يُلاحظ المتتبعون للشأن العام بالمغرب أن الأحزاب السياسية لا تفعل أكثر من إيداع ملفاتها لدى الإدارة، إذ لم تعد تملك ما تُثبتُ به وجودها في المجتمع، فأصبح حضورها لا يتعدى الورق، ومن ثمة فقدت شرعيتها المجتمعية لأن علَّة وجودها وخطاباتها وممارساتها اليوم لا تستجيب موضوعيا للحاجات التاريخية التي تقتضيها المرحلة. فهي لم تتمكن من تطوير هويات مُتَّسِقَة قابلة للترجمة إلى برامج واضحة... وهذا ما حال دون بنائها لتنظيمات حزبية وقواعد انتخابية فاعلة ومستدامة. وبذلك فهي لا تستطيع المشاركة الفعالة في العملية السياسية لأنها لم تتغلب على تحدّياتها الذاتية والمؤسّسية، ولا تمتلك القدرة على تلبية حاجيات المجتمع، ولا على التواصل مع المغاربة لكي تكتسب القدرة على التأثير. كما أنَّ هذه الأحزاب تبدو وكأنّها نسخ طبق الأصل من بعضها البعض. ومن المحتمل جدا أن ذلك يعود إلى الفراغ الفكري للزعامات السياسية وتبعيتها واستبدادها، ما جعل المثقفين والأطر يهجرونها، فصارت بدون روح ولا فكر ولا حياة طبيعية، ولا امتدادات مجتمعية. نتيجة ذلك، أصبحنا نجد أنفسنا اليوم أمام هياكل سياسية فارغة متشابهة يستحيل على الناس التمييز بينها، حيث تعجز عن إنتاج الفكر وتطوير المشاريع والتأطير والظهور السياسي في وسائل الإعلام. كل ذلك يفسر مقاطعة الشباب الناشط للأحزاب السياسية وانعدام ثقة المجتمع فيها، ويتجسد ذلك في الارتفاع المستمر لنسبة مقاطعة العملية السياسية في بلادنا. ولا يعود ذلك كلِّيا إلى ما يسمَّى ب "أحزاب الأغلبية والمعارضة" التي لا استقلال لها، وإنما أيضا إلى بعض القوى التي تعوق هذا الاستقلال وتعرقله بشتى الوسائل بغية ضمان هيمنتها على المجتمع والدولة في آن. قد يكون هذا النوع من الممارسات مفيدا لهذه القوى مؤقتا، لكنها لا تعمل من خلاله إلا على تأجيل انفجار الأوضاع الذي هو آت لا ريب فيه ما لم يتم وضع بلادنا على سكة التحديث والبناء الديمقراطي الفعليين. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نستحضر ما يجري اليوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي أصبحت لقمة سائغة في يد الإرهاب والتطرف والتناحر العرقي والمذهبي والطائفي. ونظرا لعدم اختلاف بلدنا جوهريا عن بلدان هذه المنطقة، فإن معطياتنا القَبَلِية والطائفية والثقافية التقليدية قد تغري القوى الخارجية المتربصة بوحدة وطننا، فيلحقنا الأذى. لقد صرنا منذ سنين نرى الأحزاب تشارك في الانتخابات عبر ترشيح "الأعيان" الذين يستغلون ظروف الجهل والفقر، فيشترون أصوات الفقراء، ويضمنون لها التواجد في "المؤسسات المنتخبة". تبعا لذلك، أصبح "الأعيان" يملأون الفراغ الناجم عن غياب المشاريع والبرامج، وأضحى من الطبيعي استبدال اسم "البرلمان" ب "مجلس الأعيان". هكذا عجزت الأحزاب عن لعب أي دور سياسي، ما يعني أنه من المستحيل مع أوضاعها الحالية الحديث عن قدرتها على المشاركة في إنجاز أي تحوُّل ديمقراطي. وهذا ما يفسر عجز الزعامات السياسية، "أغلبية ومعارضة"، عن تأكيد وجود أحزابها في أنظمتها السياسية. فهي لا تمتلك برامج محدَّدة، وعاجزة أو غير مستعدة للتركيز على المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي تهمّ أغلبية المواطنين، وتوفير فرص العمل، وضمان النمو الاقتصادي، ومكافحة الفساد، وتحقيق تمثيل سياسي أوسع عددا وأكثر عدلاً. أضف إلى ذلك أن المشهد الحزبي اليوم ما يزال مشتَّتا للغاية، بل يزداد تفتتا وتشرذما، حيث يُمنع أيُّ تحالف مفيد بين الأحزاب من قِبَلِ قوى معينة، ما يستوجب على الأحزاب إدراك أنَّ مصالح الوطن والمجتمع يمكن أن تُضمن بشكل أفضل إذا تجمَّعتْ في أحزاب كبيرة تتمتَّع بدعم مجتمعي، بدلاً من أن تبقى صغيرة مُقسَّمة ومُشتتة بدون استقلالية ولا نفوذ. وما يزيد الأمور سوءاً هو اضطراب البيئات السياسية التي تشتغل ضمنها هذه الأحزاب، حيث زاد فشلها في مواجهة التطورات السياسية المتلاحقة محلِّيا وإقليميا ودوليا عجزَها عن وضع برامج تستهدف المدى البعيد، وصياغة هويات منسجمة، والتمايز عن بعضها البعض. لذلك، إذا أرادت هذه الأحزاب أن تكون فعالة، فعليها أن تقوم بتطوير برامج واضحة ودقيقة تلبي حاجات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية الفعلية. كما يجب عليها أن توسِّعَ أفق تفكيرها وتنظر إلى المستقبل، إذ لا توجد حلول لمشاكل اليوم في ماضينا الذي يجب وعيه فقط لاكتساب القدرة على التعامل معه وتجاوز كل ما لا يتلاءم مع روح العصر وليس للبقاء في أسْر حِضنِه. تحاول بعض الأحزاب أن توضِّح أنها ليست أحزابا أصولية، لكن عندما نتأمل خطابها وأسسها التنظيمية، والعلاقات بين مختلف مستوياتها ومكوناتها، نجد أنها لم تتخلص بعد من الفكر الأصولي. فالبنية الذهنية لزعاماتها وأتباعها ما تزال غارقة في القرون الوسطى. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد لحد الساعة خطاب حزبي واحد يظهر من خلاله أن حزبا معيَّنا يمتلك معرفة بالإسلام وتاريخه، وأنه طوَّر أسلوبا لفهم العقلية الأصولية ووضع منهجا ذا رؤية وإرادة لتفكيك الخطاب الماضوي والكشف عن زيفه. وما دامت الأحزاب في مغربنا لم تتمكن من إنجاز ذلك، فإنها لن تتمكن من تجاوز الأصولية وما تنتجه من استبداد وعنف، بل ستظل هي نفسها أصولية. فضلا عن ذلك، ينبغي القيام بإصلاح نظام التربية والتعليم وجعله يُرسِّخ التعدُّدية واحترام مختلف وجهات النظر، والتربية على التفكير النقدي. وذلك بغية غرس النظام الديمقراطي في بلدنا وتعزيزه على المدى الطويل. كما يجب أن تهيّئ سياساتُ الأحزاب أبناءَ الجيل المقبل في سنّ مبكرة ليصبحوا مواطنين حقيقيين وليسَ مجرَّد رعايا.