كثيرا ما يتساءل المرء في إطار تأملاته أو حتى نقاشاته «العامية» عن علاقة السياسة أو بالأحرى علاقة عملية ممارسة السياسة بالأخلاق. ويصبح التساؤل ملحا حينما يلاحظ المرء الفرق بين الواقع التنفيذي للسياسات وبين الشعارات و«الوعود» والبرامج السياسية، إذ يصبح التساؤل مشروعا: هل فعلا ستختل الدولة وتضيع مصالحها إذا تم تخليق السياسة، أو- تجاوزا- تسييس الأخلاق ؟ ما مصير الدولة إذا أصبح الإطار العام للسياسة مجرد نوايا أخلاقية وتخليقية، وإذا ما أصبح الفعل السياسي إجراء يستهدف التأثير على الوجدان أكثر من استهدافه التأثير على الواقع ؟ لا بد من القول إنه رغم الأسماء ذات المفاهيم المتعددة ل«الأخلاق» éthique – mœurs – morale – فإنها تصب كلها فيما يهتم بالسلوك ونوعية القيم السائدة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، أو حتى تلك التي يتم التعاقد حولها وجدانيا بين الفرد والمجتمع من جهة وبين الدولة من جهة أخرى، كما أنه من الممكن للدولة أن تعمل على شرعنة وتسريب مجموعة من المفاهيم «الأخلاقية» (ذهنية وسلوكية) عبر مختلف الوسائل التأثيرية وبصفة ديماغوجية، تتوخى غالبا تسطير مبادئ إما سوسيو-أخلاقية تمتح غالبا من الدين في الكيانات السياسية المعاصرة ذات الصبغة الثيولوجية (صبغة ضمنية)، حيث يتم احتكار السلطة الأخلاقية من طرف فرد أو مجموعة أفراد أو طبقة تنصب نفسها مسؤولة عن ضمان ما يمكن تسميته ب «الأمن» الروحي للمجتمع والذي تدخل ضمنه الأخلاق، وإما تسطير مبادئ سلوكية – مدنية تأخذ شكل حقوق وواجبات مدنية، وتجدر الإشارة إلى أن الإديولوجيا السياسية تتدخل هنا لتكييف محتوى الحق والواجب المدني مثلا من أجل جعله قابلا للتشكل حسب الضرورة التي تقتضيها مصلحة الدولة، بمعنى أن الدولة يمكنها استغلال المحتوى «المدني» لقضاء أغراضها السياسية، وبمعنى آخر فإن المجتمع المدني يساهم بدوره في تشكيل الإديولوجيا السياسية التي تؤطره وتطبق عليه عبر انخراطه في تبني المبادئ المدنية وجعلها جزءا من مقوماته الوجودية وجزءا من مكونات وعيه الأخلاقي الجمعي ، مما يعني أن هناك قنوات تفاعلية بين ما هو أخلاقي وما هو سياسي، وبين ما هو أخلاقي وما هو إديولوجي، رغم ما يظهر من دعوات إلى فصل السياسة عن الدين وضمنها الأخلاق، ومما يعني أيضا أن المجتمع المدني يساهم بوعي أو بدون وعي في تبني – وأحيانا فبركة – ونشر ما يمكن أن ندعوه مبادئ مدنية تستغل من طرف الإديولوجيا السياسية من أجل المزيد من بسط النفوذ والسلطة. ورغم أن ماكس فيبر قد شرعن احتكار الدولة للعنف سواء المادي منه أو الرمزي من أجل التعبير عن امتلاك السلطة السياسية المطلقة، فإن الوجود الدائم والمستمر لمفهوم الأخلاق داخل المنظومة السلوكية للوعي الجمعي للمجتمعات يبقى دوما في احتكاك مباشر مع السياسة، وفي كثير من الأحيان يباشر عملية الرقابة الواعية على التوجهات السلوكية لمحترفي السياسة (في الولاياتالمتحدة مثلا يمكن لأدنى خطإ أخلاقي أن يطيح بالتاريخ والمستقبل السياسي لمسؤول سياسي