بداية من هو نجيب العوفي؟ نجيب العوفي واحد من أيها الناس، يأكل الطعام ويمشي في السوق؛ لكن أدركته حرفة القراءة والأدب في سن مبكرة. وتحديدا في ستينيات القرن الماضي، فأنا من جيل النكبة، الجيل الذي فتح عينيه في 1948 . كانت قراءاتي متراحبة ومتنوعة في الأدبين القديم والحديث والعربي والأجنبي. بدأت الكتابة وولجت عالم الأدب والنشر منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي. تخرجت من الجامعة واستكملت فيها دراستي العليا واشتغلت أستاذا جامعيا للأدبين القديم والحديث و وان كان هواي للأدب الحديث أميل.اجتذبني النقد الأدبي إلى معتركه ، فانخرطت فيه وتفرغت له. وأصدرت في هذا الصدد كتبا كثيرة تدور في فلك الشعر والقصة والرواية... ولا تزال حرفة الأدب تلاحقني ..إلى الأبد. بدأ مشواركم الثقافي بكتابة القصة القصيرة، فلماذا القصة القصيرة بالضبط؟ لأنها بالضبط قصة قصيرة ، خفيفة وظريفة ، مركزة ومكتنزة.هي خفيفة في اللسان لكنها ثقيلة في الميزان.وفي الجرم الصغير ينطوي الجرم الكبير كما قال المعري. ومعلوم تاريخيا وأدبيا أن القصة القصيرة جاءت في أعقاب الرواية وعلى حافتها،وفي سياق حضاري وثقافي واجتماعي متسارع التطور وملتبس أيضا. فكانت القصة القصيرة قالبا أدبيا ملائما ورادرا فنيا لاقطا لإيقاع الأزمنة الحديثة.وجديرا بالإشارة أن كبار الروائيين العرب والغربيين زاوجوا و راوحوا بين كتابة الرواية وكتابة القصة القصيرة. ويجدون دائما جنينا نوستالجيا لمراودتها ..في اتصال لي هاتفي مع الروائي العربي الكبير عبد الرحمان مجيد الربيعي المقيم في تونس، سألته عن آخر شواغله وإنتاجاته الأدبية. فأجابني محبورا أنه بصدد إصدار مجموعة قصصية جديدة. وأنه يجد متعة خاصة في كتاباتها فعلا ، إذن للقصة القصيرة سحرها الخاص. وأستحضر هنا مقولة انطون تشيكوف الشهيرة؛ ( إذا كان الطب زوجتي فإن القصة القصيرة عشيقتي). تختلف القصة القصيرة عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، فما هي مميزاتها وتقنياتها؟ لا أجد لحد الآن ، تعريفا أو توصيفا للقصة القصيرة أجمل وأدل من تعريف موبسان الشهير لها؛( هي رصد لخطة أو حالة حكائية لايهتم الكاتب بما قبلها أو بما بعدها). وأيضا وعطفا تلك القولة الشعرية الوامضة لتشيكوف؛ ( هي كذبة متفق عليها بين الكاتب والقارئ ). ومعلون أن موبسان وتشيكوف هما رائدا القصة القصيرة. وقد ألفت كتب نظرية ونقدية كثيرة عن القصة القصيرة سواء في الحقل الغربي أو العربي ، وبذل الدارسون جهودا موفورة لسبر أغوراها واكتناه أسرارها واجتلاء مقوماتها وعناصرها. ولكن يسهل القول إنها أحسن الأشياء طرا ، ويصعب التحديد كما قال الشاعر ابن الرومي .ذلك أن الكتب النظرية والنقدية قد تقدم معرفة بالقصة القصيرة وفهما لطرائق وآليات اشتغالها ، وجسا دقيقا لنبض جماليتها وشعريتها. لكن الكتب مع ذلك ، لا تقبض على سرها ولا تقع على مفتاحها.وبالتالي لا تعلم أسرارها وتقنياتها وشروط صنعتها. إن الأمر موكول في الأساس لموهبة كتابة القصة القصيرة. ولا تعني الموهبة هنا إلهاما لذيذا خارقا للمألوف، بل تعني ببساطة الإحساس القصصي بالأشياء ، والإحساس الجمالي بالقصة القصيرة ، التي يتلخص سرها في اسمها . أي في كونها قصة أولا و قصيرة ثانيا. هنا جمالية وصعوبة القصة القصيرة في آن. بدأت القصة القصيرة تنتعش في المغرب ، وكثرت الملتقيات والندوات، فكيف تفسر إقبال الشباب على هذا الجنس الأدبي؟ أفسر هذا الإقبال بثلاثة أمور متضافرة ومتضايفة. الأمر الأول ، جاذبية القصة القصيرة وجماليتها الإبداعية الخاصة التي أومأت إليها آنفا. إن القصة ضرب من الحكي والنميمة. والإنسان مولع دائما بالحكي والنميمة. الأمر الثاني ، بما أن القصة القصيرة كما يبدو من اسمها ، تعتمد القص القصير، فهي تغري بالكتابة وتوحي للوهلة الأولى ، بسهولة اقتحامها . وهي سهولة ممتنعة بالطبع،ومحفوفة بمصاعب وتكاليف أن تكتب شيئا جميلا ودالا، ممتعا ومفيدا، في حيز لغوي قصير ، أنت مسؤول فيه حتى على النقطة والفاصلة. الأمر الثالث ، إن القصة أصبحت منافسا أو قسيما مناظرا للشعر ، إن النص الشعري يستوعب الأنا الغنائي ، ولا يستوعب الواقع المحيط بهديره اليومي. والقصة القصيرة قادرة على النط على الحبلين والعزف على الوترين ، الذات والمجتمع. لكل هذه الأمور والحيثيات في نظري، كثر الإقبال على هذا الجنس الأدبي ، كما كثرت الملتقيات والندوات والجمعيات المهتمة بشؤون وأسئلة القصة القصيرة. لكن الإقبال لا يعني دائما ، جودة الحصاد.وأخشى أن تقل القصة كلما كثر القاصون والقاصات على غرار قولة شوقي الشهيرة؛ ( إذا كثر الشعراء قل الشعر). ذلك أن كثيرين يتعاملون مع القصة بخفة ويسر ولا يبذلون جهدا كبيرا في كتابتها، فيقصون أجنحتها بدل أن يستثمروا قصصيتها . والملاحظ ألان ، هو إقبال الأجيال الجديدة وحتى المخضرمة ، على كتابة القصة القصيرة جدا ، كفن سردي جديد نشأ على غفلة من القصة القصيرة كما نشأت هذه على غفلة من الرواية، وذلك استجابة لإيقاع التحولات السوسيوثقافية اللاهثة . وهو رهان إبداعي جديد متروك لشواهد الامتحان. تميزت المرحلة الثانية من مشواركم الثقافي بالانكباب على الدراسات النقدية ؛ كيف تم الانتقال من القصة القصيرة إلى النقد؟ جرت العادة بالنسبة للمتأدبين الذين أدركتهم حرفة الأدب ، أن يستهلوا مسارهم الأدبي بالكتابة الإبداعية الصرفة. وغالبا ما يكون الشعر أو الخواطر والسوانح الشعرية بالأحرى هي محطة الإقلاع الأولى. وشخصيا كانت القصة القصيرة هي محطتي الأدبية الأولى التي انطلقت منها وناوشت فيها سحر الكلمة وإغراءها. ..كنت شغوفا في صباي بقراءة القصص والمجاميع القصصية، عربية وغربية.كنت شغوفا على نحو خاص ، بقراءة محمود تيمور وانطون تشيكوف وموبسان وهم سادة هذا الفن. وأسلمتني كثرة القراءة مباشرة إلى كتابة القصة القصيرة. ومع مطلع السبعينيات ، توقفت إراديا عن كتابة القصة القصيرة واتجهت إلى الكتابة النقدية.وكان حافز هذه النقلة موضوعيا أكثر منه ذاتيا. ذلك أن الإبداع المغربي الحديث في هذه المرحلة ، كان يراكم أعماله في أجناس الأدب الثلاثة: الشعر، القصة و الرواية. وكان مكان النقد فارغا أو شبه فارغ.كانت المتابعة النقدية قليلة جدا.وكان المهتمون بهاجس الكتابة النقدية يقل عددهم عن أصابع اليد.وبدافع من شعور ضاغط بالمسؤولية الأدبية توقفت عن الكتابة القصصية وتفرغت للكتابة النقدية،رأبا لصدع وسدا لفراغ. لا أكتب الآن نصوصا سردية بمعنى الكلمة .لكني ما زلت أجد متعة كبيرة في قراءة النصوص القصصية، ومتعة إضافية في الكتابة عنها. باعتباركم واحدا من النقاد العرب المتصلين بالمشهد النقدي العربي، ما هو وضع النقد العربي اليوم؟ على العموم النقد العربي اليوم بخير .فهو منخرط في إيقاع العصر ومساير لتفاعلات النظريات والمناهج الغربية أخذا بأهدابها ، على هذا النحو أو ذاك. علما بأن مساحة هذا النقد في المشهد الثقافي العربي، تبقى محدودة ومتواضعة ولا تفي بالمقاصد والغايات.فأعداد النقاد والدارسين للأدب قليلة.بالقياس إلى أعداد المبدعين والباحثين في مجالات ثقافية أخرى.