لماذا فقد النقد المغربي أسبقية استنبات المفاهيم النقدية الرائدة في العالم العربي؟ ولماذا لم يعد ينتج رؤية نقدية شاملة؟ وهل يعاني فعلا من أزمة، أم أن العطب يكمن في قرائه وهشاشة المناخ الثقافي؟ يحظى النقد الأدبي المغربي بتقدير خاص في العالم العربي، ولا يتردد المهتمون في الإشادة به كواقع فرضته نوعية الدراسات النقدية التي قدمها النقاد المغاربة، صورة لم تتكون من فراغ بل هي كما يقول عنها الناقد المغربي سعيد يقطين في أحد حواراته، تكونت بسبب جدية الدراسات الأدبية وعمقها المعرفي والمنهجي وجدتها أيضا... ولطالما اصطدم المبدعون بالمغاربة، عن حق أو باطل، بمقولة أن النقد أقوى من الإبداع بالمغرب، لكن الأكيد أن النقاد المغاربة من أكثر النقاد حضورا وبروزا على مستوى دور النشر المشرقية التي تسارع للتعاقد معهم، كما أن الأقلام النقدية المغربية تجد طريقها بيسر إلى أقوى المنابر الثقافية العربية، وقلما تخلو مجلة أو صفحة أدبية أو مؤتمرات أكاديمية أدبية جادة من حضور نقدي أدبي مغربي... لكن مقابل هذا الاحتفاء بالمنجز النقدي المغربي الحديث، هناك حديث أيضا عن أزمة نقد لم تتردد العديد من الأسماء النقدية المغربية من طرحها، فما هي حقيقة فقد النقد المغربي الأدبي لأسبقيته في مجال استنبات المفاهيم النقدية الرائدة في العالم العربي؟ وهل صحيح أنه لم ينتج رؤية نقدية شاملة... وما هو موقف النقاد أنفسهم من هذا الطرح الذي يتصاعد شيئا فشيئا ويسائل المنجز النقدي الأدبي على وجه الخصوص؟ لا يمْكن أنْ يزدهرَ النقد المغربي في ظلّ مناخ ثقافيّ هشّ مصطفى النحال كثيراً ما يردد بعض الكتّاب والإعلاميين أنّ النقد المغربي اليوم شبه غائب بل ويعيش أزمة حقيقية. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الحُكم ينطوي على جزء من الصحة، ولا سيّما ما يتعلق بالحضور الإعلامي وبحجم الندوات واللقاءات. لذلك، لا بدّ من القوْل إنّ ما يمكنُ أنْ يعتبره البعض، اليوم، أزمة في الخطاب النقدي المغربي، هي مسألة في غاية النسبية. لأنّ السؤال الوجيه في هذه الحال هو: ماذا نقْصدُ بالأزمة. والحالُ أنّ المكتبات مليئة بالدراسات وبكتب النقد العربي المختلفة، مما يطرح مشكل ليس الإنتاج وإنما القراءة، المشكل في القارئ وليس في الناقد، هذه ملاحظة أولية عامة. وبالتالي فإنّ الأزْمة الحقيقية توجد في مكانٍ آخر، يمكن أنْ نسمّيه بصفة عامة «المناخ الثقافي والمجتمعي» الذي تعرفه بلادنا منذ ما يربو على العقْد من الزمان. هذا المناخ الذي يؤشّر على وجود تحوّلات أساسية تتجلى أبرز مظاهرها الموْضوعيّة في العوامل التالية: لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأدب المغربيّ، في العقود الأخيرة، بمختلف تعبيراته، يمرّ بمرحلة انتظارٍ، وبمرحلة انتقالية، بعد مراحل «ازدهار» وتجاذبات بلْ وتوترات أدبية ونقدية متعاقبة مصدرها عموما مجالات غير أدبية، بحكْم أنّ الحركة الأدبية والثقافية عموما كانت موازية للحركة السياسية، بالنظر إلى انحياز الكثير من المثقفين إلى اليسار وخطابه، وما كان يستتبع ذلك من آمال مُستقبليّة ، إنّ التحولات السياسية والمجتمعية (الكثير من الكتاب والمبدِعين كانوا يكتبون بالبنيات المجتمعية وضدّها، وفي مقدمتها الاستبداد السياسي في عهْد الملك الرّاحل)، الأمل الذي كان يلوح في بداية حكم محمد السادس، انخراط معظم الكتاب في الأفق التقدمي، الخ. ففي ظلّ نزعة المحافظة التي تتعاظم، ومظاهر التديّن الاشتماليّ، مع صُعُود الإسلاميّين إلى الحُكم، أصبح