التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    "الجديدي" ينتصر على الرجاء بثنائية    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أية مكانة للقصة القصيرة اليوم؟
هجرها الناشرون والقراء لصالح الرواية
نشر في المساء يوم 21 - 01 - 2015

يورد الروائي والقاص الأنغولي أوندجكي، الحائز على جائزة «خوسيه ساراماغو» عن العام 2013، رأيا في القصة القصيرة في حوار نشر بأسبوعية «أخبار الأدب»:
«..نشر الرواية أسهل قليلا بالمقارنة مع نشر المجموعات القصصية، وإن كنت أعتقد أن على الكاتب أن يصمم على نشرها. القصة القصيرة نوع خاص جدا من الأدب. لذلك لا يمكن أن نستسلم لفكرة أن المجموعات لا تباع مثل الروايات، وإلا فعلى الشعراء أن يموتوا لأن الشعر أيضا ليس مطلوبا بقدر الروايات. في الحقيقة، كتابة القصة القصيرة أصعب من كتابة الرواية. ربما لذلك عدد قليل من الناس يقرأها. سأستمر في كتابتها لأنها قوية ومركزة من حيث المشاعر واللغة».
تضعنا القولة في صلب الوضعية الراهنة لجنس القصة القصيرة، ليس في الشرق وحسب كما يعتقد، وإنما في الغرب على السواء. ذلك أن المشترك يتمثل إذا حق في التصور المهيمن الذي يرى إلى تراجع جنس القصة القصيرة على مستوى التداول. واللافت أن القولة لامست وضعية جنس القصة القصيرة في شمولية. هذه التي يمكن تجزيئها وفق التالي:
التداول.
المقارنة.
التأثير.
فالتداول يرتبط بداية بالنشر. ذلك أن الدور في الراهن تستنكف عن نشر المجاميع القصصية، بمبرر تجاري يتمثل في انتفاء الإقبال تلقيا. من ثم، فإن أغلب كتاب القصة القصيرة، وفي غياب الطرف الداعم، يراهنون على ما يدعى بالنشر الخاص، أي على حسابهم.
أما المقارنة فوليدة استحضار جنسين أدبيين: الشعر والرواية. ذلك أن وضعية القصة القصيرة لا تختلف عن القصيدة. إذ لم يعد اليوم من الناشرين من يؤثر مبادرة نشر ديوان شعري إلا لماما، ولأسماء بذاتها. ويطرح السؤال سواء بالنسبة للقصة القصيرة أو القصيدة: هل يتعلق الأمر بالقيمة والمستوى أيضا، وليس الجانب التجاري فقط؟.
المؤكد أن ذكاء بعض الناشرين المبدعين، ومراقبتهم الحذرة للسوق، تجعلهم ينفتحون على تجارب تتفرد برنينها بعيدا عن السقوط في المغامرة. فالناشر العربي يراهن باستمرار على الأسماء الاعتبارية التي تضيف لداره أساسا، دون الغفل عن كون العديد من التجارب الإبداعية في القصة القصيرة لا تمتلك كفاءة واقتدار الإنجاز. إذ أن تحقيق التشجيع يتم في حدود موضوعية وفق مقاييس أدبية معقولة.
ويتأسس التأثير من الخصوصية الأدبية التي يمتلكها جنس القصة القصيرة. إذ إن القصة القصيرة كما تذهب القولة أصعب لخاصة التركيز وبلاغة اللغة، إلى دقة التأثير.
إن الإشكالات السابقة، تفسح لهيمنة جنس الرواية. إذ الملاحظ عربيا تراجع الإصدارات في جنس القصة القصيرة، إلى تراجع القيمة الأدبية للنص القصصي، خاصة أن ما يدعى بالاستمرارية الأدبية شبه منتف. وهذا لا ينطبق على المغرب وحسب، وإنما على مستوى أعرق البلدان العربية (مصر/سوريا)، حيث تراجع وقع وأثر حضور جنس القصة القصيرة في المشهد الثقافي العربي. ولعل ما ضاعف من هذا التراجع:
تحول أكثر من قاص إلى ممارسة الكتابة الروائية.
خص جنس الرواية بجوائز أدبية مجزية.
انحسار المتابعات النقدية.
إن هذه المنطلقات جميعها هي ما قاد إلى ترتيب هذا الملف، في محاولة لتقصي الرأي واختبار وجهات نظر أسماء رسخت تقاليد الكتابة القصصية الحديثة، علما بتداخل وتقاطع أكثر من وجهة نظر، ولئن كان الثابت أن فن القصة القصيرة لا يزال يمتلك خصوصياته مثلما يتفرد بنوعية قرائه.
القصة القصيرة بين الإنتاج والقراءة
محمد غرناط
من المؤكد أن القصة القصيرة جنس أدبي يتمتع بمكانة خاصة بين الأجناس الأدبية، ويحظى باهتمام كبير من لدن القراء ونقاد الأدب، كما تشهد على ذلك الأعمال القصصية المنشورة والدراسات الأدبية المتنوعة. ويرجع ذلك أساسا إلى ما يتميز به هذا اللون من الكتابة السردية من خصائص فنية وجمالية جعلت منه، منذ ولادته، شكلا تعبيريا متفردا بلغته وأسلوبه وطرائقه في التصوير والإبلاغ والتأثير. فالقصة القصيرة استطاعت أن تحقق منذ ظهورها كجنس أدبي على يد روادها الأوائل انتشارا واسعا إلى جانب الشعر والرواية والأجناس الأخرى، بفضل إمكانياتها الخلاقة على مستويات مختلفة تخص بناء النص السردي والموضوعات التي تعالجها والأهداف التي تتوخاها. وقد امتد ذلك لعقود طويلة في الغرب حيث تتعدد مظاهر الاحتفاء بالقصة القصيرة كما يتجلى في عدد المجاميع القصصية التي تصدر كل سنة، والأعمال النقدية التي تتناولها بالدرس والتحليل، والندوات التي تعقد لمعالجة قضاياها، والجوائز الأدبية التي تخصص لها (نوبل، غونكور..).
وفي الوطن العربي يمكن القول بصورة عامة، بالرغم من التفاوت في الأهمية، إن القصة القصيرة لا تقل قيمة عن غيرها من الأجناس من حيث الإنتاج والمتابعة النقدية. فقد عمل الكتاب الرواد على إرساء أسس وتقاليد الكتابة القصصية في الأدب العربي. وبموازاة جهودهم قام نقاد الأدب بدورهم في المتابعة بما قدموه من دراسات وتحاليل أسهمت في هذه العملية ودفعت بها نحو آفاق جديدة وتحولات فنية كبرى (مع عوامل أخرى بطبيعة الحال) عرفتها على يد كتاب من الأجيال اللاحقة. ولا يشد المغرب عن هذه القاعدة ( في فترة متأخرة عن هذا التاريخ) فبعد سنوات من الكتابة القصصية التي تراوحت بين أنماط كتابية مختلفة كالمقامة والمقالة وغيرهما، تمكن كتاب القصة منذ ستينيات القرن العشرين من بلورة أسلوب الكتابة الذي يقوم على تقاليد وأصول الشكل القصصي الجوهرية، وتواصلت الجهود في مجال الإبداع عززها تراكم نقدي ساهم في إغناء الساحة الأدبية بشكل ملموس.
