تمهيد:أصل المسألة معروف ومشهور الحديث الشهير الذي يقول إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد للأمة أمر دينها. وبعض العلماء اجتهد ورأى أن المجدد قد لا يكون فرداً واحداً (إذا أخذنا بعموم لفظ "من" للعقلاء فرداً أو جماعة) لا خلاف بين غالبية المسلمين في ضرورة التجديد(وإن اختلفوا في برنامج التجديد ومضمونه) ولكن عندنا في الثقافة العربية المعاصرة من يكرر ويعيد على مسامعنا مقولة أنه لا بد في الإسلام من ثورة تجديدية تعادل الثورة البروتستنتية التي قامت في الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي في وسط أوروبا، وامتد تأثيرها لأقطار عديدة، في أوروبا أولاً ثم في أمريكا لاحقاً. بل قد تراهم يقولون إننا بحاجة إلى "بروتستنتية إسلامية" أو مارتن لوثر إسلامي. وفي الحقيقة أنا بكل تجرد وموضوعية، وبدون أي رغبة في التهجم، لا أستطيع أن أقول في هؤلاء السادة إلا أنهم يصدرون في دعوتهم للبروتستنتية الإسلامية المنشودة عن جهل بالإسلام والبروتستنتية كليهما! وغالباً ما يكون هؤلاء من خصوم الدين مبدئياً، أي دين كان، ولكنهم يريدون حلاً لهذه المعضلة الممثلة في وجود الدين الإسلامي الفاعل في مجتمعنا، فهم يتوهمون أن البروتستنتية حيدت التأثير الديني في مجتمعات أوروبا، وحولت الدين إلى ظاهرة يتخيلونها على هامش التأثير في المجتمع الغربي، ويتمنون للمجتمع الإسلامي دوراً مماثلاً للدين! بالمناسبة الملاحظات اللاحقة أريد ألا يساء فهمها على أنها تتحدث عن البروتستنتية القائمة في العالم كشيء واحد، إذ هذه فكرة خطأ.وإذا كنت أرى الحداثويين العرب يصدرون عن تصور إيجابي خيالي عن البروتستنتية، ففي المقابل هناك تصور سلبي غير صحيح أيضاً عن البروتستنتية في زماننا، خصوصاً بعد أن اشتهرت عندنا المجموعة الصهيونية البروتستنتية في أمريكا. إنها بالفعل مجموعة مهمة ولكنها ليست الوحيدة، ففي مواجهتها هناك كنائس بروتستنتية في أمريكا بالذات تضم عشرات الملايين من الأتباع لا يعجبها موقف هذا الاتجاه الصهيوني في البروتستنتية. والإسلام يعلمنا العدل! جذر واحد للتفسير الاستلابي لتاريخ مجتمعنا وبناه: أسمي "استلاباً" الرؤية التي حكمت الثقافة العربية الحداثية الطابع وتأثر بها بعض المفكرين من التيارات الأخرى أيضاً، وتقول إن التاريخ الغربي هو نموذج للتاريخ البشري يجب على البشر كلهم أن يحتذوا حذوه ويكرروه،وهذا إما أمر اختياري لمن يريد التقدم(نظرية طه حسين الشهيرة) أو هو أمر لا اختيار فيه فهو حتمي على كل حال(وجهة النظر الوضعية ووجهة النظر الماركسية) وأسميه "استلاباً" لأن الاستلاب هو نزعة داخلية ملحة لاستبدال الذات الحقيقية بذات أخرى تأخذ شكلها من شكل (متخيل بدوره) لذات أخرى خارجية. وهي هنا الذات الغربية كما يتخيلها المثقف العربي الحديث (لا كما هي في الواقع وهذه نقطة مهمة يغفل عنها بعض النقاد والمحللين الثقافيين الذين يعتقدون أن المثقف العربي من هذا النموذج لديه تصور حقيقي مطابق للواقع