العربية وعاء الشريعة العربية وعلومها من علوم الآلة والوسائل المعينة على فهم نصوص كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وآثار السلف وكلام أهل العلم، والعربية وعاء الشريعة، ولا يمكن لطالب العلم أن يستوعب العلوم الشرعية ويفهمها الفهم الصحيح إلا إذا كان له حظ من علوم العربية. فالنحو العربي مثلا له فائدتان لا غنى لطالب العلم عنهما: الأولى: سلامة اللسان من الأخطاء في التحدث والقراءة والكتابة. والثانية: الفهم الصحيح لنصوص الوحي وكلام الناس. قوة العربية بقوة أهلها: يقول إرنست رينان عن قرطبة وعموم الأندلس يوم كانت عربية إسلامية: (قام في هذه الزاوية الممتازة من العالم تسامح لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرض مثيلا له علينا ، و ذلك أن النصارى و اليهود و المسلمين كانوا يتكلمون بلغة واحدة ، و ينشدون عين الأشعار ، و يشتركون في ذات المباحث الأدبية و العلمية و قد زالت جميع الحواجز التي تفصل بين الناس فقد كان الجميع متفقين على الجد في حقل الحضارة المشترك و تغدو مساجد قرطبة ، التي كان الطلاب فيها يعدون بالألوف . مراكز فعالة للدراسات الفلسفية و العلمية…) . و يروي ياقوت الحموي وهو يتحدث عن بعض جهات الأندلس بأنه قل أن ترى من لا يقول شعرا و لا يعاني أدبا و لو مررت بفلاح خلف فدانه و سألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه في أي معنى طلبت منه . ذلك أن اللغة العربية كانت وحدها وسيلة المعارف لجميع الأجناس و كان النصارى و اليهود يؤلفون بها و شبابهم يتباهى بمعرفة العربية و آدابها و يقبل على ما يؤلف بها بما فيها مؤلفات الفقه . فالعربية كانت محط عناية الجميع وألف فيها عدد لا يحصى من العلماء حتى ألف فيها الفلاسفة أيضا فهذا ابن رشد ألف "الضروري في النحو" وكتب "مقالة في الكلمة والاسم المشتق" العربية أحد أركان الاجتهاد فالمجتهد في الفقه الإسلامي من تمكن من الأصول، وكانت له القدرة على الاستنباط . والأصول هي بمثابة الأسس وهي :الكتاب والسنة والإجماع ووسائل وآلات للفهم والاستنباط من تلك الأصول وهي اللغة العربية ، وأصول الفقه ومقاصد الشريعة ومعرفة الناس والحياة، ثم تأتي شروط شخصية ليقبل منه الاجتهاد ويعتد به مثل العدالة والتقوى. العربية شرط في الاجتهاد قال ابن رشد في بداية المجتهد وهو يبين أهمية كتابه وبعض مقاصده:(بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم ،فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك ،ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب (بداية المجتهد وكفاية المقتصد) وفي موضع آخر من الكتاب يقول:"(هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد ،إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة و صناعة أصول الفقه، ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل ) ففي النصين معا يرى تقدم تعلم العربية لمن أراد اقتحام عقبة الاجتهاد. وبين في كتابه "الضروري في أصول الفقه" ما يراه من شروط للمجتهد ( بحيث ينبغي أن يكون عارفا بالأصول الثلاثة من كتاب وسنة وإجماع كما ينبغي أن (تكون عنده القوانين و الأحوال التي بها يستنبط ) ويبدو أنه لا يرى في ذلك شروطا تعجيزية فبعد أن يعلم من اللغة و اللسان ما يفهم به كتاب الله تعالى وسنة نبيه بغير لحن يكفيه أن يعرف آيات الأحكام ويعرف ناسخها من منسوخها ومن السنة وجود أصل مصحح لديه لجميع أحاديث الأحكام . وليس مطلوبا منه مع تباعد الزمن معرفة صحة الأسانيد بتعديل الرواة وتتبع سيرهم وأحوالهم فلا بأس أن يقلد في ذلك ويعول في صحتها على من يحسن ظنه به كالبخاري ومسلم . كما يجب عليه معرفة جميع المسائل المجمع عليها لئلا يخالف قوله في مسألة ما الإجماع .