لكننا نلاحظ في السنوات الأخيرة بروز بعض المظاهر التي يقتضي الواقع الأدبي معالجتها لاستمرار الفن القصصي في تحقيق مزيد من التطورات (عرفت المراحل السابقة بعض العوائق لكن تم التغلب عليها ولم تمنع من تطور الكتابة القصصية). ولعل من الأمور التي قد تساعد على اختزال وفهم هذه المظاهر كون نسبة الإصدارات في مجال القصة القصيرة (المجاميع القصصية) صارت بشكل متواتر أعلى من الإصدارات في مجال الرواية. في مقابل ذلك أخذت وتيرة الدراسات النقدية المتعلقة بالرواية ترتفع (كما بالنسبة للشعر)، في حين تراجع عدد الدراسات والأبحاث التي عالجت قضايا القصة القصيرة، فأمام الإنتاج المتزايد، كما ونوعا، سواء في شكل كتب (مطبوعة) أو نصوص تنشر بانتظام في الصفحات الثقافية، ومقارنة بما ينشر من أعمال روائية، كان من الطبيعي أن يتجه النقد الأدبي إلى دراسة القصة القصيرة بنفس القدر من العناية وبطرق منهجية تتيح الوقوف على عوامل انتشار هذا الجنس وتداوله المتزايد، وما تحقق فيه على مستوى آليات التعبير والقضايا التي يتناولها على يد الأقلام التي عملت بحرص على تجديد هذا الجنس الأدبي، لغة وفكرا، في إطار من الوعي بأصوله ووظائفه الفنية والاجتماعية، والبحث المتواصل عن الأساليب الكفيلة بتطوير أدواته الجمالية، مما يسمح بالقول إنه يشكل حقا الصوت الآخر للطبقة المتوسطة إلى جانب الرواية (والأشكال التعبيرية الأخرى..).
ويضاف إلى ما تقدم تراجع الاهتمام بالقصة القصيرة على مستوى الأبحاث العلمية في الجامعة مقارنة بما ينجز من أبحاث في الرواية والشعر وفنون أخرى، وأيضا تراجع الاهتمام بها في المقررات الدراسية، إن في الجامعة أو في المدارس الثانوية، بحيث لا يوازي الاهتمام الذي تحظى به لدى القراء، ولا تدرس بالقدر الذي يستجيب لحاجياتهم، خصوصا أن هذا الجنس الأدبي الأصيل الذي تمتد جذوره في كل الثقافات الإنسانية يساهم في تطوير ملكات التخييل والتعبير عند المتمدرسين. وفضلا عن البحوث كانت الجامعة تنظم ندوات وأياما دراسية حول القصة القصيرة، لكن هذه الأعمال والأنشطة تراجعت لصالح الرواية (ومواضيع أخرى، إبداع أو نقد).
هذا كله، وغيره كثير، يدفعنا إلى التأكيد على ضرورة التفكير في وضعية القصة القصيرة بجدية والبحث عن الوسائل التي تعزز موقعها وتحفظ لها قيمتها في النقد الأدبي والبحث الجامعي والمقررات الدراسية بما يتناسب وحجم الإنجازات في هذا الميدان والوظائف الأدبية والتربوية والاجتماعية التي تضطلع بها.
قاص وروائي
الاهتمام اليوم جعجعة بلا طحين
المصطفى اجماهري
القصة القصيرة، كما سبق أن تعلمنا، هي فن صعب لأنها تتطلب التركيز وتكثيف اللغة. وهي فن جامع يقدم إمتاعا فنيا راقيا يأخذ من الشعر، ومن الرواية، (الحدث والشخوص)، ومن المسرح (الحوار)، ومن المقال (منطقية السرد)، ومن السينما (طريقة الاسترجاع). كما قد يأخذ من التشكيل ومن الموسيقى.
هذه الصعوبة المبدئية هي التي ينبغي أن تدعو القاص إلى التعامل معها بالجدية المطلوبة. لكن الجدية اليوم في زمن السرعة والرقمنة أصبحت مفتقدة. ويمكن القول من خلال تتبع المسار التاريخي لتطور القصة القصيرة بالمغرب منذ السبعينيات، على الأقل، إن الاهتمام بالقصة القصيرة ظل حاضرا، إلا أن نوعية الاهتمام انحرفت عن مسارها. بمعنى آخر، الاهتمام، اليوم، انصب على الجعجعة وليس على الطحين.
هذه الجعجعة ساهم فيها توفر وسائل الاتصال والرقمنة والتواصل، حيث لم يعد نشر مجموعة قصصية يشكل عائقا كبيرا أمام صاحبها. وهذا ما أدى إلى استسهال الكتابة وأصبح كل من يملك بعض المحاولات يهرع إلى نشرها في مجموعة غالبا ما يوزعها على أصدقاء قد يطرحونها جانبا دون قراءتها. لقد افتقدت الساحة الثقافية المغربية تلك الصفحات الأسبوعية في الجرائد الوطنية المعروفة في السبعينيات (مثل العلم والمحرر والبيان)، والتي كانت بمثابة الفلتر في تقديم الإنتاجات. ذلك أن الكثير من الإنتاجات الحالية لا تدعمه قراءات واسعة ولا تجربة حياتية حقيقية. هل استطعنا، مثلا، خلق زفزاف جديد أو خوري جديد أو شكري جديد؟ ثم إن القصة القصيرة تتشكل من مادة هي اللغة. والملاحظ اليوم أن اللغة في كثير من المجاميع القصصية تبقى دون المستوى المطلوب بسبب ضعف التعليم أولا، وضعف القراءة ثانيا، وكذا بسبب الركون إلى السهولة والقعود في المقاهي ساعات طوال.
من ناحية ثانية، افتقدنا اللقاءات القصصية الجادة، التي كانت بمثابة ورشات لنقاش وتحليل النصوص، وكانت بمثابة المحك بالنسبة للكتاب الشباب. هذه اللقاءات سرعان ما تحولت إلى ممارسة علاقات عامة وعوضتها «ندوات وطنية في القصة» ليس لها من كلمة وطنية إلا الاسم. والدليل على ذلك أن هذه الندوات تناسلت بدون أن يفكر منظموها في خلق تنسيق بينها، وبدون أن تستطيع تحفيز حضور نوعي فاعل. فكيف ننعت ندوة بالوطنية وعدد حضورها لا يتعدى عشرة أشخاص أغلبهم يجعلون لقاءهم فرصة لاحتفال من نوع خاص لا دخل فيه للقصة. ومما أستغرب له أن بعض الجمعيات تغط في سباتها طوال السنة ولا تقوم إلا عندما تفكر في تنظيم مهرجان للقصة، تعتبره وسيلة للحصول على دعم مادي. أليس حريا بهذه الجمعيات الثقافية أن تسهر على تنشيط بيئاتها بعقد لقاءات دورية منتظمة في الزمن لتقديم ونقاش النصوص وإغناء تجربة كتاب القصة. هذا هو الدور المطلوب، وهو دور تقوم به، مثلا، جمعية البحث في القصة القصيرة حتى لو كانت هذه الجمعية وحدة رسمية تنتمي إلى الجامعة وليس لها طابع جمعية مستقلة.