عن المجتمع الغربي وبناه وتاريخه ، وفي الحقيقة صورة المثقف المستلب- هذه الكلمة أستعملها في هذا المقال دوماً بفتح اللام- عن الغرب هي أيضاً إلى حد كبيرصورة خيالية ليست ناتجة عن انعكاس حقيقي للواقع الغربي كما هو في وعي هذا المثقف، بل هي انعكاس مشوه مبتسر للمجتمع الغربي متداخل مع صورة تخيلية للمجتمع العربي وقد تم عكس أقطابه القيمية والبنيوية، فما هو موجب يصبح سالباً والعكس بالعكس، فكأن صورة الغرب في هذا النموذج الطوباوي ما هي إلا صورة مشوهة للغرب متداخلة مع"صورة نيجاتيف" للبنية الاجتماعية العربية!وسنرى بعض ذلك في هذا المقال في حديثنا عن تصور المثقف العربي للبروتستنتية. البروتستنتية كما يتخيلونها: ثغرات في المعلومات: في تصور المثقف العربي المستلب عن البروتستنتية نجد تداخلاً في الأفكار عن التاريخ الأوروبي،تداخلاً في الأماكن والأزمان، ففي هذه الصورة نجد في سياق واحد أفكاراً تخص زمن مارتن لوثر ومكانه في القرن السادس عشر الميلادي، وزمن عصر الأنوار في القرن الثامن عشر وما فيه من مثل الموسوعيين الفرنسيين وديمقراطيتهم وعلمانيتهم المعادية للدين والكنيسة، ثم بعض الأفكار التحررية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، ثم أخيراً وليس آخراً صورة المجتمع الغربي منذ بداية القرن العشرين (مع تجاهل ملحوظ لتجربة ما بين الحربين العالميتين)، ثم صورة المجتمع الغربي كما تبلورت في النصف الثاني من القرن العشرين. فالبروتستنتية في هذا التصور هي نظرة علمانية ديمقراطية قومية تحررية للدين تشكل الخلاصة النهائية للعلمانية المطلقة التي تفصل الدين كلياً عن المجتمع والدولة وتجعله شأناً فردياً محضاً. وبهذه النظرة للبروتستنتية فقط (التي هي تصور تخيلي لها) يمكن للمثقف العربي الحديث أن يحلم ببروتستنتية مسلمة، فقد جردت البروتستنتية من سياقها التاريخي وغيرت صورتها بحيث لم يعد لها في الحقيقة صلة مع البروتستنتية الموجودة في الواقع. في البروتستنتية الفعلية:ما هو مهمل في التصور الحداثوي العربي لها: يعتقد الفكر الحداثوي العربي أن البروتستنتية أعادت تأويل نصوص "الكتاب المقدس" (أي العهدين الجديد والقديم) بحيث تصبح الأفكار الدينية "أقل دوغمائية" و"بعيدة عن الأصولية"،وأكثر دنيوية وأقرب للعلم وللديمقراطية. أما في الحقيقة فإن الكتاب المقدس لم ينظر إليه قط في تاريخ المسيحية منذ عهد بولس ربما بهذه الدوغمائية والحرفية النصوصية. وقد جاءت البروتستنتية بفكرة الصحة الحرفية للعهد القديم ومساواته بالعهد الجديد وهذا ما لم يكن موجوداً في الكاثوليكية! وأما عن "الديمقراطية" و"العلمانية" فهما آخر ما يمكن للبروتستنتية أن تدعي جلبه للمجتمع الغربي، وبحسبنا أن نعلم أن "كالفن" الذي أسس في سويسرا أول دولة دينية على المبدأ البروتستنتي كانت دولته طغياناً دينياً دموياً لم تشهده حتى الدولة البابوية في أسوأ عصورها. وأما "الأصولية" فهي كما يجهل كثير من الحداثويين العرب اختراع بروتستنتي بحت، وظهر