الكاتب المغربي أمام أزمة شمولية لخطابات اليقين التي تفرز عجزا ونقصا على مستوى الأمل واليوطوبيا. كما أن السياقَ نفسه كانت ترفده مجلات مغربية وملاحق ثقافية كانت تعكس الاهتمام الثقافي العام الصادر عن مثقفين نقاد جامعيين، كما ترفده اللقاءات التي كان ينظمها اتحاد كتاب المغرب في عهد محمد برادة بالخصوص، وبعده اليبوري والأشعري وحسن نجمي. يُضاف إلى هذا رحيلُ العديدِ من الكتّاب والمفكرين من الجيل السابق (عبد الكبير الخطيبي، محمد عابد الجابري...) ممن كانوا بمثابة رافدٍ فكري وفلسفي يسند الخطاب النقدي ويعطيه كثافته ويزوّده بالشّحنة اللازمة. الدّور الكبير والرّيادي الذي لعبته الجامعة المغربية على مستوى الترجمة والنقد واستيحاء المناهج الغربية حيث أن النقد المغربي الحديث خرج منها، وبالتالي عرف تحوّلا نوعيا في مرجعياته النظرية، وأسسه التحليلية وتطبيقاته تجاوز بها الوضعية التقليدية، ويعود الفضْل فيها إلى وجود أساتذة-مثقفين في الجامعات المغربية من أمثال محمد برادة وأحمد اليبوري ومحمد بنيس ومحمد مفتاح وأحمد بوزفور ومحمد البكري وحسن بحراوي وعبد الحميد عقار وسعيد يقطين الخ. بالموازاة مع وفرة في الإنتاج على مستوى مختلف الأجناس الأدبية من شعر وقصة ورواية. فهل يمكن أن نعزُو فتور هذا الوهج النقدي والثقافي إلى تحوّل السياق السياسي والثقافي العام؟ أمْ إلى عناصر الفشل التي كانت تنطوي عليها التجارب النقدية بحكْم أنها تجارب فردية لا تندرج ضمن مشروع نسقي مفكَّر فيه؟ أمْ إلى كوْنها لم تنتج خطابا نقديا «أصيلا»، وبالتالي كانت تعيد إنتاج اتجاهات وأسماء نقدية ومناهج غربية، وهي اتجاهات وأسماء ومناهج خبَتْ حتى في موْطنها؟ أمْ إلى عدم إعادة إنتاج نفس الطينة من الأسماء؟ كلّ هذه التساؤلات مشروعة وتستحق منا أكثر من تحليل. بناء على الملاحظة السابقة، لا بدّ من الإشارة إلى التحول الحاصل في الخطاب النقدي الغربي، ولا سيما الفرنسي منه، الذي اعتمد عليه النقد المغربي كثيرا إلى درجة أنه كان بمثابة صدى له. لقد اختفت المدارس البنيوية والسوسيولوجية والسيميولوجية والتفكيكية، أو مات أصحابها، واختفت معها الأسماء الكبيرة. ثمّ إنّ «أزمة» النقد الأدبي تبدأُ من التعليم وطبيعة البرامج والمقررات، وتتصل بالعلوم الإنسانية بصفة عامة، وذلك لأنّ وجود مشاكل القراءة والقدرة على التحليلِ التي تكون مستعصية في التعليم العام، تنتقلُ، بصورة طبيعية، إلى التعليم الجامعي، لتصبح حاضرة بقوة في مراحل الدراسات العليا، وتكمن في ضعف التحصيل العلمي، ولا سيما مع الإصلاح الجامعي والتدريس بنظام الماستر وما يتولد عنه من خلل في التكوين المستمر والقراءة الموازية واكتساب القدرة على التحليل والنقد وإبداء الرأي. ونحن نعلم أنّ معظم طلبتنا في الجامعات يعانون من ضعف التكوين، والافتقار إلى القراءة التكميليّة، ويُعانون، على وجه الخصوص، من الافتقاد إلى المعرفة النظرية ومنهجيته الأساسية، وهو الأمر الذي يُفاقم من حدّة التّرهّل الذي تعرفه الحركة النقدية الأكاديمية وغير الأكاديمية في مقاربة الموضوع والمُعالجة والتنْظير والتحليل والتفسير والكتابة. لقد كانت الفوْرة النقدية المغربية ممكنة لأنها ارتبطت بالأفق الثقافي. كان الناقد يكتب وعيْنُهُ على المجتمع وما يعرفه من صراعات وتجاذبات. لذلك، لا يمكن أنْ يتبلور نقد أدبي حقيقي إلا في ظلّ ازدهارٍ ثقافيّ حقيقيّ، وممارسة ثقافية مستدامة وذات بعد تحليلي فلسفي، وليس الانطباعات العابرة والتعليقات السريعة على الكتب، فتلك