ولئن كان الجيل السابق قد استفاد من حركة نقدية واكبت تجربته على اعتبار النقد كان غالبا وسيلة للتقييم والتعديل والتصويب، فإن النظرة إلى العملية النقدية أصبحت مشوبة بالحذر والشك. لقد هيمن، اليوم، النقد المجاملاتي السريع عبر الفيسبوك، فلم نعد نجد كلمة موضوعية واحدة إلا فيما ندر. وكلنا نتذكر كيف أن مقالة القاص أحمد بوزفور بشأن «تخريب القصة»، التي وضعت الأصبع على الجرح، قوبلت من بعضهم بكثير من الانفعال والاستهجان.
هناك، إذن، عوامل كثيرة ومتداخلة هي التي جعلت الاهتمام بالقصة يزيغ عن النص لينصب على طريقة الاحتفال. وينبغي العودة، اليوم، إلى جوهر العمل بكثير من الهدوء والإنصات والحذر من خداع الأضواء.
كاتب وقاص
بين هذه وتلك
علي أفيلال
لا تعنيني نشأة القصة القصيرة، بقدر ما يعنيني أنها عاشت قمة زمانها ولا تزال قمة.
كي دو موباسن،غوغول وإدغار ألان بو. وظلت ترفل في أمجادها القديمة. كيف لا وهي من وجدت لترفه على عينة من الطبقة الأرستقراطية ممن صارت تخونهم نعمة التركيز، لقراءة ما هو أطول، فيقبلون بنهم على قراءة ما هو قصير رغبة في الوصول إلى مكمن العقدة الفنية وبأسهل طريق.
على هذا المنوال كانت القصة القصيرة ولا تزال في أبهى حلة وأرقى مكانة، بين أوفيائها ممن يسعون إلى تطويرها بتطور عقولهم الواعية، المتفتحة عن كل ما هو جميل في الحقل الأدبي.
إذا كان هذا القول مجرد اختزال عن القصة القصيرة، فماذا عن القصة القصيرة جدا متعثرة الخطى؟ هل في نهجها ما يمكن أن يذكر المتلقي بنشر ردائها القصير على كثبان رمال متحركة لا تترك لها الرياح استقرارا في أي مكان؟
هل من دعائم تعتمد عليها هذه القصة؟ أو هذا الحلم بالكتابة؟
هل من وحدة زمانية ومكانية لها؟
هل من وصف دقيق للفضاء الذي تتحرك فيه؟
أمن عقدة فنية تشد المتلقي إليها؟
أعطي دليلا يشهد على هذا القول حتى لا يقول قائل ما إن صعوبتها هي الدافع إلى الهمس بهذا البوح؟
«هو لا أنا من خطف الدواء من صيدلية معتمة الأركان. ومن حينه صار يعدو ويعدو ليصل بالدواء إلى عليلة القلب وعندما وصل وجد الموت قد سبقه إليها..»..
هل قلت شيئا له أثر؟ قد يقول البعض نعم وقد يقول غيرهم : ما قلته يوحي بفكرة كتابة قصة قصيرة بكل مفاهيمها. المكان و الزمان والشخوص.
زمرة من كتاب أمريكا اللاتينية أبوا إلا أن ينخرطوا في غمار القصة القصيرة جدا وبشكل يعتمد على فقرة قصيرة، أو على كلمة معبرة قد تصلح مثلا أو تعبيرا عن شيء خاص.
ثلة من شبابنا أبت أيضا إلا أن تغترف من مصب هذا الرذاذ القادم، وكالعادة من الآخر. لكن ما الفائدة مما لم يتم فيه استيعاب ولا وجدت فيه طريق إلى الإبداع. فإذا كانت القصة القصيرة جدا لا يعنيها الحدث ولا بلوغ القصد ولا تحقيق المتعة، فإلى أي شيء تهدف، في غياب الشخصية وعناصر الحدث المنعدمة؟
تعبير محدود لا يفيد. هذه هي آفة الحداثة التي يأبى الشباب إلا التمسك بها، وبالتالي الرفض المتسرع لكل ما هو قديم.
روائي وقاص
القصة القصيرة الجنس الحرون
عبد النبي دشين
السؤال عن احتفاظ القصة القصيرة بمكانتها يستضمر إحساسا بكونها تعيش وضعا ارتكاسيا، على حساب أجناس أخرى مكنتها لربما التحولات السوسيوثقافية من إيجاد مسارب للتداول الواسع بما هي وسائل تعبيرية أكثر نجاعة في التجاوب مع أسئلة الواقع الحارقة. (الرواية –القصيدة- القصة القصيرة جدا...).
هذا الافتراض لا يعدو أن يكون مجرد انطباع آني عن وضع إشكالي لواقع القصة القصيرة، التي شكلت دوما جنسا أدبيا حرونا يتأبى على الترويض. لذلك عندما حف بها الاستسهال والادعاء، شبت عن الطوق لتعانق رحمها الذي تتخلق فيه حكاية لا تشيخ، نائية بنفسها عن أنيميا الخيال، وبعض المكملات الفنية، التي أصابتها جرعاتها الزائدة بأخطر حالات التسمم الإبداعي، فهي ترفض أن تتحول إلى مسوخات فنية، إذ لا تملك إلا كبرياءها الفني، انحازت إلى الاقتصاد في اللغة والتكثيف الباني لعوالم فسيحة ومصائر متقاطعة لبشر وجمادات، يصنع لها صاحبها أجنحة من احتمالات زئبقية تنفلت في لحظة وأدها وتكفينها على الورقة البيضاء.
إنها الجنس الإبداعي الأكثر اختزالا لكيمياء الكتابة، تمرين مستمر لامتلاك القدرة على تحويل الصمت إلى سيد للغات، تصيبها الثرثرة بالصمم، فتتوارى وتترك صاحبها تقوله اللغة. لا تستطيع أن تحيا إلا في مناخ يزودها بهواء نقي ودفء يسري في دواخلها انتعاشا، إذا سلطت عليها أضواء البهرجة توارت إلى ظلها لتسكن نورها.