في أمريكا مطلع القرن العشرين- عام 1905- مع تيار في البروتستنتية هناك ناهض الأفكار العلمانية والعلموية والتحررية، وخرج ببرنامج من نقاطه مثلاً الصحة الحرفية للمعتقدات الإنجيلية(مثلاً في وجه أفكار علمانية تريد تأويل بعض العقائد الدينية بأنها لم تقصد بحرفيتها بل هي مجازية، ومنها عقيدة عذرية السيدة مريم) ولا أعرف في الحقيقة إن كان أصحابنا يريدون بروتستنتية أين يجدون "الكاثوليكية الإسلامية" التي سيثور عليها لوثر مسلم! (إذ ليس عندنا- لحسن الحظ أو لسوئه- مرجع ديني واحد قائد نحن مجمعون عليه يكون بمثابة "بابا" مسلم أو على حد تعبير الدكتور القرضاوي"لا عندنا بابا ولا ماما!") الثورة على الكنيسة الكاثوليكية: تندرج الثورة اللوثرية على الكنيسة الكاثوليكية في سياق تاريخي أصبحت فيه تصرفات المركز الكنسي البابوي في روما لا تطاق، والتذمر لم يكن محدوداً بل كان واسع النطاق، بحيث أن الفيلسوف الإنساني الشهير إيرازموس الذي عاش في الفترة اللوثرية قال قبل ظهور الحركة البروتستنتية إن صفة "كاهن" هي صفة سلبية تعادل الشتيمة في المجتمع أنذاك! والدافع المباشر لثورة لوثر، كما تجلى في نقاطه الخمس والتسعين التي أعلنها في مدينة فتنبرغ الألمانية عام 1520 ، ،كان قضية "صكوك الغفران" التي باعوا بها الخلاص للمسيحيين مقابل مبالغ كان يقصد منها تمويل مشاريع للبابا مثل بناء كاتدرائية. في مقابل فكرة صكوك الغفران خرج لوثر بفكرة خطيرة للغاية تقول إن الغفران أمر إلهي بحت، ورحمة لا تتعلق "بالأعمال الصالحة" للفرد.وقصد بالأعمال الصالحة الطقوس التي يمارسها المسيحي في الكنيسة من اعتراف وأضحيات وما إليها. وآخرها كان التبرع للكنيسة بمقابل غفران الخطايا والتخلص من عذاب الجحيم (والمطهر). وفكرة لوثر بالذات عن الإنسان فكرة مفرطة في التشاؤم، وهو يرى أن المسيح وحده هو الذي له الفضل في خلاص البشرية بتضحيته بنفسه(أو بخلاص من أراد له الرب الخلاص) والإنسان الشرير بطبعه لا يستطيع بعمله أن يقدم أو يؤخر بهذا الخلاص. وكما نرى فهذه الفكرة بعيدة كل البعد عن التصور الحداثوي العربي للبروتستنتية الذي يدمج تفاؤلية عصر الأنوار مع البروتستنية في خلطة تخيلية. ولا يعني ذلك بالطبع أن لوثر لم يكن له تأثير في تاريخ أوروبا، وبالذات في ألمانيا فمن منجزاته الكبرى ترجمته "الكتاب المقدس" بشقيه من اللاتينية إلى الألمانية وهذه الترجمة التي قام بها بجهد جبار جعلته أبا الأدب الألماني بل أبا اللغة الألمانية بوجه عام إذ اعتباراً من هذه الترجمة نشأت اللغة الألمانية الحديثة كلغة أدبية وعلمية مكتوبة متطورة بعد أن جمع في ترجمته خلاصة اللهجات الألمانية المحكية في "لغة فصحى" واحدة، وبهذا يكون أسهم أيضاً في وضع لبنة أساسية في بناء الأمة الألمانية. التطوير الكالفيني ونظرية ماكس فيبر عن العلاقة بين الأخلاق البروتستنتية و "روح الرأسمالية" انتشرت في الثقافة العربية النظرية الماركسية (المعدلة عربياً كالعادة)عن نشأة الرأسمالية، وهي