قضية أخرى لا صلة لها بالنقد ،إنما لها صلة بالتعريف الإعلامي للإنتاج الأدبي والحالة الأخيرة مزدهرة، لكنها لا تؤثر في مسار التشكيلات الأدبية الضخمة وتحديد اتجاهاتها . إنّ النظريات الأدبية والمناهج تظهر نتيجة سلسلة من المخاضات الثقافية في المجتمع، وبغياب مخاض مستدامٍ حقيقي كنتاج لتفاعل جذري بين مكونات الثقافة ، من الصعب ظهور نظرية أدبية، وما دامت ثقافتنا لم تعدْ تتاح لها الفرصة الحقيقيّة لأنْ تتحاور مكوّناتها في أفق من الحرية الحقيقية، فيصبح الحديث من ناحية واقعية عن نظرية نقدية ضرْبا من الوهْم. في الحاجة إلى نقد النقد عبد الغني فوزي يغلب ظني، أن الحديث عن وضعية النقد المغربي حديث متنوع ومترامي الأطراف. وبالتالي، بأي معنى أو كيفية يمكن تشخيص وضعيته وتحديد رقعته اليوم، لتلمس أعطابه ليس في الرصد والتحليل؛ بل في خصوصيته المعرفية والإجرائية. فغير خاف، أن هذا النقد تطور كتصورات ضمن المجتمع وسياقاته السوسيوثقافية. فكان من الطبيعي أن يتخذ لحظات ومراحل، وهي: لحظة أولى منذ العشرينات من القرن السالف، تعددت منطلقاتها المستلهمة من تاريخ الأدب أو الكلاسيكية أو الرومانسية ، في تدرج وتعاقب طبعا إلى حدود الخمسينات حيث فورة الواقع اجتماعيا في تشابك وصراع. فتم استناد الماركسية والوجودية في الفكر والأدب معا في الستينات والسبعينات. فظهور لحظة الانفتاح على الآخر ونقل بنيويته وسيمائيته ونظرية التلقي في الثمانينات من القرن الماضي إلى الآن. هذه اللحظات على تصوارتها المنهجية، استنبتت العديد من المفاهيم، بعضها مرتبط بالمرجعي، والآخر بالنصي وثالث بالتلقي... وغير خاف في هذا السياق، أن النقد المغربي إذا سلمنا بهذا التوصيف كان رائدا في اللحظة الأخيرة من حيث ترجمة أعمال بنيوية شكلية وبنيوية تكوينية وسميائيات... فكان إضافة نوعية في النقد العربي. لكن، في تقديري، كان موجها بأطاريح الجامعة، دون قراءة تلك المفاهيم المتعددة والمتنوعة على ضوء الواقع المغربي والعربي. فكان الأمر كمتابعة لما ظهر من مناهج ومسالك، ونقله دون اختباره والإضافة إليه. وبالتالي بعد فتور حماس "علمية التحليل « المدعاة، أصبحنا أمام اجترار وأحيانا غياب معنى المفهوم النقدي. مما أدى إلى فقدان معنى المقاربة والقراءة النقدية بين ما هو نظري وإجرائي . فتكون النصوص في هذه الحالة مجرد تعلة، لتبرير أصول النظرية . ويغلب ظني أن الأسباب متعددة لتفسير هذا الثبات والمراوحة في نفس النقطة على الرغم من الدوران ، منها الانبهار الدائم أمام النظريات والمفاهيم ذات التربة المغايرة . مما أدى إلى الانتصار للنظريات دون النصوص ؛ أي أن الجانب التطبيقي لا يعبر عن أي اجتهاد أو إنصات للنصوص ، لتحريك تلك المفاهيم بمرونة ، ولم لا إعادة بنائها من جديد . هنا يوضع النقد أمام مسؤوليته في قراءات منهجية وموضوعية أولا ، تقتضي الوعي بالخلفيات والتصورات النظرية ، ومقاربة النص بين الواقع والفكر دوما . هنا يمكن التساؤل عن كيفية ممارسة الإجراءات واستعمال المفاهيم ، وكيفية تمثل المنهج ؟ وهل يمكن اعتبار كل ما يكتب حول النصوص الإبداعية نقدا ؟ .فالإجابات وبناء على السائد، تقتضي خلخلة النقد المغربي الذي بني على أسماء كان لها عطاؤها، لكن ظلت تجتر وتنط بين المفاهيم. ففي غياب سجال ثقافي حول المفاهيم النقدية وخلفياتها المعرفية، وفي غياب التوازي بين النقد والنصوص. تبقى الممارسة النقدية مدفوعة بالأهواء أو الانغلاق أو الخبط...