لأنها بنت الحرية، ترفض أن تعيش في كنف الزعامات أو أن تغدو أمة لأي كائن. تجوع وتعيش فترات نضوب ولكن لا تفترس خيالها، هو إكسيرها الذي يمنحها الخلود. تكره أن تموت الدهشة في صاحبها، الذي تتكلس مشاعره وتتحنط، وقتها تنفلت هي من أسره، وتتبرأ من ادعائه الانتساب إليها، هو الذي أنتج نصوصا مقصرة بدل أن تكون قصيرة، عمد إلى خنق ما كتب كي لايؤخذ بجريرة الطول، وكأنما القياس هنا بالمعيار الهندسي، لا ببنية النص.
ارتكازا على ذلك ستظل للقصة القصيرة نفس المكانة، رغم كل ما يمكن أن يجعل من وضعها لحظة تدعو إلى التأمل. ستظل تحافظ على نضجها وتوترها، ولن تمكن نفسها إلا لمن يجيد الإصغاء لبلاغة صمتها.
قاص
البحث عن قارئ
محمد صوف
في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته حتى، كان صدور مجموعة قصصية يعتبر حدثا، سواء في الشرق أو في المغرب. وكانت الصحف تفسح المجال للقصة القصيرة فلا يخلو ملحق ثقافي من قصة قصيرة، والأمر نفسه بالنسبة للمجلات. قصة العدد كانت تحث القراء على اقتناء نسختهم. صدور مجموعة «الممكن من المستحيل»، مثلا، حركت أقلاما كثيرة لمتابعتها وأصبح اسم عبد الجبار السحيمي حديث الخاص والعام في مجال الأدب. رفيقة الطبيعة عندما أصدرت «رجل وامرأة»، وخناثة بنونة عندما أصدرت «فليسقط الصمت» استأثرتا بالمتابعة النقدية. محمد زفزاف وإدريس الخوري كانا كنار على علم. غير أن الأمور تتطور والقراءة تتراجع والأسماء تظهر تباعا. أغلب الكتاب كتبوا القصة القصيرة: محمد الصباغ، مبارك ربيع، أحمد جارك، محمد بيدي، مصطفى المسناوي، الميلودي شغموم، محمد الهرادي، أحمد بوزفور، أحمد المديني، محمد عز الدين التازي، بشير جمكار، أبو يوسف طه. قبل أن يطل جيل آخر من ضمن أسمائه مصطفى يعلى، إدريس الصغير، محمد زهير، عبد الرحيم المودن، عبد الحميد الغرباوي، المصطفى اجماهري، محمد غرناط، أحمد بطا وأحمد المصباحي اللذين أصدرا مجموعة مشتركة، ومحمد عزيز المصباحي. وأسماء ظهرت ثم اختفت كعبد الإله بلعباس، عبد الكريم التمسماني، صدوق نور الدين الذي امتلكه النقد قبل أن يطرق باب الرواية، وهلم جرا. وأسماء ظهرت وتابعت مسيرتها بتريث كالقاص عبد النبي دشين.
هذه الأسماء وتلك التي لم تسعفني الذاكرة باستحضارها جربت تيارات القصة القصيرة من الرومانسية، مرورا بالواقعية نحو الغرائبية والتجريب. وتوالت البحوث الجامعية دارسة هذه الظاهرة أو تلك في مجموعة هذا الكاتب أو ذاك، وإن كان محمد زفزاف حظي بنصيب الأسد في المتابعات النقدية.
حاليا تتناسل المجموعات والأسماء الجديدة..
الغائب الأكبر مع توالي الأيام كان ولا يزال القارئ أو ربما كيفية الوصول إليه. هناك محظوظون من الكتاب تجاوزوا القارئ إلى التلميذ، وقُررت مؤلفاتهم على غرار عبد الكريم غلاب وعبد المجيد بنجلون اللذين يعتبران كاتبين كلاسيكيين لاعتبارات خاصة.
ويبقى الغائب الأكبر هو القارئ أو كيفية الوصول إليه.
راهنا تتوالد الجمعيات وتنظم لقاءات في مختلف أنحاء المغرب.. القصة القصيرة أصبحت لها عواصم من بوشرو إلى مشرع بلقصيري.. وأصبح لها مناضلون ينتصرون لها ولتياراتها.
ويبقى الغائب الأكبر هو القارئ أو كيفية الوصول إليه.
لعلنا نعيش زمن القصة القصيرة على مستوى أنشطة الجمعيات وتنظيم اللقاءات والقراءات القصصية، كما كان الأمر بالنسبة للشعر في تسعينيات القرن الماضي. غير أن ظهور القصة القصيرة جدا بدأ يكتسح الساحة ويحوز بالاهتمام. طبعا هبت به ريح الغرب. وأصبحت القصة القصيرة جدا «هايكوا» نثريا لقي إقبالا من الكتاب أكثر منه من القراء. الاختزال والنهاية الصادمة، وأحيانا مقولة أو نكتة حتى تدخل حلبة القصة القصيرة جدا. رغم أنه ليس جديدا إذا أردنا التدقيق فقد كتب محمد إبراهيم بوعلو قصصا قصيرة جدا تقرأ في دقيقة واحدة.
لكن أين هو القارئ؟
دور النشر لا تتوقف عن إنتاج الإصدارات في القصة القصيرة جدا والقصة القصيرة لكن كيف؟ ولع القصاصين بالقصة وحبهم لها وحبهم إطلاع من يقرأ على ما يكتبون جعل منهم زبائن للناشرين. الناشر مجرد وسيط بين المطبعة والكاتب، حتى إن أغلبهم، والضمير يعود على الناشرين، لا يستطيعون تجاوز عقبة التوزيع. منهم من يوهم الكاتب بالقيام بعملية التوزيع، وما أن يطبع الكتاب حتى يتنصل من مهمته كناشر ويدع الكاتب يتولى عملية التوزيع بطريقة بدائية كأن يقوم بنفسه بعرض عمله على الأكشاك والمكتبات، متلقيا صفعات الرفض لأن الغائب الأكبر هو القارئ. في حين أن دور الناشر ليس التوزيع فحسب، بل هو مطالب بالترويج للكتاب وحضور المعارض واقتراح الأعمال التي ينشرها على الجوائز وطنيا وعربيا..
لا شيء من ذلك .
خلاصة القول إن القاص يكتب للقاص ويلتقي بالقاص ويحتفل القاص بالقاص في غياب مطلق للمتلقي. هي حقيقة مرة.لكن هذا الشي اللي اعطى الله.