ما). ولا يمكن في هذه الحالة أن نرد هذا الوعي الأخلاقي الجمعي إلى الوازع الديني وحده، ولا إلى الوعي والواجب المدني وحده أيضا، بل يعود هذا السلوك في أغلبه إلى مساهمة الدولة من خلال نوعية السلطة التي تتفاعل بواسطتها مع المجتمع، ولن نجد مثل هذه المساهمة الإيجابية إلا داخل ما أسماه ماكس فيبر بالهيمنة العقلانية التي تقوم أساسا على نوع من التعاقد العقلاني والشفاف بين الدولة والمجتمع (ليس بمفهوم روسو)، وفي هذا الإطار، فإن أنواع التعاقد القائمة على الكاريزم الشخصي أو الهيمنة الدينية التقليدية ( ماكس فيبر دائما) لا تتيح سوى علاقات عمودية تسلطية إما قائمة على تقمص دور «ظل الله في الأرض» أو «الحق الإلهي» كما هو معبر عنه في الفلسفة السياسية التقليدية، وإما قائمة على الكاريزم الشخصي المعبر عنه بشتى الوسائل كالخطب (الخطب البرلمانية كمثال) والتميز عن طريق الأزياء المميزة مثلا بغية التأثير السيكولوجي على أفراد المجتمع وكسب ثقتهم وطاعتهم، وإما قائمة عليهما كليهما: أي على الهيمنة الدينية والكاريزم، وفي هذه الحالة – في نظرنا – لا مجال لقيام علاقات هيمنة أفقية على أساس عقلاني تكون فيها السيادة متساوية بين قانون الدولة ورقابة المجتمع، أي بين وعي الدولة ووعي المجتمع طالما أن العلاقات التعاقدية العمودية هي علاقات استلاب أو محاولة فرض الهيمنة عبر الإستلاب. إذا سلمنا مع ماكس فيبر بأن السياسة تقوم على العنف الرمزي والمادي، في ظل التعاقدين التقليدي والكاريزمي، فإن أي نوايا أخلاقية سوف تنتفي بالرغم من وجود مفهوم المشروعية، لأن استعمال آليات العنف المادية والإديولوجية والديماغوجية ولو في إطار العنف المشروع، سوف يحيلنا مباشرة على كون العلاقة الرمزية التي تربط الدولة بالمجتمع هي علاقة نوايا تسلطية تفرض – حتما وآليا – وجود نوايا احتكارية للسلطة المطلقة، والسلطة المطلقة تفرض وجود آليات إديولوجية تشرع للعنف طوعا أوكرها، ولهذا سوف لن نفاجأ إذا وجدنا أن ماكس فيبر قد أدخل الإصلاح الضريبي مثلا ضمن خانة العنف الرمزي، مما سوف يوضح الرؤية حين سنتحدث فيما يلي عن الحكومة الملتحية كنموذج. إن حديثنا عن الأخلاق والسياسة فيما يلي، لا علاقة له بالأخلاق بالمعنى السلوكي العملي وإنما بالمعنى القيمي العقلي العام. ولربط ما سبق بنموذج واقعي، لنا أن نتساءل: ما مدى تفاعل السياسة والأخلاق في السلوكيات السياسية لحكومتنا الملتحية التي تصنف ضمن الحكومات الإسلامية التي تحكم بعض الدول العربية بعد ما سمي – تجاوزا – بالربيع العربي؟ هل تباشر هذه الحكومة السياسة في انفصال عن الأخلاق أم إنها تحكم أحدهما في الآخر؟ وما مدى عمق التأثير الذي تتركه صفة «حكومة إسلامية» أو «ذات التوجه الإسلامي» على مباشرتها للسياسة التي – بمفهومها المعاصر – لا تعترف بالأخلاق؟ كيف تفصل بين الوعي السياسي للدولة وميل هذه الأخيرة الطبيعي نحو الهيمنة بكل الوسائل الممكنة وبين الوعي الأخلاقي المعياري للمجتمع؟ هل تنظر هذه الحكومة إلى الأخلاق من داخل السياسة باعتبار الأساس الديني أم باعتبار الأساس الإلزامي – العقلي كما أكد كانط أي باعتبار المبادئ الأخلاقية الأولية ؟… أولا، لا بد من ملاحظة أن كون لفظ «حكومة إسلامية» يفترض مسبقا في الوعي الجمعي للمغاربة وجود ارتباط أخلاقي – ديني صرف لهذه الحكومة، وعليه فإن كل الأحكام التقييمية التي سوف يصدرها المجتمع في حق الحكومة سوف تكون نابعة من هذا الإرتباط، ولا شك أيضا في كون أفراد الحكومة نفسها لن يستطيعوا التخلص ولا التنكر لهذا التوجه الذي سوف يظل يحكم ويتحكم في مباشرتهم للسياسة، لأن الدين والأخلاق مرتبطان ارتباطا وثيقا في ذهن المجتمع، ولا أحد يجهل أن هذا الارتباط بين الديني – الأخلاقي وبين السياسي خصوصا، كان من ضمن الركائز التي بنى عليها – ضمنيا - حزب العدالة والتنمية دعامته السياسية. ولا شك أيضا أن هذا الإرتباط هو ما أدى بالمجتمع إلى حمل الحزب إلى سدة الحكم، مما سوف يؤدي به إلى رهن نتائجه السياسية والتدبيرية بالأحكام الأخلاقية – المعيارية للمجتمع، الشيء الذي سيؤثر لا محالة على وزنه وشعبيته أمام الكتلة الناخبة التي هي المجتمع بطبيعة الحال، كما يجب التركيز على أن هناك علاقة متشعبة ومتداخلة في ذهنيتنا كمغاربة بين السياسة والأخلاق من جهة وبين حصول المنفعة من جهة أخرى، بمعنى أن المجتمع المغربي بسبب تدني مستواه المعيشي المتواصل منذ أمد بعيد، وبسبب فقدانه الثقة في مختلف الفاعلين السياسيين الذين تعاقبوا على حكومات المغرب، وخيبة الأمل في الوعود، والوعي بالفوارق الطبقية التي اتسعت وتوضحت وبفضل اتساع هامش الحريات التعبيرية الصحافية وتعددية وسائل الإعلام والإتصال، واتساع أفق المعرفة والإطلاع، كل هذا جعل الفعل السياسي والأحكام المتبلورة حول نتائجه ترتبط فقط وبالدرجة الأولى بحصول المنفعة، لأنه عندما يتدنى مستوى المعيشة يصبح مفهوم السياسة في نظر المجتمع مرتبطا بتوفير « الخبز «. وعليه، فإن ما اصطلح عليه بالتغيير الذي أمل فيه المجتمع بعد تنصيب الحكومة الملتحية لا يعني لدى المغاربة إلا شيئا واحدا: تحسين مستوى المعيشة ومحاربة الفساد وإعادة التوزيع العادل للثروات التي تركزت في أيدي القلة، خصوصا وأن الإنتماء الطبقي الشعبي لجل أفراد الحكومة يجعلهم أقرب إلى الوجدان الشعبي، وقد ساهم الخطاب الشعبوي المرتكز ضمنيا على الإديولوجيا الدينية – الأخلاقية الذي تبنته الحكومة سواء أثناء الحملة الإنتخابية أو أثناء ممارستها للفعل السياسي، ساهم في هذا التقارب الوجداني، وساهم أيضا في بلورة صفة «المنقذ» التي أضفاها المجتمع على الحكومة الملتحية. وكنتيجة لكل هذا، لا بد من محاولة حصر بعض القيم الأخلاقية التي تحكم علاقة المجتمع بالحكومة والتي سوف تظل تتحكم في نظرة المجتمع التقييمية لعمل الحكومة والمرتبطة أساسا بحصول المنفعة: الوفاء بالوعود، والعدالة الإجتماعية. هذه القيم مرتبطة مباشرة بحصول المنفعة، وفي حالة ما إذا انتفت هذه القيم ولم تتحقق المنفعة، فإن المجتمع سوف يضع الحكومة والحزب المسير لها في خانة التاريخ المهمل، وهكذا يمكننا التساؤل: هل كانت الحكومة شعبية أثناء مباشرتها للفعل السياسي وأثناء اتخاذها لبعض قراراتها كما كانت في خطابها وبرنامجها السياسي والإجتماعي الذي قدمته أثناء الحملة الإنتخابية؟ الوفاء بالوعود أخلاق، والوقوف إلى جانب الطبقة الوسطى والدنيا وتحسين مستوى عيشها أخلاق، وفرض الضريبة على الثروة أخلاق، ومواجهة الطبقة الرأسمالية المتنفذة ومحاسبتها أخلاق، وتقليص الرواتب العليا وترشيد النفقات أخلاق، وعدم اتخاذ الطبقة الإجتماعية البسيطة حائطا قصيرا منعدم العواقب لحل الأزمات أخلاق، والجرأة على القوي من أجل الضعيف في إطار التكافل الإجتماعي أخلاق أيضا. وإذا انتفت هذه القيم، ذهبت الأخلاق في نظر المجتمع وبقيت السياسة، والسياسة لا أخلاق لها. إن محاولة دخول حقل السياسة البراغماتي الملغوم لا يستقيم الخوض فيه بسلاح الأخلاق، فأن تتحدث الحكومة الملتحية عن التخليق (مثلا موضة نشر لوائح المستفيدين من كذا وكذا) ما هو إلا ضرب من اللاواقعية الوجدانية التي سرعان ما اصطدمت بالواقع الصلب للوبيات البورجوازية المتسلطة، فاستبدل التخليق ب «عفا الله عما سلف» التي هي في الواقع من اختصاص يوم الحساب وليس من اختصاص الحكومة، لأن «عفا الله عما سلف» قد تضيع حقوق شعب ومجتمع بكامله، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشعارات والبرامج لا تتبلور من دراسة للواقع والوقائع، وإنما هي من أجل الإستهلاك اللحظي فقط، لأن كثيرا من القرارات المتخذة لا تعكس أي معرفة بالواقع ولا أي استشراف للمستقبل (مثلا قرار الزيادة في المحروقات هربا من الديون لم يلغ الإستدانة) وكثير من القرارات التي عكست بوضوح أن الشعارات والبرامج الإنتخابية لا علاقة لها بالسياسة، وأن السياسة إذا ربت في جلباب الأخلاق صارت نوعا من التنجيم والهرطقة. فالدولة كيان لا مادي، ووجودها مرتبط بالعلاقات التفاعلية السليمة مع المجتمع الذي يحفظ ويحافظ على التوازنات التي تضمن سيرورتهما معا، ولا يتأتى الحفاظ على التوازن بين الدولة والمجتمع، أي بين الواقعي – العقلي والأخلاقي المعياري إلا بشيئين: أولا نزع عباءة السياسي المتدين، أي إبعاد النوايا الأخلاقية عن الفعل السياسي لأن المجتمع يُخْضِعُ في أحكامه ما هو سياسي لما هو أخلاقي – قيمي، وثانيا البحث عن إحداث التوازن بين كفة الدولة وكفة المجتمع، أي عدم تحميل كفة المجتمع ما لا تطيقه حتى لا يتم فك الإرتباط بين الدولة والمجتمع. وهكذا فإن الحكومة الملتحية قد سقطت في فخ ارتباطها في ذهن المجتمع بالدين والأخلاق ( مع تقديمها لنفسها بهذه الصفة )، مما سيجعل هذا الأخير يسحب ثقته في حال ما إذا استمرت في تبني سياسات اجتماعية لاشعبية لأنه كما قلنا آنفا لا ينظر إلى السياسة إلا من منظار الأخلاق وحصول المنفعة… وأخيرا، فإن تفضيل المجتمع لحزب العدالة والتنمية الذي حمله إلى الحكم كان بالدرجة الأولى ناتجا عن ارتباط ذهني بين الديني – الأخلاقي وبين السياسي، أي أن « التفضيل « كان وجدانيا نفسيا وبراغماتيا ولم يكن أبدا عقلانيا جدليا.