الاختلاف بين الفقهاء واقع حاصل لا ينكره عاقل، لكنه لا يعني اختلاف الشريعة في حد ذاتها، فالشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك؛ ولا يصلح فيها غير ذلك، والدليل عليه أمور: أحدها: أدلة القرآن، من ذلك قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] ؛ فنفى أن يقع فيه الاختلاف البتة، ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال. وفي القرآن: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية [النساء: 59] ، وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف؛ فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد؛ إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع، وهذا باطل. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 105] ، والبينات هي الشريعة، فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله البتة لما قيل لهم: من بعد كذا، ولكان لهم فيها أبلغ العذر، وهذا غير صحيح؛ فالشريعة لا اختلاف فيها. وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] فبين أن طريق الحق واحد، وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها. وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه} [البقرة: 213] ، ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين. وقال: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الآية إلى قوله: {ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] ، ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم؛ فقال: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [الشورى: 14] . وقال تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] . والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرحوع إلى الشريعة كثير ، كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد، قال المزني صاحب الشافعي: “ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة”. [فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة”] . والثاني: أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ على الجملة، وحذروا من الجهل والخطأ فيه، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال، وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، والفرض خلافه؛ فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ -من غير نص قاطع فيه- فائدة، ولكان الكلام في ذلك كلاما فيما لا يجني ثمرة؛ إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما، استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين، لكن هذا كله باطل بإجماع؛ فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة، وهكذا القول في كل دليل مع معارضه؛ كالعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما أشبه ذلك؛ فكانت تنخرم هذه الأصول كلها، وذلك فاسد؛ فما أدى إليه مثله. والثالث: أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق؛ لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع؛ فإما أن يقال: إن المكلف مطلوب بمقتضاهما، أو لا، أو مطلوب بأحدهما دون الآخر، والجميع غير صحيح؛ فالأول يقتضي “افعل”، “لا تفعل” لمكلف واحد. من وجه واحد، وهو عين التكليف بما لا يطاق، والثاني باطل؛ لأنه خلاف الفرض، وكذلك الثالث؛ إذ كان الفرض توجه الطلب بهما؛ فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم. ولا يقال: إن الدليلين بحسب شخصين أو حالتين؛ لأنه خلاف الفرض، وهو أيضا قول واحد لا قولان؛ لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف، وهو المطلوب. والرابع: أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع، وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير نظر في ترجيحه على الآخر، والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة؛ إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن ذلك فاسد؛ فما أدى إليه مثله. والخامس: أنه شيء لا يتصور؛ لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلا لم يتحصل مقصوده؛ لأنه إذا قال في الشيء الواحد: “افعل” “لا تفعل”؛ فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله: “لا تفعل”، ولا طلب تركه لقوله: “افعل”، فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف؛ فلا يتصور توجهه على حال، والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل؛ لفساد الاختلاف في الشريعة. شبهات و ردود فإن قيل: إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضي وقوعه في الشريعة، وقد وقع، والدليل عليه أمور: – منها: إنزال المتشابهات؛ فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار واختلاف الآراء والمدارك، هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود؛ فإن الاختلاف فيها قد وقع، ووضع الشارع لها مقصود له، وإذا كان مقصودا له وهو عالم بالمآلات؛ فقد جعل سبيلا إلى الاختلاف، فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع مجال الاختلاف جملة. – ومنها: الأمور الاجتهادية التي جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا؛ فكثيرا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية، بحيث يظهر بينهما التعارض، ومجال الاجتهاد مما قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التي تختلف في أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك، ولذلك نبه في الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام: “إذا اجتهد الحاكم فأخطأ؛ فله أجر، وإن أصاب؛ فله أجران” فهذا موضع آخر من موضع الخلاف بسبب وضح محاله. -ومنها: أن العلماء الراسخين [و] الأئمة المتقين اختلفوا: هل كل مجتهد مصيب، أم المصيب واحد؟ والجميع سوغوا هذا الاختلاف، وهو دليل على أن له مساغا في الشريعة على الجملة. وأيضا؛ فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب، وأن الاختلاف حق، وأنه غير منكر ولا محظور في الشريعة. وأيضا؛ فطائفة من العلماء جوزوا أن يأتي في الشريعة دليلان متعارضان، وتجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي في الاختلاف. وطائفة أيضا رأوا أن قول الصحابي حجة؛ فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر؛ كل واحد منهما حجة، وللمكلف في كل واحد منهما متمسك، وقد نقل هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم”، فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا. وأيضا؛ فإن أقوال العلماء بالنسبة [إلى العامة كالأدلة بالنسبة إلى] المجتهدين، ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء، وهو من ذلك في سعة، والاختلاف عند العلماء لا يشاء إلا من تعارض الأدلة؛ فقد ثبت إذا في الشريعة تعارض الأدلة؛ إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الاختلاف يحمل على الاختلاف في أصول الدين لا في فروعه، بدليل وقوعه في الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا. فالجواب: أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة؛ فإنها من المواضع المخيلة. أما مسألة المتشابهات؛ فلا يصح أن يدعى فيها أنها موضوعة في الشريعة