قاص وروائي
محمد بوعزة: لم تعد دراسة الأدب في النقد الثقافي تجريدا ذهنيا يحلق خارج التاريخ
قال إن النقد الثقافي أخرج «الأكاديميا» من تعاليها الرومانسي إلى اشتباكها الدنيوي مع مكائد القوة والسلطة والتاريخ
وأخيرا، راحت منابر إعلامية مكرَّسة ومجلات ثقافية وليدة تنفتح على معطى "الدراسات الثقافية" أو "التحليل الثقافي" أو "النقد الثقافي" أو "سياسات النقد"... وغير ذلك من التسميات التي تحيل على هذا التيار، الذي لا زال البعض لا ينظر إليه بنوع من "الصواب المعرفي"، مع أن هذا التيار هو الأنسب لتفكيك الخطاطات والأنساق والبراديجمات... التي تتمظهر من خلال أشكال "التمثيل" في النص السردي كما في الكارت بوسطال واللوحة التشكيلية والمقال الفكري والعمل المعماري... إلخ. وكما أكدنا، في أكثر من مناسبة، ومن باب "التكرار الإيجابي" كما نعته ميشال فوكو، لا نرغب بأن نجعل من هذا النقد الثقافي التيار الذي لا يعلو عليه تيار آخر، ولا سيما في إطار من النظرة التراتبية التي لا يعي البعض مدى ارتكازه عليها في نبذ هذا التيار. ويهمنا، هنا، أن نحاور الناقد والأكاديمي محمد بوعزة لانخراطه الواعي في الموضوع من ناحية، ولأخلاقه الأكاديمية العالية من ناحية موازية. وللمناسبة فمحمد بوعزة أستاذ جامعي، وصاحب كتب نقدية ودراسات أكاديمية كثيرة، وجادّة، حول "سياسات التمثيل" و"تجاذبات الهوية" و"استراتيجيات التأويل". وفيما يلي نص الحوار.
- بصفتك ناقدا، وأكاديميا مواكبا، كيف يمكنك أن توجز، لنا، النقد الأدبي في صيغته العالمية الأخيرة؟
بتأمل تاريخ النقد الأدبي يمكن القول إن القرن العشرين هو «قرن النقد والنظرية» بتعبير صبري حافظ. وما عرفه هذا النقد من انبثاق لنماذج نظرية بالمعنى الإبستيمولوجي، غيرت بصورة عميقة الأسس والتصورات المؤسسة لمفاهيم الأدب والنص والقراءة والحقيقة، لم يعرفه تاريخ النقد في مراحله السابقة. فأهم الثورات النظرية التي غيرت الخرائط المعرفية للنقد الأدبي شهدها هذا العصر انطلاقا من ثورة الشكلانيين الروس، مرورا بالثورة البنيوية، وما تمخض عن نقد تمركزها العرقي من خطابات جديدة أسست للنظريات ما بعد البنيوية، التي شكلت بدورها منعطفا جديدا في مسار النقد الأدبي، وصولا إلى العقدين الأخيرين من القرن العشرين، حيث بدأت الدراسات الثقافية بمختلف تياراتها تهيمن على الفكر النقدي، النقد الثقافي وما بعد الكولونيالية والنقد النسوي والتاريخانية الجديدة، والتي عملت على إعادة موضعة الأدب داخل سياقات ثقافية منفتحة ومتعددة، مثل الثقافة والهيمنة والتاريخ والإيديولوجيا والإعلام. وهذا ما أدى إلى توسيع النظرية الأدبية بخروجها من شرنقة الحلقة النصية إلى مجال الديناميات الثقافية والاجتماعية المعقدة، وترسخ هذا التوسيع لمجال النظرية بتحطيم جدار الفصل بين أشكال الثقافة الرفيعة وأشكال الثقافة الدنيا من وجهة النظر المهيمنة، وبين ثقافة الإمبراطورية وثقافات الأطراف.
وفي سياق تداعيات هذه التحولات الخطابية تمت إعادة ترسيم الحدود بين الثقافات والخطابات والأنواع الفنية خارج منطق الهيمنة الاجتماعية، التي تملي ما هو «رفيع» وما هو «أدنى»، وما هو نسقي وما هو هامشي. وفي نظري، فإن أهم تحول أحدثه النقد الثقافي في مجال الدراسات الأدبية يتمثل في استدعاء مفهوم السياسات إلى حقل الجماليات، الذي ظل مقيدا بالنزعة الرومانسية والكانطية، بعدما ظل غائبا في الحقبة البنيوية وما بعد البنيوية.
- من أهم ما قيل عن النقد الثقافي إنه «كرنفال أكاديمي»، أي أنه إفراز لمناهج ونظريات وتصوّرات سابقة، ولكن مع ذلك فإن التأثير الذي يمكن أن يخلّفه هذا النقد أرجح من تأثير المناهج الغربية السابقة، التي تمّ تلقفها بسهولة في العالم العربي. كيف تنظر إلى هذه الفكرة، خصوصا أنك بدورك تفيد من هذا النقد في كتاباتك وقراءاتك؟
لا يمكن أن نفهم المرجعية المتعددة للنقد الثقافي، والتي تجعل منه مظلة تندرج ضمنها نظريات مختلفة وممارسات متعددة، لا تتموضع ضمن نسق معين وحدود مغلقة، دون موقعته في السياق التاريخي والإبستيمولوجي الذي تشكل فيه. من الناحية النظرية، ينتمي النقد الثقافي إلى الإبستيمولوجيا ما بعد البنيوية، التي تميزت بسيادة فلسفات الاختلاف والتفكيك، التي أعادت الاعتبار إلى مفاهيم التعدد والاختلاف والتداخل، حيث أصبح مفهوم «التغاير» سمة لكل فكر يطمح إلى فهم التجربة الإنسانية في تعدد أبعادها المحايثة وتباين مرجعياتها. والتغاير هنا يفهم في مقابل عزل التجربة وفهمها انطلاقا من مقولات منفصلة تغفل الجوانب المتعددة لطبيعتها. وهذا ما شكل مأزق الإبستيمولوجيا البنيوية حين عمدت إلى بناء نماذج كبرى وأنحاء كلية للظواهر، كان من نتائجها اختزال هذا التعدد والاختلاف في الفكر والممارسات والخطابات والنصوص. على خلاف ذلك، تنتظم مرجعية النقد الثقافي في حقل المعارف المتداخلة، ولذلك تتميز بكونها مرجعية متداخلة. بهذا الفهم الإبستيمولوجي، النقد الثقافي مضاد للنزعة التخصصية، لأنه ينطلق من قناعة بأن التجربة الإنسانية، التي تمثل المادة الخام للتاريخ الإنساني والثقافة، لا يمكن أن تفهم بشكل ملائم بواسطة التخصصات الأكاديمية التي تعزلها في مقولات منفصلة، وهذا ما يسوغ مطلب المرجعيات المتداخلة الذي تتيحه المعارف المتداخلة.
وإذا كان البعض يرى في هذه المرجعية المتداخلة تشعبا يناقض مقتضيات النظرية، فالعكس هو الصواب لأنها تمنحه، في نظري، قوة تفسيرية مركبة، تمكنه من فهم دينامية الممارسات الثقافية وتفكيك أنساقها المضمرة، وكشف علاقاتها التراتبية وتعرية ألاعيب القوة فيها، وهوامش المقاومة المصاحبة لها.