وهذا يقلص من فاعلية المواكبة النقدية الراصدة لدينامية الإبداع. كما يجعل الإبداع ذاته في حل من أمره ومنطلقا على عواهنه، بلا رقيب ولا حسيب . وبخاصة أن معظم النقد العرب منشغلون بالدرجة الأولى بالأسئلة النظرية أكثر من انشغالهم بالمقاربات النصية-التطبيقية. ويبدو الوضع النقدي العربي اليوم، أقصر قامة وأحنى هامة إذا قورن بوضع النقد العربي في سنوات الستينيات والسبعينيات .. من القرن الماضي ، حيث كان النقد والسجال النقدي يملأ المشهد الثقافي الأدبي وكان النقاد الكبار مادة ونجوم هذا المشهد. وقد غابت الآن من المشهد الكاريزمات النقدية الفاعلة- المؤثرة والمثيرة للجدال والسؤال. ومع ذلك، فصوت النقد حاضر على امتداد الوطن العربي. وأجيال النقاد العرب الشباب تمارس النقد بحماس وطموح ، وتجد أحيانا دراسات وأبحاثا لا تخلو من جدية وجدة. لكن لا نلمح في الأفق تيارات أو مدارس نقدية.كما لا نلمح ، -وهذا هو الهم الأهم-، بوادر لمشروع نقد أدبي عربي، يحمل بصمته الخاصة المميزة ويستجيب لنبض هويته الخاصة المميزة. هناك من يعتبر أن النقد العربي والتنظير له ، متقدم جدا في المغرب ، عكس ما هو موجود في المشرق؛ هل هذا صحيح؟ ربما كان هذا الرأي واردا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، في غمرة الرياح اللواقح للحداثة التي هبت على المشهد الثقافي العربي ، وكان المغرب سباقا إلى تلقي وتمثل هذه الحداثة ، وبخاصة في مجال النقد الأدبي ونظرياته ومناهجه. لكن الوضع الآن تغير وميزان القوى تبدل، وأصبحنا في الحداثة سواء ، مغربا ومشرقا ،سواء تعلق الأمر بالإبداع ، أم بالاجتهاد النقدي ? النظري والتطبيقي. ففي المشرق العربي وفي الخليج خاصة، حركة نقدية محترمة واجتهادات نظرية ثاقبة وطموحة ، في مجال الدرس الأدبي ، تستكمل كورال النقد العربي. من المحيط إلى الخليج .ولعل شغف المغاربة المعروف بالنقد والتنظير ، راجع إلى أن المغرب تاريخيا فقهي المنزع أكثر مما هو أدبي المنزع. كيف تنظر إلى إشكالية العلاقة الثقافية بين المشرق والمغرب؟ لا أعتقد أن هذه العلاقة ترقى إلى مستوى الإشكالية. فهي علاقة أصبحت الآن ندية بالتشديد ، أخوية متكافئة لا غالب فيها ولا مغلوب. هكذا لم تعد مقولة الصاحب بن عباد المشهورة ( هذه بضاعتنا ردت إلينا) واردة الآن،بعد أن أصبح المغرب ثقافيا قسيما وندا للمشرق في كافة المجالات الثقافية خاصة في مجال الأدب والنقد.صحيح لقد أتى علينا حين من الدهر،كان المشرق فيه مركزا( القاهرة ،بيروت، بغدد، دمشق) وكانت الأقطار المغاربة تحتسب أطرافا وهوامش تابعة للمركز. كان يقال على سبيل المثال القاهرة تؤلف وتنتج وبيروت تطبع والعالم العربي يقرأ. الآن تغيرت المعادلة، وأصبح المغرب مركزا ثقافيا وأدبيا مرموقا، يسرق الضوء أحيانا من المنارة الشرقية بشهادة المشارقة أنفسهم. لقد تحول مركز الثقل الثقافي بين عشية وضحاها ، من المشرق إلى المغرب، و إلى الخليج أيضا. وتلك الأيام نداولها بين الناس.وغير خاف على الناس أن الكتاب المغربي أصبح له شيوع ورواج في المشرق ، حاملا معه مظاهر النبوغ المغربي في الأدب والنقد والتفكير الفلسفي...والشواهد على ذلك كثيرة واضحة للعيان.وكثير من جامعات الخليج أضحت مدعومة بكفاءات الأساتذة المغاربة الباحثين. ولذلك لم يعد المغرب هامشا ثقافيا على ضفة المحيط ، بل أصبح هو الآخر منارة ثقافية مشعة. وجدير بالإشارة أن هذه الإشعاع الثقافي المغربي، هو إشعاع عصامي صرف يقوم به المثقفون المغاربة بجهودهم الخاصة ، ولا علاقة لمؤسسة الدولة الرسمية به. وهذه من إيجابيات ومناقب هذا الإشعاع الثقافي المغربي ، بما يقتضي مواصلة ومضاعفة الجهود لتنميته وصيانته . وتلك مهمة موكولة للمثقفين المغاربة دون سواهم.