قصد الاختلاف شرعا؛ لأن هذا قد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على فساده، وكونها قد وضعت؛ {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} [الأنفال: 42] لا نظر فيه؛ فقد قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم بك ولذلك خلقهم} 1 [هود: 118] ؛ ففرق بين الوضع القدري الذي لا حجة فيه للعبد -وهو الموضوع على وفق الإرادة التي لا مرد لها- وبين الوضع الشرعي الذي لا يستلزم وفق الإرادة، وقد قال تعالى: {هدى للمتقين} 3 [البقرة: 2] . وقال: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} [البقرة: 26] . وإذا كان كذلك؛ لم يدل على وضع الاختلاف شرعا، بل وضعها للابتلاء؛ فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم، ويقع الزائغون في اتباع أهوائهم، ومعلوم أن الراسخون هم المصيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها، وأن الزائغين هم المخطئون؛ فليس في المسألة إلا أمر واحد، لا أمران ولا ثلاثة، فإذا لم يكن [إنزال] المتشابه علما للاختلاف ولا أصلا فيه، وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ، بل كان يكون الجميع مصيبين؛ لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة؛ لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هي بموافقة [قصد] الشارع، وأن الخطأ بمخالفته، فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا. وأما مواضع الاجتهاد؛ فهي راجعة إلى نمط التشابه لأنها دائرة بين طرفي نفي وإثبات شرعيين؛ فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ. وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحدا؛ فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف، ولا هو حجة من حجج الاختلاف، بل هو مجال استفراغ الوسع، وإبلاغ الجهد؛ في طلب مقصد الشارع المتحد، فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا، وإن قيل: إن الكل مصيبون؛ فليس على الإطلاق، بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به؛ لأن الإصابة عندهم إضافية لا حقيقية، فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق؛ لكان فيه حجة، وليس كذلك. فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد، غير أنه إضافي؛ فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال، وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد، لا قولان مقرران؛ فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف، بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد، ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا، وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه. وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان، فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر؛ فالأمر على ما قالوه جائز، ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة، وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر؛ فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه، ولا أظن [أن] أن أحدا منهم يقوله. وأما مسألة قول الصحابي؛ فلا دليل فيه لأمرين: أحدهما: أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث، على أنه مطعون في سنده، ومسألتنا قطعية ولا يعارض الظن القطع. والثاني: على تسليم ذلك فالمراد أنه حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند إلى قول أحدهم؛ فمصيب من حيث قلد أحد المجتهدين، لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد؛ فإن هذا مناقض لما تقدم. وأما قول من قال: إن اختلافهم رحمة وسعة؛ فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: “ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد، قيل له: فمن يقول إن كل مجتهد مصيب؟ فقال: هذا لا يكون [هكذا، لا يكون] قولان مختلفين صوابين”. ولو سلم؛ فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد، وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك، قال القاضي إسماعيل: “إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا، فاختلفوا”. وأيضا؛ فإن قول من قال: “إن اختلافهم رحمة” يوافق ما تقدم، وذلك لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين [وقد ذمت المختلفين] فيها وفي غيرها من متعلقات الدين؛ فكان ذلك عندهم عاما في الأصول والفروع، حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} [آل عمران: 7] ، ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال؛ لأن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة؛ فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي، والفطر والأنظار تختلف؛ فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها -وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها- لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف، وأن الشريعة لا اختلاف فيها، ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها؛ فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة، فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف؛ سهل على من بعدهم سلوك الطريق، فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبد العزيز: “ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم”. وقال: “ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا”. وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين؛ فكذلك أيضا، لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل، ومصادفة العامي المفتي؛ فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح. وقول من قال: “إذا تعارضا عليه تخير” غير صحيح من وجهين: أحدهما: أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر وقد مر فيه آنفا. والثاني: ما تقدم من الأصل الشرعي، وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل، وهو غير جائز، فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة، أما الجزئية، فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته، وأما الكلية؛ فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته؛ اعتقادا، وقولا، وعملا؛ فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع، ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة؛ لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة؛ فلا يصح القول بالتخيير على حال، وانظر في الكتاب “المستظهر” للغزالي؛ فثبت أنه لا اختلاف في أصل الشريعة، ولا هي موضوعة على [كون] وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إليه مقصودا من الشارع، بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء، وصح أن نفي الاختلاف في الشريعة وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها؛ إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف لصح فيها وجود الاختلاف على الإطلاق؛ لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف وذلك معلوم البطلان؛ فما أدى إليه مثله. هذا المبحث مأخوذ من كتاب الموافقات للإمام الشاطبي، القسم الخامس ، كتاب الاجتهاد، المسألة الثالثة.