- هل بإمكان النقد الثقافي أن يرقى فعلا إلى «الأكاديميا» غير المفصولة عن مشكلات الناس والمجتمع والعصر؟
أعتقد أن النقد الثقافي أخرج «الأكاديميا» من تعاليها الرومانسي إلى اشتباكها الدنيوي مع مكائد القوة والسلطة والتاريخ. كما أنه كشف سيرة التورط الشيطاني في الإبستيمولوجيا الغربية بين المعرفة والقوة، بين الثقافة والإمبريالية، وبين الحداثة والعنف، دون أن يضحي بالقيمة المعرفية لمرجعياته النظرية، لأنه يتسلح بترسانة قوية من النظريات الأدبية (نظريات النص والعلامة والتأويل...) والاجتماعية والفلسفية مثل فلسفات التفكيك والاختلاف (دريدا، لاكان، ألتوسير..) والتاريخانية الجديدة (فوكو، غنربلات) والنظريات ما بعد الماركسية (رايموند ويليامز، أدورنو، هوكايمر، هابرماس)... وفي سياق هذه المعارف المتداخلة أعاد النقد الثقافي رسم خريطة الدراسة الأكاديمية، بإعادة ربط النظري التخصّصي بالثقافي والسياسي، مما فتح المجال لاستعادة الدور النقدي للذات في مجال المعرفة والبحث.
إذا كانت الأكاديميا في صورتها المتخصصة تقوم على فصل مثالي بين الذات (ذات المعرفة) والموضوع، فإن النقد الثقافي ينطلق من مسلمة موضعة الباحث في الأفق الثقافي والاجتماعي للموقع الذي يتكلم منه. يتجنب الناقد الثقافي وهم الحياد الذي يدعيه الأكاديمي المتخصص بذريعة الموضوعية المزعومة، لأنه في منظور النقد الثقافي لا توجد موضوعية مطلقة، لاستحالة فصل ذات المعرفة عن موضوعها، ولأن كل معرفة بطبيعتها متحيزة. وهذا ما أبرزه إدوارد سعيد في تفكيكه للخطاب الاستشراقي، وما تضمنه من تحيزات سياسية وعرقية، والذي استخدم كأداة للهيمنة على الشرق وتسويغ المغامرة الإمبريالية. كما أن الناقد الثقافي يؤمن بمسؤولية المثقف ودوره في كشف ألاعيب السلطة. إن «سياسات النظرية» تستدعي أن يفكر الأكاديمي في سياسات الحاضر ومشكلات التاريخ، وإلا ما الجدوى من «النظرية»، طبعا في إطار متطلبات الملاءمة الإبستيمولوجية. لم تعد دراسة الأدب في النقد الثقافي تجريدا ذهنيا يحلق خارج التاريخ، لأن أي نظرية تتموقع ضمن ثقافة يؤثر سياقها التاريخي فيما تنتجه من أفكار وتصورات، وما يترتب عنها من سياسات عملية (هيمنة، تسلط، إساءة تمثيل، تزييف، تحكم...)، وهذا ما يحدد إيديولوجيتها المضمرة، سواء كانت واعية بذلك أم غير واعية. من هذه الزاوية الجديدة، وعلى خلاف النظرية الأدبية، لم تعد دراسة الأدب في النقد الثقافي مجرد مشروع نسقي، بل مشروعا تاريخيا، مرتبطا بالتجربة الإنسانية وما تتعرض له من تشويه وإساءة تصوير، سواء على مستوى التمثيلات التخييلية، أم على مستوى السياسات الواقعية.
- وهل ما يكتب في النقد العربي حاليا يرقى إلى النقد الثقافي؟
يقتضي الفهم التاريخي أن نموضع النقد العربي في سياقه المعرفي والتاريخي قبل أن نحكم على تعاطيه مع النقد الثقافي. وأرى أن سياق ممارسة النقد الثقافي في الفكر العربي يتميز بمجموعة من الإكراهات. أولها الإكراهات المؤسساتية. كما أوضحت سابقا، النقد الثقافي في صورته الغربية تشكل في فضاء معرفي مؤسساتي. بمعنى أن المعرفة فيه تنتج في إطار مؤسسات منظمة واقتصاد معرفي مندمج. لذلك فالناقد الثقافي في الغرب تسنده علوم إنسانية مؤسسة، بينما في السياق العربي وضع «العلوم الإنسانية» (الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا...) متدهور جدا. وهذا الوضع المعرفي يؤثر حتما على وضعية النقد الثقافي في الفكر العربي، لأنه لا يقدم له أرضية معارف مؤسسة تدعم مرجعياته في الرؤية والتأسيس. وهذا يجرنا إلى الإكراهات السياسية. ذلك أن النقد الثقافي ازدهر في الغرب في وضع سياسي منفتح يتمتع بحرية الفكر، ولذلك فإن سقف أبحاثه غير محدود، ولا تعترضه خطوط حمراء. وهذا ما يفسر خطورة الموضوعات التي يقتحمها، منها إعادة قراءة التاريخ من منظور الضحايا (تاريخ الهنود في أمريكا تاريخ الأصلانيين في أستراليا..) واكتشاف مناطق الظلام فيه، وهو ما يفضي طبعا إلى خلخلة ثوابت «الهوية المحافظة» وإعادة تشكيلها. كما اقتحم النقد الثقافي الغربي مجال تفكيك استراتيجيات السلطة في احتكار المجال العام والمراقبة، والتلاعب بالرأي العام، وتفكيك أنظمة التوجيه الإيديولوجي في التعليم، وغيرها من القضايا الحساسة التي تكتسب خطورتها من خطر المس بامتيازات الهوية المهيمنة. على خلاف ذلك، يبدو سقف موضوعات النقد الثقافي في الفكر العربي محدودا ومقيدا، بسبب وجود خطوط حمراء لا يمكنه تجاوزها أو اقتحامها، لذلك ظل يحوم حول النصوص الأدبية، وأشكال الثقافة الرفيعة، ولا يتجاوزها إلى المسكوت عنه في الثقافة والتاريخ والسلطة. ويكفي أن نستحضر ما تعرض له طه حسين من قمع وعنف، حين اجترح قراءة جديدة لتاريخ الشعر العربي، وأيضا ما تعرض له نصر حامد أبو زيد من اضطهاد دفعه إلى المنفى القسري.