نظرية ترى في الرأسمالية نتاجاً للثورة القومية- الديمقراطية – العلمانية – العلمية - الصناعية التي حدثت في أوروبا (وسبباً لها في الوقت نفسه!) في المقابل ظلت بلا ترجمة ولا اهتمام عند هذه الثقافة نظرية مغايرة تقدم بها السوسيولوجي الألماني المرموق ماكس فيبر (1864 – 1920) انطلق فيبر من دراسة قام بها أحد تلاميذه(وهو مارتن أوفنباخر) لتوزع التطور الصناعي (والتعليم المهني المتعلق به) تبعاً للتوزع الطائفي بين البروتستنتية والكاثوليكية في مقاطعات بادن ولايبزغ وتوبنغن، وبرهن في دراسته أن المناطق البروتستنتية تشهد تطورا ًرأسمالياً صناعياً يتعدى بكثير نظيره في المناطق الكاثوليكية. فيبر في دراسته الشهيرة "الأخلاق البروتستنتية و"روح" الرأسمالية" حاول أن يدرس العلاقة التاريخية بين البروتستنتية(وبالذات نسختها الكالفينية ومجموعة من الفرق المرتبطة بها والمتفرعة عنها) "روح الرأسمالية" تتألف أساساً عند فيبر من النظرة إلى العمل المؤدي إلى الكسب المادي كهدف بحد ذاته (في مقابل الروح التقليدية التي ترى في الكسب وسيلة إلى التمتع بطيبات الحياة) ويأخذ على روح الرأسمالية مثلاً توضيحياً من المفكر الأمريكي المتعدد المواهب بنيامين فرانكلين (استشهد بنصين لفرانكلين: "نصيحة لتاجر شاب" و "إرشادات لأولئك الذين سيصبحون أغنياء") ونسوق للقارئ بعض نصائح فرانكلين التي استشهد بها فيبر: "تذكر أن الوقت نقود، ومن يستطيع أن يكسب عشر شلنات بعمله ثم قضى نصف النهار يتمشى أو جلس كسلان في غرفته وأنفق للتسلية خمس بنسات، فإن عليه ليس أن يحسب هذه البنسات فقط بل عليه أن يضيف إليها أنه صرف أيضاً إلى جانبها خمس شلنات أو بالأحرى رماها بعيداً. تذكر أن الدين نقود وحين يترك إنسان نقوده عندي يهديني فوائدها أو بقدر ما أستطيع أن أستفيد منها أثناء هذا الوقت ويمكن لهذا أن ينتج مبلغاً محترماً إذا كان عند المرء دين جيد وكبير واستطاع أن يستغله بشكل جيد. تذكر أن النقود ذات طبيعة منتجة ومثمرة: والنقود تنتج نقوداً ومن النتاج ينتج نقود وهكذا.. إن خمس شلنات تصبح ستة وهذه تصبح سبع شلنات وثلاث بنسات و هكذا حتى تصبح في النهاية مائة جنيه إسترليني. وبقدر ما يتوفر من النقود تنتج نقود عبر المتاجرة بها بحيث أن النفع يتزايد سرعة. والذي يقتل الخنزيرة الأم يقتل معها كل ذريتها حتى العضو الألف. ومن يقتل قطعة نقود من خمس شلنات يقتل كل ما كان يمكن منها أن ينتج، صف كامل من الأرقام بالجنيهات الإسترلينية. تذكر أن المثل يقول أن المدين حسن السداد هو مالك جيوب الجميع. والذي يعرف أن يكون دقيقاً في السداد في الموعد الذي وعد به يمكن له في كل وقت أن يستدين ما لا يحتاجه أصدقاؤه. و هذا يكون أحياناً عظيم النفع. علاوة على الاجتهاد والقوة ما من شيء يساهم في تقدم الرجل الشاب في الحياة أكثر من الدقة والعدالة في كل تجاراته . ولهذا لا تحتفظ بنقود أي دائن ساعة واحدة بعد موعدها لكي لا يقود الانزعاج صديقك الذي أدانك لإغلاق محفظته عنك إلى