الشيء الذي يقتضي في تقديري عملا فريقيا وخلايا بحث ، عطفا عن مؤسسات ثقافية حقيقية تتبنى أسئلة النقد والإبداع على أشكاله دون عموميات وإشاعة نقد دون نقد .. آنذاك سنجد أنفسنا أفرادا وجماعات في تدول للأسئلة الحقيقية في الأدب؛ قصد تحفيز وتحريك للبركة الآسنة . فتكون آفاق التخصيب وإنتاج المعرفة واردة. النقد الميت... أو العودة إلى الدكاكين النقدية محمد فخرالدين هل يمكن ان نتحدث عن موت تدريجي للنقد الادبي، وندعي أن ما تبقى من خيمة سوق عكاظ قد مزقتها ريح معولمة تبحث عن الجدوى والتسويق في كل شيء حتى في الشأن الثقافي وفي الفن والإبداع؟ لقد استطاعت رياحها في عشرين سنة أو ثلاثين حجة أن تجعل القارئ لا يقرأ والكاتب يتسول طبع كتبه وتوزيعها على باب الناشر الباحث عن الدعم، وشمعة المناهج النقدية التي كانت متوهجة في مدرجات الجامعة تنطفئ؟ ماذا تبقى من نقادنا المتميزين في القراءة والتحليل؟ لقد زهدوا في الكتابة يأسا وقنوطا حتى لا يضيعوا في ردهات النقد الرديء، وفي المجاملات النقدية ربما، في انتظار نقد النقد الذي قد يأتي أو لا يأتي.. لقد صرنا أحيانا أمام جزر معزولة من النقد والنقاد المبتدئين والمتحولين سرديا و شعريا... إلا قليل من النقاد الذين يكتبون مقالات نقدية رصينة بين الفينة والأخرى رافضين موجة الانكتاب والاستكتاب.. من نلوم على موت النقد إذن؟ إن كان هذا الكلام غير واهم في خطابي الميتانقدي هذا، هل لسوق الإبداع النافق في صمت في حضن جمهور لا يقرأ أو لا يجد ما يقرِؤه كما يدعي، لكونه قد غرق في بحر الصور الرقمية والعوالم الافتراضية، وأصبحت رائحة الورق لا تثيره؟ هل يعود الأمر لكساد النشر لكتب النقاد بدعوى كساد سوق النقد وغياب جمهوره؟ أم لاهتزاز صورة المثقف والمعرفة في المجتمع العربي المعاصر بشكل عام، في مقابل المال والرأسمال، و على رأسها المعرفة الأدبية كما لمح مسؤول في التربية ذات توزير، ما معناه أن لغتنا وأدبنا وثقافتنا المحلية غير متماشين مع روح العصر وسوق الشغل ومجرى العلم الكوني؟ هل يعود إلى تحول بعض من الأساتذة وممرري المعرفة إلى باحثين عن الرزق: مقاولين وأصحاب تجزءات عقارية ومضاربين ثقافيين ، بدعوى توسيع الرزق لمن لا رزق له، وكذا تحول بعض المثقفين الى مديرين موسميين لمهرجانات ثقافية تحت الطلب؟ هل لسوء تقدير النقد في ضوء الأنانيات النقدية للقائمين أبويا على مناهج التحليل والذين يمضون دون ترك خلف أو مدارس أو حلقات..؟ هل لوسائل الإعلام التي تنتج برامج يتيمة يناضل القائمون عليها من أجل البقاء، ومن أجل بثها في وقت الذروة كباقي البرامج.. و ملاحق ثقافية تحارب في صمت لأجل الثقافة والإبداع؟ أو ليس لنا الحق في الحديث عن أسباب موت النقد ومظاهر هذا الموت، وبقايا الأنين الذي من خلاله يعلن الاحتضار..؟ وما دور السياسة والاقتصاد والاجتماع والجامعة في هذا الموت البطيء، وقد يأتي يوم نبحث له عن رصاصة الرحمة لكي يخفف من ألمه؟ ألا يعود إلى انحصار المناهج النقدية المستوردة والتي بقيت في خدرها في الغالب دون توظيف نقدي، وإلى فقدان ذلك التفاعل العفوي بين الناقد و الكاتب؟.. والسؤال الذي يطرحه الناقد حائرا اليوم، و له الحق في ذلك لاختلاط الحابل و النابل في حقل الكتابة: عم سيكتب وما يستحقه النقد فعلا ؟ فالإنتاج الأدبي بأجناسه متوفر لكنه غير منظم، ويظهر كمادة هيولى أوليه فوضوية، تحتاج أولا لتصنيف يفوق طاقة الناقد، خاصة وأن الأجناس الأدبية قد تحللت وتداخلت وفقدت حدودها منذ مدة، في شعرية للمحكي وفي محكيات الشعر.. والمدارس الأدبية لم يعد لها وجود، ليس هناك إلا كتاب متوحدون، قامات في الكتابة وزهاد، ومتسلقون يكتبون بالسليقة وبالطبع ويبحثون عن الاعتراف بأعمالهم هنا وهناك، وعن النشر بأية طريقة وعن الجوائز وعن هبات الجرائد المتحكمة في سوق النقد.. وهناك مبدعون يعانون في صمت، وأصحاب نقد يكتبون عن بعضهم بعضا، مقابل شكر أو متاع من متاعات الدنيا.. الجامعة التي كانت تذكي النقاش بين المثقفين وتخصب الأذهان بالشكلانية والبنيوية وما بعدهما وتلقن جدلية المناهج النقدية والنصوص الأدبية لم تعد تقوم بذات الدور.. السياسة أيضا لم يعد لها غرض في الأدب والثقافة، بعد أن رهنت في السوق برامجها المستقبلية تربية وتعليما و تكوينا وثقافة.. و ما بقي على النقاد إلا أن يفتحوا دكاكين نقدية وأن ينتظروا زبائنهم في انتظار عودة الروح إلى الشأن الثقافي ككل.. عبد الرزاق المصباحي: الحديث عن إنتاج المفاهيم ينبغي أن يأخذ بالاعتبار مسألة التفاعل مع الإنتاج النقدي الغربي. أعتقد أن هناك الكثير من المغالاة في القول إن النقد في المغرب كفّ عن إنتاج مفاهيم جديدة وعن تقديم رؤية نقدية شاملة !، ذلك أن تاريخ النقد في المغرب لم يعرف إنتاج مفاهيم نقدية خاصة به، إذ ارتبطت المفاهيم الإجرائية، في الأغلب، بالفاعلية النقدية الغربية التي هي الموطن الأصلي لكثير من النظريات النقدية ومناهج النقد الأدبي ومقارباته التي هاجر كثير منها إلى النقد العربي بوساطة باحثين مغاربة نذكر منهم، تمثيلا لا حصرا، محمد برادة الذي ترجم كتابين مهمين وفارقين في النقد الغربي هما « درجة الصفر للكتابة» للناقد الفرنسي رولان بارت، وكتاب «الخطاب الروائي» لميخائيل باختين... وهذه الوساطة التي قام بها باحثون ومترجمون مغاربة لهم وزنهم، ولا يزال، هي التي أسهمت في انتشار النظريات النقدية في المغرب ومن ثم إلى المشرق الذي كانت غالبية ثقافاته أنجلوفونية على الآخر، ومن هنا اكتسب النقاد والباحثون المغاربة صفة الريادة في تقديم النظريات النقدية التي نشأت في فرنسا على الخصوص، ومن ثم فالحديث عن إنتاج المفاهيم ينبغي أن يأخذ بالاعتبار مسألة التفاعل مع الإنتاج النقدي الغربي. وهذا الكلام لا يعني حصر الإنتاج النقدي المغربي في عملية الوساطة وتهجير النظريات والمفاهيم النقدية إلى بيئته؛ بل هناك إجراءات نقدية معتبرة ومدموغة بلمسة أصحابها، نذكر منها على سبيل المثال المشروع الرصين للدكتور سعيد يقطين في تثبيت وترسيخ التحليل السردي بوصفه علما مستقلا وقائم الذات، ومشروع الدكتور بنعيسى بوحمالة في تليين دالية ريفاتير ، وجعلها تشتغل لحسابه الخاص كما في كتابه الضخم عن شعرية حسب الشيخ جعفر ( أيتام سومر)، أو استثمار الممكنات الهائلة للبنيوية التكوينية غير المطروقة إجرائيا في كتابه عن الشاعر الزنجي محمد مفتاح الفيتوري (النزعة الزنجية في الشعر المعاصر) الذي صدر جزؤه الثاني مؤخرا عن اتحاد كتاب المغرب. ولا يمكن تجاوز الساحر عبد الفتاح كليطو الذي قرأ السرد العربي القديم ببنيويته وسيميائيته الخاصة والمتفردة. إن هذه النماذج من نقادنا المؤصلين لا يزال حضورها وازنا، مؤثرا ومنتجا، لكن الإعلام الثقافي المغربي، ويا للمفارقة، لم يعد يواكب مشاريعهم بالشكل الذي كان عليه زمن الملاحق الثقافية المعدودة، وبالتالي فإن الاعتقاد بأن الإنتاج النقدي المغربي تراجع دوره هو قول مردود ، بسبب استمرار غالبية المؤصلين والآباء النقديين في الإنتاج النقدي، وبسبب تطعيم الساحة النقدية المغربية بأسماء نقدية جديدة، لها مشاريعها النقدية الخاصة والمعتبرة، نذكر