مأسسة القيم الدينية وإعادة بناء العلاقة بين الإسلام والسياسة الواقع أن الغنوشي، كغيره من المفكرين الإسلاميين، يؤكد أن طبيعة الإسلام لا تقبل أي فصل بين الدين والسياسة، فالعلاقة بينهما متضمنة في صلب التعاليم الإسلامية، وليست مجرد نتاج للتجربة السياسية الإسلامية فقط. لكن، وتحت هذا الجذر المشترك بين الخطابات الإسلامية، ينبع الاختلاف على مستوى تحديد درجة التناغم الحاصل بين العنصرين، «الدين» و«السياسة». فبالنسبة إلى أغلب هذه الخطابات، فإن العلاقة بين العنصرين هي علاقة دمج وانصهار، أي انصهار الدولة في الدين، بحيث يكون الإسلام هو دين الدولة وأساس شرعية السلطة، وتكون الدولة أداة لخدمة الشريعة. أما بالنسبة إلى الغنوشي، فإن العلاقة تتخذ طابعا جديدا، فبدون السقوط في فرضية الدمج الشامل أو الفصل التام، نجد عند الغنوشي رغبة في إعادة بناء وتركيب العلاقة بين الدين والسياسة، وهو مشروع يستنتج انطلاقا من التغيرات والتطورات التي حدثت على صعيد خطاب الغنوشي في فهمه لمفهوم «السياسة»، وفي اكتشافه لأبعاد جديدة في مفهوم «الدين». فبالنسبة إلى مفهوم السياسة، فقد اقترب الغنوشي مما يعنيه هذا المفهوم في الفكر الحديث، ذلك أن السياسة بمعناها المعاصر لم تعد مقتصرة على مجرد علاقات روحية مستمدة من الإيمان ومشروطة به، كما لم تعد مرتبطة بفكرة التمثيل الرسمي والعقدي للجماعة وتطبيق الشريعة، بل أصبحت تعبر عن أسلوب في ممارسة السلطة وفن القيادة في الدولة وتنظيم المصالح والشؤون المدنية، بما ينجم عنه من خلق مجال تتحقق فيه السياسة، بما هي منافسة أو مجادلة عملية بين القوى وبما هي مفاوضة وتعديل مستمر للمواقف وتقاسم للمصالح والمنافع والامتيازات المادية والرمزية، بهدف تحقيق حد أدنى من التوافق الذي بدونه لا يتحقق النظام الاجتماعي. فالسياسة، بهذا المعنى، لا تجري في المطلق وبدون ضوابط، لكن ممارستها مشروطة بوجود حد أدنى من التراضي والتوافق بين الأفراد والمجموعات السياسية على مجموعة من الأسس والمبادئ التي بدونها لا يتحقق النظام الاجتماعي والتعايش السلمي. ويرى الخطاب الإسلامي التوفيقي أن هذه الأسس والمبادئ القيمية والروحية، التي يجب أن تستند إليها السياسة، توجد كلها في الدين، ليس بمعنى العقيدة والإيمان -أي علاقة الإنسان الوجدانية والروحية والحميمية بما يعتبره مقدسا ومطلقا- بل باعتباره مركز بلورة الحد الأدنى من الإجماع والتوافق في السياسة والاقتصاد والثقافة.. سواء بالرجوع إلى النص الثابت أو بالاستناد إلى الاجتهاد الفكري والمادي، خصوصا أمام ما يعتبره هذا الخطاب عجزا للإيديولوجيات التي حكمت العالم الإسلامي عن توليد مثل هذا الإجماع، وإخفاقا للمشاريع المجتمعية المتمخضة عنها في أن تحظى بذلك الحد الأدنى من التوافق. بهذا المعنى الجديد، أصبح الخطاب الإسلامي التوفيقي يتحدث عن الدين باعتباره مصدر تربية ذاتية وجماعية لا غنى للنظام السياسي عنها. فإذا كانت الدولة هي محرك السلطة فالدين هو روحها، والخطر يكمن في أن ينفصل الروح عن الجسد، ففي هذه الحالة يزول العقد الجمعي وينهار النظام الاجتماعي. لكن بين الاتصال والانفصال درجات كبيرة هي محل اشتغال التوفيقية الإسلامية -التي يعتبر الغنوشي من أبرز ممثليها- حيث تجاوزت مجرد التشديد على الارتباط البديهي بين الدين والسياسة، إلى إعادة ترتيب العلاقة بينهما عن طريق إعادة بناء معاني القيم الدينية وتوظيفها في الوعي الجديد، على ضوء إضافات الفكر والتنظيم السياسي الحديث وتطعيم مدلولاتها التربوية والأخلاقية بمضامين سياسية، تجعل منها ضمانات قانونية ومؤسساتية تستقيم بها العلاقة بين السلطة والمواطنين وبين الدولة والمجتمع، وتتم بها المحافظة على الحريات العامة. فعند الغنوشي، يتم تجديد القيم الإسلامية، وبالتالي إعادة بناء العلاقة بين الدين والسياسة، عبر تحقيق المهام التالية: - نقد التجربة السياسية