الأبد." لا ننسى أن فرانكلين عاش في أمريكا في وقت كانت فيه التبادلات النقدية بالكاد موجودة والرأسمالية الصناعية بمعناها الحديث لا يمكن الحديث عنها بعد، ومن هنا من المضحك برأي فيبر أن نسوق هنا التفسير الماركسي الذي يزعم أن هذه الروح المتمحورة حول مبدأ الكسب لأجل الكسب هي نتاج فوقي للعلاقات الرأسمالية التحتية. ولا ننسى أن فرانكلين هو بروتستنتي ينتمي إلى تلك الفرقة التي يرى فيبر أن تعاليمها كانت عاملاً محركاً لنشوء الروح الرأسمالية. يلاحظ فيبر أن الأمر في نصوص فرانكلين لا يتعلق بمجرد إنسان بخيل مادي جشع، بل هناك في النص روح دينية واضحة تجعل من العمل التجاري الناجح، المؤدي إلى الكسب، نوعاً من أداء رسالة ومهمة من طبيعة دينية! يعود فيبر بعد ذلك إلى دراسة مفصلة لتطور البروتستنتية وتعاليم فرقها المختلفة التي كانت فاعلة في مناطق معينة في إنجلترا وهولندا وألمانيا فيرى أن كالفن طور عبر صراعاته الدينية مع خصومه بالتدريج فكرة تقول بأن خلاص الإنسان من العذاب الإلهي لا يتم عبر طقوس كنسية وأعمال يساعد فيها رجل الدين ، بل إن القدر السابق للإنسان هو الذي حدد بصورة مطلقة من هو الذي يخلص والذي يهلك(وهذه العقيدة اسمها بالألمانية Prädestination أو Gnadenwahl أي "القضاء المسبق" أو "اختيار الرحمة") والهدف الذي خلق الله الناس من أجله هو فقط تمجيده.والمخلوق لا قيمة له البتة بالمقارنة بالخالق،ومحبة الجار التي بشر بها الإنجيل لا تعني إلا بناء نظام شامل يتناسب مع مجد الله.هذا النظام نزع منه بتعبير فيبر كل طابع سحري طقوسي كان موجوداً في الكاثوليكية أو ظلت بقايا منه في تعاليم لوثر.لقد تعرى الواقع من كل سحر، وقاد الفرد إلى شعور بالوحدة والعزلة الفردية التامة، وصار المجد الإلهي يعني الازدهار المادي والمرء المحقق لوصايا الإله هو الناجح مادياً ،وبالعكس يصبح الفقر علامة لعنة إلهية(وربمامن هنا عومل الفقراء بكل قسوة يصفها ماركس حين يصف تراكم الرأسمال البدائي في إنجلترا حيث اقتلع الفلاحون من أرضهم بلا رحمة وألقوا في العراء ليموتوا جوعاً، ثم سنت القوانين ضد الجياع!) العمل المهني عند الكالفينية إذن والكسب في الحياة هو نوع من المهمة الإلهية التي" يستدعي" بها الرب الخلق، ومن هنا يركز فيبر على اشتقاق كلمة مهنة بالألمانية فهي Beruf ومشتقة من فعل Rufen الذي يتضمن معنى النداء أو الاستدعاء. مثل هذه العقيدة في زمن كان فيه الناس يعدون الآخرة أمراً واقعاً وأكثر واقعية بكثير من الدنيا ستحدث حالة من الرعب عند الإنسان تدفعه للسؤال: هل أنا من المختارين أم من الهالكين؟ والنجاح في المهنة الدنيوية والكسب كان يؤدي عند أبناء هذه الفرق وظيفة "العلامة" على الاختيار مما يخمد نار القلق المتأججة فيهم. وهذا كان جذراً لنشوء نظام حياة زاهد من جهة ومعتمد على الحساب والتنظيم العقلاني البارد كلياً Rationalisierung . تعليق: ما نفيده من فيبر: ليس من الغريب أن لا تلقى دراسات فيبر في الوسط الثقافي العربي أصداء إذ هي من جهة تتناول نظاماً فكرياً غريباً جداً لا مثيل له في تاريخنا الخاص، ومن هنا فهو غير مفهوم، وقد اقتضى مني شخصياً الأمر شهوراً طويلة أنظر فيها وأعيد في نص فيبر وفي كتب عنه لأفهم هذه النظرية الغريبة في العلاقة بين البروتستنتية وروح الرأسمالية. ولا بد هنا أن نشير إلى أن الاختلاف كان منذ البداية موجوداً بين نمطي التفكير الكاثوليكي والإسلامي، إذ لا تتماثل النظرتان في مفهوم "العمل الصالح" كما رأينا وقد امتد هذا الاختلاف لاحقاً في تطورات البروتستنتية ودوماً في الحوار الذي يقوم به ابن ثقافة معينة مع ثقافة أخرى يجب –كما أشرت في كتابات سابقة- أن يحسب حساب ظاهرة الالتباس في المفاهيم الناتجة عن الاشتراك في الأسماء والاختلاف في المسميات! ولكن فيبر عنده في اعتقادي أفكار ثمينة جداً من المفيد لنا أن نناقشها في مسعانا لبحث هذه المسألة حاسمة الأهمية: مسألة النهضة الحضارية ودور الأفكار في النهضة(ودور الأفكار في التراجع الحضاري وهذا هو الوجه الآخر للمسألة) فيبر يرى أن ما يميز المجتمع الغربي الحديث عن المجتمع القديم "التقليدي" (سواء الغربي القديم أو غير الغربي) هو "العقلنة" الشاملة. بالذات في الميدان الاقتصادي يرى فيبر أن روح الرأسمالية تعني العقلنة الدقيقة لمبدأ الكسب وتحويل الكسب إلى هدف بحد ذاته كما رأينا في مقابل "المبدأ التقليدي" الذي يضع الكسب في خدمة هدف التمتع بملذات الحياة، وهذا عند فيبر الفرق بين الرأسمالية الحديثة والرأسمالية القديمة التي كانت موجودة في أماكن عديدة وأزمنة عديدة في العالم. وفي اعتقادي أن هاجس فيبر الملح هو في البحث عن بنية السلوك المميزة لابن المجتمع الحديث عن سلوك أبناء المجتمعات التي يسميها "المجتمعات التقليدية"، ويتجلى هذا البحث في دراساته المفصلة للعقلنة في جوانب مختلفة من هذا المجتمع اعتباراً من الاقتصاد، إلى التنظيم الإداري، إلى جوانب أخرى طالت حتى الموسيقى والآلات الموسيقية، وهي دراسات جعلت منه بحق في اعتقادي مؤسس ما قد أدعوه "علم السلوك الرأسمالي" ،وهذا جانب قيم يفيدنا فيه أكثر بكثير من ماركس الذي كان يميل إلى الجانب الاقتصادي الحتمي، ويضع الجوانب النفسية والروحية وأنماط السلوك كجوانب تابعة للبنية الاقتصادية،مما يضع أبناء المجتمعات المتأخرة صناعياً أمام حائط مسدود وحلقة مفرغة، إذ قبل أن يبنوا اقتصاداً صناعياً متقدماً لا بد لهم من انتظار التطور الطبيعي للمجتمع ليبني هذا التطور الوعي والسلوك المناسب له "كبنية فوقية"،إذ السلوك الاجتماعي بدوره عند ماركس والماركسيين مشروط بالعلاقات الاقتصادية الفعلية وهكذا! وطريقة فيبر هنا هي بلا ريب ذات إيحاء وإلهام ودعوة للفاعلية لأبناء المجتمعات متأخرة الاقتصاد، أكثر من تلك الطريقة الحتمية القدرية للمادية الماركسية. تركيز فيبر على دور العقلانية في البناء الاجتماعي الحديث فيه في اعتقادي دروس قيمة للمسلمين، إذ عليهم بالفعل أن يتأملوا في الجوانب اللاعقلانية في تنظيمهم الاجتماعي