منهم: يحيى بن الوليد، مصطفى الغرافي، محمد بوعزة، إدريس الخضراوي، وسعيد العوادي... صحيح أنه يُلمس، أحيانا، غياب مشاريع نقدية عند بعض النقاد الذي يقاربون نصوصا إبداعية مختلفة دون إخضاعها لمناهج نقدية محددة أو مرجعية نقدية معينة ارتباطا بظاهرة الاستكتاب في المجلات التي أعتبرها ظاهرة صحية، إلا أن ذلك لا يستدعي منا المغامرة بإصدار حكم خطير مؤداه غياب رؤية نقدية في النقد المغربي أو جمود مفاهيمه الإجرائية. سعاد مسكين:لا يمكن للنقد العربي عامة والمغربي إنتاج تصورات نقدية ذات رؤية شاملة دون توفر المقومات اللازمة.. يدعونا الحديث عن النقد المغربي الراهن إلى رصد التحولات التي عرفها هذا النقد منذ السبعينيات إلى الآن، وإذا تأملنا وضع النقد في هذه المرحلة، يمكن القول إنه تميز بسمتين كبيرتين، هما: سمة التأسيس، وهي مرحلة السبعينيات والثمانينيات حيث كان الحديث عن اتجاهات أو مذاهب نقدية: البنيوية (عبد الفتاح كيليطو، محمد مفتاح)، البنيوية التكوينية(نجيب العوفي، عبد الحميد العقار)، السرديات(سعيد يقطين)، التلقي(أحمد أبوحسن، محمد مفتاح) ...على سبيل التمثيل لا الحصر. والغرض من تمثيل هذه الاتجاهات إظهار مكانة النقد في هذه المرحلة، إذ كان للناقد وعي بالممارسة النقدية، مدركا أهميتها في تجاوز المقاربة والتحليل إلى توليد المفاهيم عبر المزاوجة بين نقل المفاهيم الغربية ومحاولة استنباتها داخل الفكر المغربي من أجل استنطاق مفاهيم جديدة، تنسجم وتربة النص الأدبي المغربي، كما أن معظم هذه التجارب النقدية، اشتغلت ضمن مشروع نقدي ما زال محط تفكير وتمحيص، الأمر الذي يخول للنقد الأدبي المغربي بأن ينطلق من رؤية تصورية شاملة وفي الآن نفسه منتجة. سمة التطبيق والتحليل، وهي مرحلة التسعينيات والألفية الثالثة حيث اتخذ النقد ملامح التحليل الوصفي والمعياري الذي ينطلق من محاولة تطبيق المفاهيم النقدية الغربية على نصوص أدبية دون مراعاة خصوصية الإبداع الأدبي، ودون تمثل إبستيمولوجي لسياق إنتاج المفاهيم المشتغل بها، ودون الانتباه إلى جماليات الإبداع الأدبي. ونحن في عرضنا لهذه السمة، لا يعني أننا ضد التحليل البنيوي للنصوص الأدبية، أو نعارض تفكيكها من أجل الفهم، ولكن غرضنا من كل ذلك، الدعوة إلى خلق تراكم في المقاربات الوصفية من أجل إنتاج تصورات نظرية، لأننا نؤمن بجدلية النظرية والنص، إذ قد ننطلق من النظرية كي نطبقها على النص أو ننطلق من النص كي نخلص إلى النظرية، وما ينقص النقد هنا هو الانطلاق من النص لخلق تصورات نظرية متكاملة. تدعونا السمتان معا إلى طرح السؤال الآتي: أي نقد مغربي نريد؟ لا يمكن للنقد العربي عامة، والمغربي خاصة، أن يطور أدوات اشتغاله، وينتج تصورات نقدية ذات رؤية شاملة دون توفر المقومات الآتية: الوعي بالممارسة النقدية المنتجة التي تتجاوز التحليل إلى إنتاج معرفة بالإبداع الأدبي، ومعرفة بخصائصه البنيوية، وجمالياته الفنية، الاشتغال داخل مشروع نقدي متكامل ينطلق من فكر نقدي له رؤيته الشاملة، وليس مجرد تطبيقات خالية من اجتهاد تصوري ونظري، لتحقيق تصورات نظرية تهم الفكر النقدي المغربي والعربي علينا أن نفكر في الانتقال من الناقد الدارس إلى الناقد العالِم،ولا يمكننا في رأينا أن نحقق هذه الغاية إلا عبر وجود مختبرات ذات اشتغال جماعي تؤسس لقناعات ورؤى فكرية وأدبية مشتركة، ضرورة إعادة التفكير في اللغة الواصفة الخاصة بالنقد، إذ عليها ألا تظل لغة متعالية، تمتح من المفاهيم النقدية المنقولة أو المستحدثة دون التفكير