التاريخية الإسلامية، حيث كانت السلطة تعيش على الدين وتنمو على حسابه، أكثر مما تخدمه وترعاه، فكانت بذلك إسلامية من حيث هوية الجماعة والانتماء التاريخي وليس من حيث المبدأ أو الغاية. - نقد الفكر السياسي الإسلامي ومختلف التنظيرات الكلاسيكية في السياسة التي اضطرت، تحت وطأة الخشية من الفتنة وانخراط عقد الجماعة، إلى اختصار مهام السلطة في تطبيق الشريعة، فكانت نظرتها بالنسبة إلى الدولة أداتية واستعمالية، بدون تزويدها بشرعية ذاتية، ومن ثم بناء علاقة مباشرة بها. - القيام بتقييم موضوعي لتجارب الآخرين، خصوصا بالنسبة إلى التجربة السياسية الأوربية، للاستفادة من التطورات الحاصلة على صعيد التنظيم السياسي وتلافي أوجه النقص في هذه التجربة. - المساهمة في تقديم مشروع مجتمعي تتعايش فيه وتتوافق القوى السياسية والإيديولوجيات المختلفة، وتقديم مسوغات نظرية للتحالف معها، بما يتطلبه ذلك من تجاوز للنظرة العقائدية والمعيارية إلى الآخر وإلى الواقع. هكذا، كان لا بد لمحاولة تجديد القيم الدينية، بما يعيد بناء العلاقة بين الدين والسياسة، من أن تمر عبر قنوات توفيقية متعددة. فمن جهة، كان على الخطاب الإسلامي أن يتوافق مع تراثه بإعادة تقييم خلاصاته. ومن جهة ثانية، كان عليه أن يتوافق مع ماضيه، بمراجعة تجربته السياسية التاريخية. ومن ناحية ثالثة، كان عليه أن يتوافق مع الآخر المختلف معه بأن يعتبره فضاء يمكن النهل منه والاستفادة من تطوره الفكري والمادي. وأخيرا، كان على الخطاب الإسلامي أن يتوافق مع واقعه بقبول معطياته والتعامل مع ممكناته واستبعاد النظرة المعيارية في تقييمه. ويتضح أن مشروعا من هذا النوع لا يشكل فقط تطويرا للخطاب الإسلامي، بل اقترابا من الخطاب العلماني. فإذا كان هذا الأخير يفصل بين الدين والسياسة، ويعتبر أن لهذه الأخيرة أسسا أخلاقية وغايات محددة (الخير العام) مستقلة عن الدين وخاضعة لتوازنات القوى السياسة المتغيرة، ويرى أن هذا الفصل مدخل ضروري لعقلنة العلاقات السياسية وتزويدها بالنظرة التنظيمية والدستورية، فإن الغنوشي يحاول أن يصل إلى هذا المسعى دون السقوط في مقولة الفصل بين الدين والسياسة، بل بإعادة بناء العلاقة بينهما، أي أنه يمكن -عبر الإبقاء على الترابط والالتصاق بين الديني والسياسي- أن نضمن وجود الحريات عن طريق مأسسة القيم الدينية، بشكل يضمن وجود مؤسسات فاعلة وقوية تستقيم بها العلاقة بين المجتمع والدولة، فالإشكال الذي يشغل الغنوشي، إذن، ليس الفصل بين الدين والسياسة، وإنما إعادة بناء العلاقة بينهما عبر المرور عبر المحطات التوفيقية السابق ذكرها. بهذا المعنى، فإن الفكر التوفيقي عند الغنوشي ليس نقيضا للفكر العلماني بشكل مطلق وفي كل الأحوال، وإنما هو تكملة -بطريقة أخرى- كما حاول العلماني أن يحققه بدون نجاح فوري، إنه محاولة إيجاد الصلة التي ظلت مفقودة بين الأصولية الإسلامية والعلمانية، بالاشتغال في المساحة المشتركة التي تتداخل وتتلافى فيها الدائرتان، الإسلامية والعلمانية. مشروع إعادة البناء.. محاولة تقييم سنقوم في هذا المطلب بمحاولة تقييم لمشروع الغنوشي الهادف إلى بناء العلاقة بين الديني والسياسي عن طريق مأسسة القيم الإسلامية، عبر دراسة إشكالين اهتم بهما في كتاباته النظرية، وهما: إشكالية السيادة وإشكالية السلطة. إشكالية السيادة تنتهي أفكار الغنوشي بصدد موضوع السيادة إلى الاعتراف بأنها حق أصيل للأمة في الدولة الإسلامية، لا يقيدها سوى علوية النص كمصدر أسمى للتشريع. لكن الإشكالية التي تثيرها هذه الخلاصة تتمثل في التعارض الذي يمكن أن ينجم عن القول بأن الأمة هي صاحبة السيادة وبين اعتبار النص، قرآنا وسنة، مصدرا مهما للتشريع؟ ألا يمكن أن يؤدي هذا الترتيب في مصادر السيادة إلى ازدواج القاعدة القانونية التي يجب الاحتكام إليها؟ يتبع... عبد الحكيم أبواللوز - المركز المغربي في العلوم الاجتماعية