يُركز بعض الناس في نقدهم السياسي على فساد "النخبة" أو الطبقة السياسية، ويُرجع بعضهم الآخر غياب الديمقراطية إلى جهل الطبقات الفقيرة ويُحمِّلونها مسؤولية تخلفنا السياسي لأنها طبقة أمِّية عاجزة عن استيعاب التحولات الديمقراطية. لكن عندما نتفحص الدراسات التي تناولت التحولات الاجتماعية في المجتمعات الغربية، نجدها تدور كلها حول "الطبقة الوسطى" بكونها مُحرِّكة التغيير الاجتماعي، فكلما اتسعت هذه الطبقة وتكاثر أعداد أفرادها، كانت هناك إمكانية أكبر لوجود نظام ديمقراطي أكثر توازنا ورسوخا... لا تتحدَّد الطبقة الوسطى بخصائص اقتصادية فحسب، إذ لا يرتبط انتماء أو عدم انتماء الفرد إليها بمستوى دخل معين فقط، بل بقدرتها على تطوير المشاريع، وهو ما يمكنها من تأطير المجتمع... وما هو أساسي عندها هو ثقافتها ومنظومتها القيمية التي تجمع بين أفراد المجتمع بشكل متين. يرى السوسيولوجي الألماني "ماكس فيبر" Max Weber أن أخلاق الطبقة الوسطى هي مُحرِّك التحولات الاجتماعية. ونظرا لتسلُّح الحاكمين في الغرب بالمنظومة الأخلاقية لهذه الطبقة، فإنهم يمتازون بحكامة رشيدة. ويؤدي الانهيار الأخلاقي لهذه الطبقة إلى أن تصير وسخة ومعمِّمة للوسخ. عندما نتأمل في الطبقة الوسطى في مجتمعنا، نجد أن أنها لا تمتلك مواصفات نظيرتها في المجتمعات الغربية، حيث إنها عاجزة عن تطوير المشاريع، ولا تمتلك منظومة قيمية حديثة... وبما أن الزعامات الحزبية في بلدنا تنتمي إلى هذه الطبقة، فإن عدم امتلاكها لأي مشروع جعلها غير قادرة على تأطير المجتمع وضمان الانسجام بين أعضاء أحزابها، وداخل أجهزتها، وبين هذه الأخيرة وقواعدها... وينجم عن غياب المشاريع الحزبية غياب القرارات السياسية، وانعدام أية حركية مجتمعية، وشلُّ التنظيمات الحزبية والمجتمع والدولة، فيتم السير نحو المجهول.. عندما يتوقف الحزب عن التفكير، فإنه يفقد معناه ولن يكون له مستقبل. وحينما تغيب المشاريع، يستحيل الحديث عن مفهومي الأغلبية والأقلية، وعن التعددية، وعن حقل حزبي فعلي، فتصبح الزعامات الحزبية عندنا غير قادرة على التمييز بين بعضها البعض، فتبيح لنفسها اتخاذ الموقف ونقيضه في الآن نفسه... تعتقد زعامات ما يسمى ب "الأحزاب الديمقراطية" أن الحزب لا يكون إلا بالسمع والطاعة. وهذا هو منطق "قُيَّادِ" القبائل في علاقتهم بجماعاتهم.. لذا نجد الزعيم في هذه الأحزاب يستأثر بالقرار السياسي والتنظيمي والمالي بالاستيلاء على صلاحيات كل الأجهزة الحزبية، ويسعى إلى السطو على كينونة أعضاء حزبه... وهذا ما يفسر فقدان ما يسمى ب "الأحزاب الديمقراطية" لقواعدها الاجتماعية، فأصبحت زعاماتها لا ترى حلاّّ إلا في البحث عن "الأعيان" لترشيحهم في الانتخابات باسم أحزابها، حيث تعتقد أن لهم وزنا انتخابيا لأنهم يشترون الأصوات، الأمر الذي سيمنح قوة سياسية لأحزابها. هكذا أصبحت القوة السياسية مع هذه الزعامات تساوي الوزن الانتخابي المغشوش، إذ الغاية هي الوصول إلى البرلمان والحكومة بغية الاستفادة من الريع، وليس تفعيل مشروع مجتمعي ديمقراطي يستجيب لطموحات المجتمع المغربي. فالمشروع ليس واردا عند هذه الزعامات، ما يجعل الحزب بدون أهداف، بل يكون بدون قيم، فيتحول إلى مرتع لأصحاب المصالح. وهذا ما يتعارض مع استراتيجية النضال الديمقراطي التي تقتضي العمل على كافة الواجهات لبناء الذات والمجتمع في آن واحد، والتمكن من التجذر في تربة المجتمع وشرايينه وضمان استقلال القرار الحزبي... يعني هذا أن هذه الزعامات تتعارض فكرا وممارسة مع التحديث والبناء الديمقراطي، ما يدل على أنها تعزل ذاتها بذاتها وتُعَجِّل برحيلها.. وهذا ما يفسر عجز الأحزاب عن أن تكون عاملا من عوامل التغيير في البنية الاجتماعية والسياسية، وعن أن تشكل قوة ضاغطة إلى جانب غيرها من القوى في سبيل هذا التغيير. يعاني مجتمعنا اليوم من أزمة أخلاقية، لكنني لا أعني بالأخلاق لباس الرجل أو المرأة، إذ قد يكون المنشغل بهذا الجانب مرتشيا أو سارقا أو قاتلا.... إنني أقصد الأخلاق بمعناها الواسع التي هي أخلاق العمل التي وصفها ماكس فيبر Max Weber في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية". يشكل ظهور تيارات الإسلام السياسي عندنا ردَّ فعل على فساد أخلاق الطبقة الوسطى، حيث تعتقد هذه التيارات أنها قادرة على سدِّ فجوة الانهيار الأخلاقي الناجم عن انحطاط السلوك السياسي والاقتصادي للفئات الوسطى عندنا. لكن تيار الإسلام السياسي لم يستطع تغطية العجز الأخلاقي لهذه الطبقة، إذ يستحيل عليه تحقيق ذلك بالحجاب والنقاب وطول اللحى، وتقصير الجلابيب... وتكمن مشكلة هذا التيار في بلدنا في عدم امتلاكه لمُكَوِّن أخلاقي، إذ يُكفِّر معارضيه ويدعو إلى قتلهم. كما أنه يبيح سرقة ممتلكات غير المسلمين، ويلجٍأ إلى التغيير بالعنف... وبهذا لم يستطع دعاة الإسلام السياسي ترميم الانهيار الحادث في المجتمع والدولة، لأنهم يفتقرون إلى قيم الإنتاج والإنجاز، ما يجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء، بل إن "حكومتهم الملتحية" تتقرفص على الشعب المغربي وتهضم حقوقه وتجهز على مكتسباته. إضافة إلى ذلك، تعمل سياسة صندوق النقد الدولي، المفروضة على "الحكومة الملتحية" عندنا، على ضرب الفئات الوسطى واندثارها، وذلك لكونها تلعب دورا أساسا في ترسيخ الوحدة الوطنية التي ترفضها العولمة. تبعا لذلك، يجب أن ينصب الاهتمام على المسألة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يضمن اتساع مساحة الفئات الوسطى المغربية، كما ينبغي الارتقاء بها فكريا وأخلاقيا... لأن انهيار النسق القيمي لهذه الطبقة يفضي إلى انهيارات أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية تؤدي إلى خراب البناء برمته، الأمر الذي يطرح أمامنا تحديا كبيرا.