في ذائقة القارئ الذي لا يهمه من النقد سوى تقريبه من الإبداع الأدبي وجمالياته، قارئ تثقل كاهله تلك اللغة النقدية المعيارية والوصفية التي تهم الباحث الأكاديمي المتخصص فقط. ويجب ألا يُفهم من هذا الكلام أنه دعوة إلى استسهال النقد أو الدعوة إلى كتابة نقد انطباعي، وإنما نسعى من وراء ذلك إعادة التفكير في العلاقة الحميمية بين النقد والإبداع لأنه لا يمكن أن يتجدد أحدهما أو يتطور دون الآخر، كما لا يمكن أن نُقيِّمهما دون وجود قارئ.. الحبيب الدائم ربي: النقد المغربي المفترى عليه لربما قد يُصنف المغربُ، في مجال الكتابة، ومن منظور عربي، كفضاء نقدي بالأساس، أي كمنتج للخطابات الواصفة، قياسا إلى المشرق. وهذا الحكم على إطلاقيته قد يترجم وجها من وجوه واقعنا الثقافي بلا ريب. كما يجعلنا، حين التسليم به، نتفادى الدخول في متاهة التشكيك في وجود نقد أدبي خاص بنا. بيد أن هذا المفترض لن يمنعنا من الاعتراف بأن نقدنا غير ممأسس بما يكفي. ما لم نقل إنه نقد يمارَس من خارج المؤسسة النقدية لانتفاء شروط وجودها.فهو نقد يصدر عن أفراد و يشتغل وفق أذواق وأمزجة، و ربما مصالح ذاتية وبوتائر متفاوتة وانتقائية لها ما يبررها. ولئن كان حديثنا هنا يتقصد النقد الأدبي في مجال القصة والرواية، فإن هذا التوصيف يظل قابلا للتعميم على باقي النقود في مختلف المجالات الإبداعية والفنية.. من ثم فإن وضع اللوم كله على عاتق النقاد بسبب تقصيرهم، القائم والمفترض، هو في الواقع من قبيل الالتفاف على أسئلة أكثر عمقا وإشكالا، تهمُّ سؤال الثقافة والإبداع على العموم. إلا أن إعفاء النقاد من المسؤولية أيضا، لسبب كهذا، من شأنه أن يكرس انتفاءَ المحاسبة ويعمق أزمة النقد كما هو الحال عليه في أمور كثيرة. لا شك أن فورة الإبداع القصصي(والسردي عموما) ، التي عرفتها بلادنا في السنوات الأخيرة، لا تجد ما يواكبها من نقود تضاهي إيقاعاتها من حيث الكم والكيف. من دون أن يعني هذا غياب الصوت النقدي في خضم هذا الحراك القصصي في راهنيته المتجددة، ومن دون أن يعني كذلك أن الإنتاج القصصي(السردي) يفيض عن الممارسة النقدية ويتجاوزها إلا من باب الانتصار لجهة على حساب جهة أخرى. ثم إن التراكم القصصي(السردي)، على تباين تجاربه وأدبيته، هو مدين بشكل أو بآخر لهذا النقد الغائب الحاضر. لأن غياب النقد أو تساهله كان له دور أساس في تعويم الساحة السردية المغربية بفيض من القصص القصيرة والقصيرة جدا أو ما يشبهها. والحب القاسي للقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا كانت له انعكاسات مباشرة على الكتابة القصصية، هذا إذا أعطينا للنقد دورا لم يعد يمتلكه في ظل شيوع وسائط الاتصال والانفلات من الرقابات بما فيها رقابة النقاد. ناهيك عن ضرورة إعادة النظر في مفهوم الكتابة ومفهوم النقد وما يستلزمه من أدوار جديدة تتماشى وتطورات العصر، علما بأن الحاجة إلى القصص(والسرود) و إلى النقد تظل قائمة على الدوام. فكلاهما ضروري للآخر ولتطوره. والواقع أن ساحتنا الثقافية تشهد نقادا لهم مكانتهم الاعتبارية، بيد أنه من المجازفة الزعم بأن لدينا نقادا متخصصين في الفن القصصي دون سواه من الأجناس السردية( والأدبية) الأخرى. ولأنه من السهل وضع تصنيفات لاتجاهات الحركة النقدية بالمغرب، بناء على معايير أو أخرى، في ثنائيات أو ثلاثيات متعارضة أو متباينة، كالنقد الإخواني في مقابل النقد التحاملي، والنقد الأكاديمي في مقابل النقد الانطباعي، والنقد المنهجي في مقابل النقد الصحفي، وهكذا دواليك. وهي