الذي يعاني من الهدر في الوقت والمال وانعدام القدرة على التنظيم الدقيق والانضباط في العمل والتخطيط وانعدام القدرة على العمل الجماعي. ودراسته للتأثير الذي تقوم به عقيدة دينية في تغيير النظام الاجتماعي يذكرني برأي مالك بن نبي الذي يرى أن الدين عامل بان في كل حضارة، ولكني أتمنى على الباحث في بلادنا أن يقوم بدراسات دقيقة ليحدد كيف أثرت الأفكار المشوهة الانحطاطية في العصور الأخيرة في حالة الانهيار الحضاري التي عشناها(وبالذات أهتم شخصياً بالأشكال المنحطة الأخيرة التي شهدتها الحركة الصوفية، وما قادت إليه من روح سلبية وكسل شامل وابتعاد عن البناء المادي والمعنوي للمجتمع وتشجيع للتفسخ والتفكك الاجتماعي) وفي المقابل دراسة سر إخفاق الحركات الفكرية الكبرى التي كان هدفها الأصلي النهضة(بالعودة إلى ما كان عليه السلف) وتجاوز الوضع القائم. وعلى كل حال لا أريد مغادرة هذه الفقرة قبل أن ألفت انتباه القارئ إلى أن فيبر لم ير البتة علاقة بين التطور الرأسمالي والفكرة الديمقراطية أو فكرة حقوق الإنسان أو ما شابه من أفكار الثورة الفرنسية، وعلى العكس فالكالفينية التي نسب إليها التأثير الفاعل في بناء العقلانية الحديثة لم تكن لها علاقة بهذه القيم كما رأينا! ولا أقول ذلك بالطبع بهدف مناصرة خصوم هذه الأفكار ،فمما لا ريب فيه أن نظاماً يحترم الحريات العامة، و حقوق الإنسان، ومبدأ الانتخاب الديمقراطي للسلطة، وإنهاء الطغيان الفردي والحزبي، هو شرط من شروط النهضة لا تتصور من دونه في اعتقادي.ما أردت قوله هو فقط استنتاج فيبر أن الأفكار لها قوانين خاصة في التأثير العملي تخالف المتوقع منها حين ننظر إليها نظرة سطحية. خاتمة: البروتستنتية في الفكر العربي والمنظورين الاستلابي والتأصيلي الفاعل للتجديد الديني أقول بداية أن الالتباس الذي أصاب المثقف العربي حين تصور وجود حاجة لبروتستنتية إسلامية نشأ عن سوء فهم لتاريخ البروتستنتية مصدره إسقاط الواقع على ماض مختلف تماماً، وقراءة هذا الماضي بمقاييس الحاضر لا بمقاييسه الخاصة، وهذا التباس بالذات-للمفارقة-لم يوجد عندنا فقط بل وجد في الغرب بالذات، ففيبر يورد في البداية افتراضات معاصريه الذين أرادوا تفسير العلاقة بين تطور المناطق البروتستنتية الصناعي والتخلف النسبي للمناطق الكاثوليكية بأنه ناتج عن وجهة النظر الكاثوليكية التي لا تهتم بهذا العالم والسعادة فيه، بخلاف البروتستنتية التي تهتم بمسرات الحياة الدنيا! وقد أوضح فيبر لهؤلاء بالدراسة التاريخية المفصلة أن هذا لم يكن الحال عند البروتستنتية الأولى!وسآتي الآن إلى السؤال الذي لا شك أن القارئ يريد مناقشته: هل الإسلام يقدم نظاماً فكرياً كفيلاً بالنهضة الحضارية أم لا؟ سأجيب في البداية أنني آخذ الدين الإسلامي سلفاً كموضوع إيمان لا شك فيه، وهو عندي يكفل النجاة الأخروية وهي أهم بما لا يقاس من كل هدف دنيوي. ولكن الإسلام كنظام عقدي واجتماعي يحتوي بلا شك على عنصر نهضوي فريد، إذ يجعل من العمل الدنيوي الحضاري عملاً صالحاً يجازى عليه المرء حتى لو قاده إلى ربح مادي ما دامت النية نية عمل لله (وقد يذهب أهل الدثور بالأجور!) والسؤال الآن؟ فلماذا لا نرى لهذا البعد الحضاري تأثيراً عند المسلمين؟ والجواب الذي أعتقد أن علينا أن نبحثه مطولاً هو في كيفية تفسير المسلمين لعقيدتهم.فحتى المتدين فيهم تديناً صادقاً قد يكون تأويله للدين تأويلاً يقوده إلى عمل مخرب للحضارة ومفكك للمجتمع وهو ما أشارت إليه الآية حين تكلمت عن "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!" من فيبر نستنتج أن للعقيدة أثراً حضارياً مهماً(مهما كان اتجاه هذا الأثر) وعلينا نحن أن ننظر في العقيدة الموجودة عند المسلمين وندرس كيف تؤثر في الواقع. وفي دراسته لأثر البروتستنتية في نشوء "روح" الرأسمالية يركز فيبر مراراً وتكراراً على مبدأ أراه قيماً وأتمنى على المسلمين أن ينتبهوا إليه: حين نتكلم عن تأثير عقيدة في السلوك الاجتماعي(الحضاري) الملموس يجب ألا نكتفي بالتطرق إلى الجوانب النظرية البحتة في هذه العقيدة بل يجب أن ننتبه بصورة أساسية إلى الأشكال التي تتحول فيها الأسس العقدية إلى دوافع نفسية داخلية محركة قوية(أو حتى قهرية لا يستطيع الفرد مخالفتها) تدفع الفرد إلى سلوك معين. وفقط حين تنعكس العقيدة في سلوك حضاري نقول إن للعقيدة تأثيراً حضارياً. مع الأسف نحن نميل غالباً إلى التركيز على الجوانب الموجودة في العقيدة دون أن ندرس إن كانت هذه الجوانب تحولت حقاً إلى دوافع نفسية محركة قادرة على "إجبار" الفرد على العمل باتجاه معين،أم هي بالمقابل ظلت نظرية في بطون الكتب والنصوص،أو أقر بصحتها نظرياً ثم اكتفي بهذا الإقرار وظلت الدوافع المحركة للسلوك العملي دوافع من نوع آخر مختلف. والكالفينية في مثال فيبر، على كل خراقة أساسها العقدي بل لا إنسانيته، كان لها دور حضاري(بغض النظر عن تقييمنا لهذا الدور) لأنها تحولت إلى دوافع نفسية قوية حركت حملة هذه العقيدة باتجاه سلوك اجتماعي (حضاري) معين. وختاماً أقول: بدلاً من المنظور الاستلابي للتجديد الديني صار من الواجب على المسلمين أن يطوروا منظوراً تأصيلياً فاعلاً لهذا التجديد يأخذ بعين الاعتبار الجانبين: الأصالة المنطلقة من الذات الحقيقية وضرورة تغيير واقع الانحطاط الحضاري. ولا ريب عندي أن من علامات العقيدة الصحيحة أنها هي فقط العقيدة التي تبني،إذ أنها هي التي تؤدي دور الاستخلاف في الأرض،أي البناء الحضاري المتكامل الذي يراه الإسلام معنى وجود البشر على سطح البسيطة،وحين تكون العقيدة هدامة فهذا علامة على أنها ضل سعي صاحبها ولو ظن أنه أحسن صنعاً! مراجع للمقال: 1-حول مارتن لوثر * Hans Lilje,Martin Luther. ROWOHLT.Hamburg1968 2-حول ماكس فيبر: * Max Weber.Die protestanische Ethik und der „Geist“ des Kapitaismus. BELZ Athenäum Verlag.Weinheim.2000 * Dirk Käsler.Max Weber.Campus Verlag.Frankfurt/New York.1995. محمد شاويش كاتب فلسطيني مقيم ببرلين ألمانيا