وفي سياق الالتباسات النظرية التي صاحبت تشكل النقد الثقافي في العالم العربي، هناك مشكل العلاقة الملتبسة مع النقد الأدبي. منذ البداية تميزت هذه العلاقة بالتوتر، حين تم الترويج للنقد الثقافي على أنه بديل للنقد الأدبي، بما يفيد نهاية صلاحيته. وبالإضافة إلى تشوش المصطلح وتداخله مع مصطلحات أخرى (ما بعد الكولونيالية، التاريخانية الجديدة، الدراسات الثقافية، النقد النسوي...)، تعرض بفعل هذه العلاقة الملتبسة إلى تشوش وظيفته. والحال أن النقد الثقافي يستند في مرجعياته على منجزات النقد الأدبي والنظرية الأدبية (بالإضافة إلى العلوم الإنسانية الأخرى)، ويعمل على تكييفها بما يخدم استراتيجيته في تفكيك الأنساق وكشف السياسات الثاوية خلف الجماليات. وبالتالي فالعلاقة بينهما لا تقوم على عقدة أوديب، أي على القتل والإلغاء، بل على إعادة تأويل النظريات الأدبية في سياق استحضار وقائع القوة والسلطة والثقافة التي تتموضع فيها النظريات والنصوص الأدبية. باستحضار هذه الإكراهات يمكن أن نفهم التحديات التي تواجه النقد الثقافي في العالم العربي، ونعي الشروط التي ينتج فيها خطابه، وبالتالي تقيد إنتاجيته ومجالات تفكيره واشتغاله .
- إدوارد سعيد، الذي أقدمت على ذكره، والذي كان أبلغ تأثيرا على إعطاء الصورة الإجمالية للنقد الثقافي هو نتاج الغرب بأكثر من معنى. لكن مع ذلك كان لجذوره الشرقية تأثير على مستوى الاشتغال على نقض الهيمنة الغربية وتفكيك علاقات القوة الكامنة في الثقافة. سؤالي: كيف تمثّل النقاد والباحثون والمفكرون العرب إدوارد سعيد على هذا المستوى؟ وما الذي جعل هذا التمثل لا يرقى إلى ما حصل في الهند مثلا من خلال ما يعرف ب»دراسات التابع»، وحتى في «إسرائيل» من خلال ما يعرف ب«ظاهرة المؤرخين الجدد»؟.
لا يمكن أن ننكر أثر «الجذور والأصول» في تشكيل رؤية إدوارد سعيد للعالم. وهذا واضح بشكل جلي في كتبه. وقد شخصه وعبر عنه في مذكراته «خارج المكان».
- إذا سمحت، أنا لا أقصد ما يسميه مثلا رولان بارت ب«أسطورة الأصل»، وإنما أقصد المعرفة المتينة ذاتها حين تكون امتدادا للذات في أطرها الثقافية والتاريخية. فميشال فوكو، مثلا، الذي أحلت عليه، ألم يعاني من الجنون والجنس والمرض؟ ألم يكن من تأثير لهذه الألغام على مستوى تمتين آلة التحليل والحفر المعرفي لديه؟ ألم يقل المفكر أو بالأحرى المؤرخ المغربي الأبرز عبد الله العروي في كتابه «السنة والإصلاح»: «وما من قول يصدر عنا إلا ويعبّر عن همّ ذاتي». إدوارد سعيد نفسه لم يتردّد في الحديث عما أسماه، في تذييل طبعة 1995 ل»الاستشراق»، ب»البعد الشخصي» أو «الخسارة الشخصية والتمزق الوطني» الذي كان له تأثيره في دراسته لمشكلات الاستشراق.
ما ينبغي توضيحه أن علاقة إدوارد سعيد بأصوله (العربية والفلسطينية) لا تتأسس على سياسات الهوية، أي على سلطة النسب، بل على ما يسميه الاختيار، فهو، كما يصف نفسه في مذكراته، «عربي الاختيار». وبالنسبة للشق الثاني من السؤال المتعلق بتلقي الفكر العربي لإدوارد سعيد، أصنفها إلى ثلاثة أنماط من القراءات: القراءة الأيقونية، وهي التي جعلت من إدوارد سعيد أيقونة مقدسة، وقعت في إغراء الانبهار والإعجاب بمنجزه. ذلك أنها رأت فيه نموذجا عالميا يعوض إحساسا بالخسارة، لأنه استطاع أن ينقل «الاسم العربي الجريح» إلى العالم. القراءة الإيديولوجية استثمرت الرأسمال الرمزي لاسم إدوارد سعيد ومكانته في الأكاديميا الغربية، لتحقيق مصالح إيديولوجية. فقد رأت في تفكيكه للخطاب الاستشراقي والثقافة الغربية إما دفاعا عن الشرق، أو نقدا هجائيا للغرب. مثال ذلك، بعض التيارات الإسلامية التي رأت في كتابه «تغطية الإسلام» دفاعا عن الإسلام كما تفهمه، في حين أن موقف إدوارد سعيد واضح من الدين، لأنه يتأسس على ما يسميه النقد الدنيوي/ العلماني. وموضوع كتابه «تغطية الإسلام» واضح، هو نقد تمثيلات المسلمين في الإعلام الغربي والأمريكي. كما أن التيار القومي لعب على اسم إدوارد سعيد في الترويج لأطروحته في تأكيد مقولة الصراع بين الشرق والغرب، بإساءة تأويل كتاب «الاستشراق»، في حين أن هدف إدوارد سعيد من «الاستشراق» كان هو تفكيك ثنائية الشرق والغرب، من أجل بناء عالم من الهويات المتصالحة يقوم على المشاركة والتعاون والتواريخ المشتركة، بل إن الاتجاه القومي حاول استثمار اسم إدوارد سعيد بعملية تعليب لهويته بالتأكيد على أنه «مفكر عربي» بالمعنى القومي العرقي. في حين، كما وضحت سابقا، يرى إدوارد سعيد أنه عربي بالاختيار وليس بالنسب أو العرق، وعمله الفكري هو نقد لسياسات الهوية القومية العرقية في كل الثقافات. طبعا هناك بعض القراءات الجديدة التي حاولت تجاوز مآزق القراءة الأيقونية والتلقي الإيديولوجي لإدوارد سعيد، وذلك باستحضار القراءة المعرفية التي تستفيد من منجزه النقدي والفكري دون أن تقع في سحر النموذج، لأنها تعي أن قيمة هذا النموذج ليست مطلقة، بل لها حدودها. كما أنه لا يمكن استنساخ تجربة إدوارد سعيد، لأنها تجربة لها خصوصيتها الثقافية. فإدوارد سعيد، كناقد ومفكر، هو في النهاية نتاج الأكاديميا الغربية.
- وهل العرب، بالفعل، لم يرقوا إلى «مرحلة ما بعد الاستعمار»، كما يقول البعض، طبعا من موقع التشخيص وليس التشفي؟
تجربة التحرر والاستقلال، بالنسبة للعرب، كانت متعثرة، بفعل «عوائق التحديث»، التي تحالف فيها الاستعمار مع الاستبداد وقوى التقليد. فبعد مرحلة المقاومة الوطنية بمختلف صورها المسلحة والثقافية والسياسية، انحرفت النخبة السياسية عن مسار الدولة الوطنية. وكما وضح فرانز فانون في نقده لدول الاستقلالات الحديثة، بعد مرحلة التحرر الوطني، فشلت الدولة الوطنية في تحقيق النقلة التاريخية من التحرر الوطني (الاستقلال السياسي عن الاستعمار) إلى التحرر الاجتماعي (بناء دولة العدالة والديمقراطية)، لأن الاستقلال - كما أثبتت التجربة على أرض الواقع، بتعبير فانون- استبدل «الشرطي الأجنبي» بالشرطي المحلي أو «الأصلاني». ويكفي أن نعود إلى الرواية العربية التي استلهمت تجربة الاستقلال، لنكشف مخاضات الولادات القسرية التي يعاني منها مشروع الدولة الحديثة العربية المؤجل.