تصنيفات قد تتعايش وتتكامل حتى ولو تعارضت أحيانا، حسب الظروف والأحوال. فإذا كان النقد الأكاديمي،مثلا، مهما جدا لكونه تعامل مع النصوص القصصية بصرامة منهجية، فإن نقيصة هذا التوجه تكمن في كونه ينتقي نصوصه لتبرير أدواته المنهجية من متن مركزي متداول،كما أنه يبقى حبيس الدرس الجامعي، فيما يبقى النقد الصحفي عاجزا عن محاورة النصوص بما يلزم من القوة أما «النقد العاشق» فهو دعاية ليس إلا. عبد لله لحميمة: النقد المغربي المعاصر يظل عاجزاعن إنتاج نظرة نقدية شمولية للأسباب التالية... يمكن التأشير على أن النقد المغربي المعاصر - مع استثناءات عديدة- بات يعرف صعوبة بالغة في الإنصات العلمي للنصوص الأدبية، وإنتاج معرفة أدبية ونقدية بعوالمها الفنية التخييلية من ناحية، وبسياقاتها المرجعية والإحالية من ناحية أخرى. ويعود ذلك إلى عدة عوامل مختلفة نجملها في العناصر التالية؛ عدم قدرة الناقد المغربي على بناء مشروع نقدي متجانس، والإخلاص له رغم تقلبات النظرية النقدية والتحولات المعرفية التي تعرفها، غياب الطابع المؤسسي الذي يجْدِلُ التجارب النقدية المختلفة في بوتقة متجانسة، وتشبيكها معرفيا وفلسفيا قصد تمثل أعمق للنظرية النقدية ومفاهيمها النقدية، إذ إن معظم التجارب النقدية المغربية هي عبارة عن جهود فردية معزولة ليس إلا، عدم تمثل الخلفيات الفلسفية والمعرفية التي تصدر عنها التيارات النقدية الغربية يؤدي إلى ابتسار المفاهيم والتسرع في إصدار الأحكام النقدية، وبذلك تظل الممارسة النقدية إما سطحية ولا تسطيع الغوص في العوالم الفنية والتخييلية للنصوص، وإما غير علمية فتبتسر النص في علب نقدية جاهزة، بل تستعمله بالأحرى، فيتحول النص إلى مناسبة للتصديق على المنهج لا غير، ثم الانبهار والحماس المبالغ فيهما بالنظرية الغربية، حيث يغلب في التجارب النقدية المغربية الجانب التنظيري على الممارسة النقدية العلمية التي تسوغ، علميا، دور المنهج في إنتاج معرفة أدبية ونقدية بالنص وبالواقع الاجتماعي والحضاري الحاضن له، وبالتالي تخصيب النظرية النقدية بخصوصيات جديدة نابعة من طبيعة المنجز النصي والإبداعي العربي. عطفا على كل ما سيق، فإن النقد المغربي المعاصر يظل عاجزا، أيضا، عن إنتاج نظرة نقدية شمولية تبعا للعوامل المومأ إليها أعلاه، أضف إلى ذلك، التراجع المريع الذي عرفته الجامعة المغربية في التأطير العلمي والأكاديمي للباحثين، وعدم تشجيع البحث العلمي والأكاديمي الرصين، مما دفع جملة من الكفاءات الوطنية، التي كانت تسهم في التأطير والتكوين، للهجرة إلى الخارج، وانعزال الباحثين والجامعيين داخل الجامعة وعدم كتابتهم عن قضايا الثقافة والتربية التي تلامس شغاف هموم المجتمع وقضاياه، وبالتالي إنتاج رطانة منهجية ونقدية متعالية عن القارئ، وكذا الفقر المنهجي والمعرفي الذي أضحى ينفش باستمرار في الممارسة النقدية المغربية، ثم سطحية الجانب الفني والتخييلي والتقنيات النوعية في الكتابة السردية - مع استثناءات بطبيعة الحال - في المنجز النصي المغربي، وعدم قدرة الناقد المغربي على المزج الواعي بين الجانب الفني والجمالي للنصوص وبين المرجعية الاجتماعية والحضارية والتاريخية التي ما فتئت تتغير وتتحول، الأمر الذي من شأنه أن ينتج انفصاما بين المعرفة الأدبية والمعرفية الاجتماعية ذات المنزع التأويلي، وغياب الوعي التاريخي بحقيقة التحولات التي تعرفها المعايير والأعراف الأدبية،وعلاقتها بتأويل النصوص وتفاعلاتها بالسياق الكلي للحياة والثقافة والمجتمع...