وليس من شرط الاجتهاد معرفة علم الكلام أو التفا ريع الفقهية (لأن المجتهد هو الذي يولدها) فيتحصل المطلوب من المجتهد في أصول هي بمثابة الأسس وهي :الكتاب والسنة والإجماع ووسائل وآلات للفهم والاستنباط من تلك الأصول وهي اللغة العربية ،وأصول الفقه ومقاصد الشريعة ومعرفة الناس والحياة، ثم شروط شخصية ليقبل منه الاجتهاد ويعتد به مثل العدالة والتقوى. العربية من أهم شروط الفهم والاستنباط. يقول ابن رشد في "البداية" بأنه وضع كتابه لبلوغ مرتبة الاجتهاد، لمن حصل شروطا من ضمنها(ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة) وأشار إلى ذلك أيضا في كتابه "الضروري في أصول الفقه" عند حديثه عن شروط الاجتهاد حيث قال:(فينبغي أن يكون عنده من علم اللغة واللسان ما يفهم به كتاب الله تعالى وسنة نبيه ولا يلحن) فلا بد للمجتهد من علوم العربية: من بلاغة ونحو وصرف ومعان وبيان وأساليب، بالقدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال. إلى حد يميز فيه: بين صريح الكلام وظاهر ه، ومجمله وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه …ذلك أن القرآ ن الكريم قد نزل بلسان عر بي مبين والسنة قد نطق بها رسول عربي أوتي جوامع الكلم، ولا يمكن استنباط الأحكام منهما إلا بفهم كلام العرب إفرادا و تركيبا ومعرفة معاني اللغة العربية وخواص تراكيبها…ومعرفة دلالات الجمل ما كان منها على سبيل الحقيقة وما كان على سبيل المجاز والكناية ودلالات التقديم والتأخير والحذف والحصر .. و(ولا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد ،وأن يعرف جميع اللغة وأن يتعمق في النحو،بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ،ودرك حقائق المقاصد منه ) بحيث تثبت له ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه ويتمكن من تفسير ما ور د في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ،ومعرفة كيفية الاستفادة من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك واستخراج ما يقصد إليه ، حتى ينظر في الأدلة نظرا صحيحا، ويستخرج منها الأحكام استخراجا قويا،ويرجع في أحكام الألفاظ ومعانيها إلى رواية الثقة وما يقوله الأئمة . وإذا وقع نزاع في معنى توقف عليه فهم نص شرعي، تعين عليه حينئذ بذل الوسع في معرفة الحق في ذلك الا ختلاف، ولا يسوغ له أن يعمل على أحد المذاهب النحوية أو البيانية في تقرير حكم إلا أن يستبين له رجحانه بدليل ..والمهم (أن يحس المجتهد من نفسه أنه أصبح قادرا على تذوق كلام العرب وفهمه والغوص في معانيه،بمثل ما كان عليه العربي الأول بسليقته وسلامة فطرته، قبل أن يستعجم الناس ويفسد اللسان والذوق) المبتدئ في العربية مبتدئ في فهم الشريعة فالشريعة عربية لا يفهمها حق الفهم إلا من فهم العربية ،وإذا (فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدىء في فهم الشريعة،أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة(...) فان انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة) ويخفف من هذه الصرامة ما سبق أن ذكرته في شرط العلم بالحديث ورجاله،في الاستفادة من وسائل العلم الحديثة في البحث. فلا يعذر المجتهد في ضبط ألفاظ ما عليه سيبني الأحكام. باللغة العربية يتيسر طلب أحكام القرآن والسنة: يقول البيهقي في شعبه بخصوص ما