو زعيم أو شيخ أو رئيس أو أي إنسان له أتباع ومعجبون ومريدون، بأن يستشعر أنه بالقدر الذي يحرص على أن يربي فيهم روح الاحترام والتقدير والتبجيل والتأدب في حضرة العلماء والمشايخ أو القادة والمسؤولين، يجب أن يربي فيهم أيضا الحس النقدي الذي لا يتنافى أبدا مع التأدب والاحترام. إن على العالم أو المفكر أو القائد أن يعلم أن مناقشته في أفكاره ونظرته للأشياء ليست أبدا تطاولا عليه ولا عدم تقدير لعلمه ومكانته، ما دامت في حدود الأدب واللياقة والاحترام، بل إنها أخذ وعطاء بينه و بين تلامذته وتعاون بين الزعيم وأتباعه وبين الرئيس ومرؤوسيه، وأن اختبار الأفكار وتمحيصها وتقليب النظر فيها هو الوسيلة الفعالة لتسديدها وتقويتها باستدراك جوانب الضعف فيها، بل إنها التعبير الحقيقي عن التفاعل والتجاوب مع أفكار القائد أو العالم. ونستحضر هنا مثالين اثنين من قصص الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه، الأولى تتلخص في حديث تأبير النخل، والثانية في مشورة الحباب بن المنذر في بدر، ففي الوقت الذي نجد في القصة الأولى أن القوم الذين أخذوا برأي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم تأبير النخل دون مناقشة بالرغم من علمهم بأهمية التأبير والتلقيح، وامتثلوا دون أن يتبينوا ما إذا كان ذلك وحيا أم أن المسألة تدخل في إطار أمور دنياهم القابلة للتمحيص والنظر العقلي، فما كانت النتيجة إلا أن جاء شيصا . أما في الثانية فإننا نجد أن الحباب بن المنذر عندما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر قبل الماء، جاءه فقال له: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فلما أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". أشار عليه بتغيير المكان،واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه وكان أحد أسباب النصر. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك يرسم المنهج الذي على القائد أن يلتزم مع أتباعه في احترام آرائهم والأخذ بها كما في الحالة الثانية وأيضا في تربيتهم على التمييز بين مجال تخصصه ومجال تخصصهم كما في الحالة الأولى... إن زرع روح النقد عند الأتباع وتربيتهم على مساءلة الأفكار ليس فقط في مصلحة هؤلاء الأتباع، بل إن المستفيد الأول هو القائد نفسه، إذ أنه بذلك يحيط نفسه بنقاد ومفكرين قادرين على التعاون معه وتدعيم أفكاره وتسديدها وتحصينه من الغرور أو من تغرير المريدين، وكل قائد يعمل على أن لا يحيط نفسه إلا بالمريدين المعجبين الذين يسلمون بأي شيء يقوله والمستعدين للقبول بكل ما يصدر عنه فإنه قد دق بنفسه أول مسمار في نعش نجاحه وتفوقه، وقد حكم على نفسه وعلى أفكاره ومشاريعه وأتباعه معه بالتوقف بل التخلف عن مواكبة حركية التجديد.