- ثمة فكرة في غاية من الأهمية المعرفية قالت بها الناقدة الثقافية المصرية الشابة شرين أبو النجا، وهي فكرة تحرّرنا من الارتباط الصنمي بإدوارد سعيد الذي كرّرنا الإحالة عليه. ومضمون الفكرة بأنه على المثقف أن يكون هامشياً لكي يكون له الحق في نقد السلطة، على نحو ما قال إدوارد سعيد في كتابه «صور المثقف». كلام قيل في ثمانينيات القرن المنصرم، في حين نحن الآن أمام بحر متلاطم من الغيتوهات والقوميات والعصبيات والعشائريات والمذهبيات. تواجهنا مشكلة ضخمة كما تقول. سؤالي: هل من أدوار أو بالأحرى من دور للناقد المثقف أمام هذا الماكينات الجارفة؟
الخيانة المعرفية التي يمكن أن نمارسها ضد إدوارد سعيد هي في تحويله إلى أيقونة مقدسة تتعالى على غواية النقد. لقد ظل طيلة حياته الفكرية الصاخبة يقاوم بالفكر النقدي كل سلطة مطلقة، وكل معرفة سلطوية وقهرية، مدافعا عن وظيفة النقد الدنيوي المعارض، في تشييد فكر نقدي إنسانوي، يوسع مساحات الحرية والعدالة والتعاون بين البشر. من هذه الزاوية، إن تجربة إدوارد سعيد كمثقف مغرية، وتكمن خطورتها في إغرائها، ولكنها تظل محكومة بخصوصيتها الثقافية وسياق تشكلها التاريخي. لهذا سيكون من السذاجة الثقافية استنساخها. بطبيعة الحال، التغيرات النظرية والسياسية التي جرت في العالم تقتضي إعادة تأويل دور المثقف. ولذلك لا يمكن أن نختزل دور المثقف في الصورة الوحيدة التي نقشتها تجربة إدوارد سعيد، خاصة أن السياق الثقافي العالمي الجديد، الذي يتميز بالتطور الهائل والمتسارع في وسائل الاتصال والتواصل الجديدة، أدى إلى تحوّلات جذرية في مفهوم الثقافة بفعل دخول وسائط جديدة منافسة للكتاب، مما ترتب عنه تحول في مفهوم الخطاب الذي يمثل أداة المثقف التقليدي في ممارسة وظيفته. كما أن حقل المثقف لم يعد محتكرا على الناقد أو المفكر، بل عرف دخول لاعبين جدد، وهذا ما ترتب عنه تغير قواعد نظام الخطاب، بدخول الوسائط الإلكترونية الجديدة، وظهور فضاءات نصية وخطابية جديدة، من أهم إبدالاتها توسيع مفهوم الثقافة ليشمل فاعلين جددا وأشكالا خطابية جديدة، ومتلقين جددا، أي القراء الافتراضيين، تبدو معها صورة المثقف الورقي تقليدية. كل هذه التحولات تقتضي إعادة تحديد مفهوم المثقف وأدواره في ضوء التحولات الجذرية في مفاهيم النصية والكتابة والثقافة والقراءة، بالارتباط مع قواعد الثقافة الرقمية الجديدة. بطبيعة الحال، هذه التحولات الجذرية هي ما يجعل الدور النقدي للمثقف راهنيا، من أجل توسيع ثقافة النقد والسؤال لمواجهة سيل المعلومات التي تحاصر الوعي، بمعرفة نقدية لا تكتفي باستقبال ما يفرض على الوعي من معلومات، بل بإخضاعها للتفكير النقدي، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بامتلاك الوعي لآليات التحليل والتأويل والتفكيك وثقافة العقلانية النقدية.
- سؤال أخير: هل من مستقبل للنقد في المغرب؟ وكيف تنظر إلى ذلك؟
يقول إدوارد سعيد: «لا وجود للنقد إلا لأن النقاد يمارسونه». لذلك أرى أن مستقبل النقد في ثقافتنا مرهون بتطوير ممارستنا النقدية من الناحية الإبستيمولوجية (علاقة الناقد بمرجعياته النظرية) والثقافية والاجتماعية (نوع العلاقات بين النقاد باعتبارهم فاعلين ثقافيين تحكمهم نوازع اجتماعية وإيديولوجية مختلفة ومتنافسة).
يفرض المطلب الإبستيمولوجي على الناقد أن يتعمق في الأصول المعرفية والفلسفية للمناهج والنظريات، بما يمكنه من فهم ما يسميه الباحث محمد مفتاح الأسس الميتافيزيقية لهذه النظريات، حتى لا يقع في استلابها، ويسيء توظيفها. ويفرض المطلب الثقافي الاجتماعي تطوير علاقات بين النقاد تقوم على «أخلاقيات المعرفة»، تجسدها قيمة الاعتراف المتبادل، بما يجعل الحوار النقدي مؤسسا على الدينامية المعرفية وليس على الاستقطاب الإيديولوجي، أو بلاغة المجاملة. وارتباطا بمستقبل النقد أرى أن ممارستنا النقدية في حاجة إلى التفكير في رهانين متكاملين، هما الاختلاف النقدي والحوار النقدي. أعني بالاختلاف النقدي أن الخطاب النقدي هو خطاب متغاير، لا يختزل في ممارسة واحدة ومتجانسة، بل على العكس يعبر عن ممارسات خطابية متعددة، وبالتالي لا يمكن فرض نموذج واحد ونزع الشرعية عن النماذج الأخرى. وهذا يعني أن النقد يطور ممارسته الخطابية في سياق يتميز بالاختلاف، الذي يعبر عنه واقع تعدد القراءات والمقاربات. لذلك لا يمكن لأي منهج أن يدعي تملك الحقيقة ويفرض نفسه كبديل لكل المناهج. إن تعدد المناهج لا يسوغ حالة الاستقطاب والصراع، خاصة في ظل ما يعرفه الفكر الإنساني من تداخل في المعارف، بل يساهم في إضاءة الأبعاد المتعددة للظاهرة الأدبية والثقافية، وفي تطوير سياسات تدبير الاختلاف. ولذلك أرى أن مستقبل النقد في تعددية خطابه وتفاعل نماذجه، وما ينشأ عنها من دينامية معرفية تكتسب جدليتها من حوارية النماذج وتعددية الرؤى والمنظورات.
حاوره - يحيى بن الوليد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.