يجب في حق المجتهدين من علم بأحكام الله وأقضيته، وما يتوصل به إليها وكيفية التدرج فيها :( معرفة ما يطلب علم الأحكام فيه وهو:الكتاب والسنة نصوصها ومعانيها وتمييز مراتب النصوص والناسخ والمنسوخ، والاجتهاد في إدراك المعاني وتمييز وجوه القياس وشروطه ،ومعرفة أقاويل السلف من الصحابة والتابعين ومن دونهم وتمييز الاجتماع والاختلاف. ومنها معرفة ما به يمكن طلب الأحكام في الكتاب والسنة وهو العلم بلسان العرب وعاداتها في مخاطباتها وتمييز مراتب الأخبار لينزل كل خبر منزلته ويوفي بحسبها حقه.ثم ساق الكلام في البيان وقال: وينبغي لمن أراد طلب العلم ولم يكن من أهل لسان العرب أن يتعلم اللسان أولا ويتدرب فيه . ثم يطلب علم القرآن الكريم فلن تتضح له معاني القرآن إلا بالآثار والسنن ولا معاني السنن والآثار إلا بأخبار الصحابة ولا أخبار الصحابة إلا بما جاء عن التابعين فإن علم الدين هكذا أدي إلينا فمن أراده فليتدرج إليه بدرجة فيكون قد أتى الأمر من بابه، وقصده من وجهه. فإذا بلغه الله درجة المجتهدين فلينظر في أقاويل المختلفين وليختر منها ما يراه أرجح وأقوم، وليقس ما يحدث وينوب على أشبه الأصول وأولاها به) تعلم لسان العرب واجب المنتصبين للفقه والفتوى والاجتهاد في الأحكام: يقول ابن حزم رحمه الله تعالى:(وأما المنتصبون لطلب الفقه وهم النافرون للتفقه الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم المتأهبون لنذارة قومهم ولتعليم المتعلم وفتيا المستفتي وربما للحكم بين الناس، ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم، ومن أحكام القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ورتب النقل وصفات النقلة ومعرفة السند الصحيح مما عداه من مرسل ضعيف، هذا فرضه اللازم له. فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف، ومن أين قال كل قائل وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة فحسن. وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص وكل هذا منصوص في القرآن لكن معرفة الاختلاف علم زائد قال سعيد بن جبير: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف وصدق سعيد لأنه علم زائد ،وكذلك معرفة من أين قال كل قائل. فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى:( وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فلم نقل شيئا إلا ما قاله ربنا عز وجل وأوجبه علينا والحمد لله رب العالمين(...). وقال تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير) ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ وفرض على من قصد التفقه في الدين كما ذكرنا أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:( ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ. فمن جهل اللغة وهي الألفاظ الواقعة على المسميات وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه لأنه يفتي بما لا يدري، وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى :"ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" (...) وفرض على الفقيه أن يكون عالما بسير النبي صلى الله عليه وسلم، ليعلم آخر أوامره وأولها وحربه صلى الله عليه وسلم لمن حارب وسلمه لمن سالم وليعرف على ماذا حارب ولماذا وضع الحرب. وحرم الدم بعد تحليله ،وأحكامه صلى الله عليه وسلم التي حكم بها. فمن كانت هذه صفته وكان ورعا في فتياه مشفقا على دينه صليبا في الحق حلت له الفتيا و إلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين أو أن يحكم بين اثنين وحرام على الإمام أن يقلده حكما أو يتيح له فتيا وحرام على الناس أن يستفتوه لأنه إن لم يكن عالما بما ذكرنا فلم يتفقه في الدين وإن لم يكن مشفقا على دينه فهو فاسق وإن لم يكن صليبا لم يأمر بمعروف ولا نهى عن منكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان على الناس قال تعالى:" ولتكن منكم أمة يدعون إلى لخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن لمنكر وأولئك هم لمفلحون") العلم بالعربية أحد المحددات في التمييز بين التفسير المحمود والتفسير المذموم: يقترح عبد العظيم الزرقاني على الناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة: الأول: النقل عن رسول ا لله r مع التحرز عن الضعيف والموضوع. الثانية: الأخذ بقول الصحابي فقد قيل إنه في حكم المرفوع مطلقا وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه. الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلا ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب. الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع، وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي لابن عباس في قوله: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ثم قال بعد ذلك:(فمن فسر القرآن برأيه أي باجتهاده ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله، كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود. ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم) وفي فهم القرآن فإن المطلوب معرفة معاني الآيات: لغة بمعرفة معاني المفردات والمركبات وخواصها في إفادة المعنى بواسطة علوم الصرف والنحو والمعاني والبيان وسائر فنون البلاغة ،ومعرفة العلل والمعاني المؤثرة في الأحكام ،وأوجه دلالة اللفظ على المعنى من عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء،أو من منطوق ومفهوم ومعرفة أقسام اللفظ من عام وخاص ومشترك ومجمل ومفسر وغيرها . وقل مثل ذلك في السنة. العلم بالعربية أحد مرجحات الرواة: "الترجيح: بحال الراوي وذلك بوجوه أحدها كثرة الرواة (...) لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل. ثانيها: قلة الوسائط: أي علو الإسناد حيث الرجال ثقات لأن احتمال الكذب والوهم فيه أقل. ثالثها: فقه الراوي سواء كان الحديث مرويا بالمعنى أو اللفظ لأن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حمله على ظاهره بحث عنه حتى يطلع على ما يزول به الإشكال بخلاف العامي. رابعها:علمه بالنحو لأن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل ما لا يتمكن منه غيره. خامسها:علمه باللغة" العربية أول ما يبدأ به قبل الفقه والأصول فهذا الإمام الشافعي ينتقل بين بيئة مكة وبواديها يتعلم كلامها، ويأخذ طبعها ويتفصح في العربية، ثم يطلب الفقه والحديث من الفقهاء والمحدثين بمكة، ثم ينتقل إلى بيئة المدينة ويلازم شيوخها، ويصاحب مالكا حوالي تسع سنين. ثم ينتقل إلى البيئة العراقية ليلازم محمد بن الحسن الشيباني. فاجتمع له فقه الحجاز وفقه العراق، وتصرف في ذلك حتى أصل الأصول، وقعد القواعد ووازن بين المنهجين وعكف على ذلك ببصر نافذ، وتأمل مدرك، انتهى به إلى الخروج بمذهب خاص به. كما أنه خرج للناس ببيان قواعد الاستنباط في كتاب "الرسالة" العظيم . ملكة العربية كلما سبقت إلى النفس غيرها كانت أقوى يعتقد بعض العلماء أن الملكة بحسب ما يحصل أولا، أي أن فراغ النفس يساعد على تمكن ورسوخ ما سبق إليها من ملكات ويمثلون لذلك باللغة (فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لان الملكة إذا تقدمت في صناعة قل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى) . العربية لا ينفع منها مجرد الحفظ وإنما المطلوب حسن التصرف فيها فوجود حفاظ للكتاب والسنة ومواضع الاجماع والعربية وأصول الفقه ومقاصد الشريعة، بغير علم بواقع الحياة ومعرفة بأحوال الناس مثل وجود صيادلة بغير أطباء .إذ قد لا يفيد (كثيرا كثرة الصيادلة ومعامل الدواء ،إذا انعدم وجود الأطباء، لأن ذلك قد يؤدي إلى وضع الدواء في غير محله فيهلك المريض من حيث يراد له الشفاء والنجاة) . عربية الصحابة مما يرجح أقوالهم وتفسيراتهم ما يكون من أقوال الصحابة –حسب رأي الجمهور-في حكم المسند والمرفوع: ومثله أن يقول الصحابي أمر رسول الله بكذا ،ونهى عن كذا، أو فرض كذا ، وأوجب كذا . والجمهور يلحق هذا بالمسند والمرفوع لكون ذلك منسوبا إلى النبي سواء سمع الصحابي ذلك بنفسه أو نقله عن غيره من الصحابة،كما أن فصاحتهم في العربية ترجح فهمهم عن الخطاب الأمر أو الوجوب أو غير ذلك،بينما أهل الظاهر يرون ألا حجة في قول الصحابي ما لم ينقل لفظه. ويلحق بهذا ما يرويه الصحابي بالمعنى حيث يرد عليه نفس الخلاف بين الجمهور والظاهرية،وقد انحاز ابن رشد إلى رأي الجمهور مشترطا لذلك عدم تجاوز دائرة الصحابي إلى غيره.يقول: (و أنا أرى أن فهم ما تدل عليه الألفاظ إذا كان في محل الاجتهاد فلا يجوز للمجتهد العمل به حتى ينقل إليه لفظ الشارع , و إلا عاد المجتهد من حيث هو مجتهد مقلدا , اللهم إلا أن يقول ذلك المعنى صحابي ) . الصحابة لم يكن لهم من حاجة إلى هذا العلم بشكله الاصطلاحي المدرسي كما عرفه من بعدهم وإنما يمارسونه بالقوة كحال الأعراب الفصحاء من غيرما حاجة(إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم) . مدخل العربية في العرف: نجد تعابير من مثل :عرف باللغة، وعرف بالشرع ،وعرف بالعادة والاستعمال. ففي العرف اللغوي والشرعي يقول ابن رشد:( الأسماء العرفية , وهي أسماء استعملت في الوضع على أشياء ثم نقلت في الشرع إلى أشياء أخرى لشبهها بالمعاني الأول أو لتعلقها بها بوجه من أوجه التعلق. وهذه إذا وردت في الشرع كانت ظاهرة في المعاني الشرعية, ولم تحمل على المعاني اللغوية إلا بالتأويل ) ويقول أيضا في العرف اللغوي:( وعلى هذا تجوز المخاطبة بالأسماء العرفية قبل فهم المعاني التي يدل عليها بتلك الأسماء، اتكالا على أن المخاطبين يعلمون أن تلك الأسماء تدل على معان زائدة إلى ما كانت تدل عليه في الوضع الأول، وفائدة ذلك العزم على الأمر وبتأخر البيان إلى وقت الحاجة ) ونجد أيضا قوله:( باستقراء كلام العرب, فإنهم ليس يطلقون في مخاطبتهم اسم العين مثلا ويريدون به أن يفهم السامع عنهم جميع المعاني التي يقال عليها اسم العين. وأبين ما يظهر ذلك في الأسماء المقولة على المتضادات, اللهم إلا أن يدّعي مدّع أن ذلك مفهوم بالعرف الشرعي, لكن إن ادّعى ذلك فعليه إثباته.) ومن تطبيقاته اختلاف الفقهاء(فيمن حلف أن لا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس حيتان هل يحنث أم لا فمن راعى العرف قال لا يحنث ومن راعى دلالة اللغة قال يحنث) ومثله:(اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما فمن اعتبر دلالة اللفظ الحقيقي قال لا يحنث ومن رأى أن اسم الشيء قد ينطلق على ما يتولد منه قال يحنث) وفي الأطعمة والأشربة قوله:(أما الحيوان البحري فإن العلماء أجمعوا على تحليل ما لم يكن منه موافقا بالاسم لحيوان في البر محرم. فقال مالك لا بأس بأكل جميع حيوان البحر إلا أنه كره خنزير الماء وقال أنتم تسمونه خنزيرا) إلى أن قال:( وسبب اختلافهم هو هل يتناول لغة أو شرعا اسم الخنزير والإنسان خنزير الماء وإنسانه وعلى هذا يجب أن يتطرق الكلام إلى كل حيوان في البحر مشارك بالاسم في اللغة أو في العرف لحيوان محرم في البر مثل الكلب عند من يرى تحريمه ) اللغة ومقاصد الشريعة أشار أبو بكر الجصاص الحنفي(ت370ه) في كتابه في الأصول إلى أهمية اللغة في معرفة مقاصد المتكلمين حيث قال:( بها يتوصلون إلى أفهامهم بعضهم بعضا ما في ضمائرهم, والإنابة عن مقاصدهم وأغراضهم) والأصل في المقصود من الشرع أن يظهر من لغة النصوص، مثل ورود لام المقصود. يقول ابن العربي عند قوله تعالى:{ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } : (هذه لام المقصود والفائدة التي ينساق الحديث لها وتنسق عليه , وأجلها قوله : { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }) ففقه لغة الكلام مقدمة ضرورية لأي فهم، والفهم مطلب شرعي وخطوة ضرورية في طريق الاجتهاد والإبداع: حيث لا قيمة معتبرة للحفظ من غير فهم ولا فقه وتفقه. وباجتهاد العالم(يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان) كما يؤكد ابن رشد. إذ الهدف المتوخى من الإطلاع على الخبر وحفظه هو فهم معانيه الجلية والدقيقة فالثقافة ( تكتسب أساسا من النصوص ،ومن الحوار الذي ينشأ بين القارىء- طالب المعرفة- وبين المؤلف حيث يتم سبر أغوار فكره ووجدانه، وحيث يتم خلق نوع من التعاطف الضروري لكل فهم ولكل تواصل ) وإذا كان هذا في النصوص البشرية فكيف بنصوص الوحي التي تحتفظ بخصوصياتها المتميزة؟ ففهم المراد الإلهي بأوامره ونواهيه مبني على فهم خصائص الأصول في الدلالة على الأوامر والنواهي واعتبار الغاية التطبيقية فيهما، أي استحضار مقتضيات ذاتية ترتبط بشخصية دارس النص وإمكاناته ومؤهلاته العلمية، وتجربته الخاصة، ومقتضيات موضوعية، تتوقف على تقنيات يمكن استفادتها من الشروط المعرفية للاجتهاد إذ هناك قواعد وضوابط لفهم نصوص الوحي. منها ما يرجع إلى قانون اللسان العربي في الدلالة، أو العلاقة بين النصوص قرآنا وحديثا أو العلاقة المنطقية بين الكل والجزء والعام والخاص واللازم والملزوم . وتحسن الإشارة إلى أن الضابط اللغوي في الفهم ينبغي أن يكون معه الاحتياط اللازم ومراعاة التوسط حذرا من المنهج الباطني الذي يهدر قانون اللسان العربي، أو المنهج الظاهري الذي يلغي المقاصد الشرعية. ومهما يكن من أمر الضوابط فسيبقى للخلاف مجاله بين الناس مثل ما يكون من حالهم بين الحرفية والغائية. وذلك منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم.فقد روى الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال:قال النبي صلى اله عليه وسلم يوم الأحزاب : (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم) . وقد تتبعت ما له علاقة بالعربية في الفقه من خلال بحث سابق لي في "بداية المجتهد وكفاية المقتصد " لابن رشد كنموذج للفقه السني المقارن فوجدته يصل فقط في دلالات الألفاظ 38.36% . الخلاصة: أن ما يقارب 40 % من الشريعة تحكمه الضوابط اللغوية والعلوم المتعلقة بلغة الضاد، ولا أمل في الفهم والاستنباط والاجتهاد بغير الأخذ منها بنصيب وافر، وعلى طالب الاجتهاد ومن يهتم بأمر هذه الشريعة الغراء أن يولي العربية ما تستحق من العناية، وكل إضعاف للعربية هو إضعاف للشريعة، وإبعاد للناس عن معينها الذي لا ينضب، وحرمان لهم من سعادة الدارين.