لائحة عريضة من العناوين التي يحفل بها هذا الحوار، مع المفكر المغربي خالد حاجي، من آفاق ومعالم مشروع "خطاب مرحلة ما بعد الإسلام السياسي"، إلى الرسائل الفنية والأدبية والفكرية التي جاءت في آخر أعماله الروائية (رواية "عبد الرحمن والبحر" وصدرت عن المركز الثقافي العربي، طبعة 2010)، مرورا عبر قراءة المعارك السياسية والسياسية التي اندلعت خلال السنين الأخيرة في القارة الأوروبية بخصوص التعامل مع موضوع الهويات الوطنية، أزمة المآذن، قلاقل النقاب، أو خلفيات ومقتضيات رهان بعض النخب السياسية والفكرية الغربية على استثمار التصوف أو توظيفه عند البعض الآخر، وغيرها من العناوين والقضايا. ما يُميز أعمال خالد حاجي والتي تعرفنا عليها في دراساته التي كانت تُنشر في مجلة "المنعطف" المغربية، أو التي جاءت في كتابه القيّم "من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع الإسلامي والعربي" (الصادر عن المركز الثقافي العربي، عام 2006)، أو مداخلته في أنشطة "منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين" أنها حالفة بالأسئلة والأجوبة في آن، على غرار ما نطلع عليه في أعمال الراحلين علي عزت بيغوفتيش وعبد الوهاب المسيري، أو أبي يعرب المرزوقي ومصطفى المرابط وطه عبد الرحمن: لسنا أمام جهاز مفاهيمي يحتكر النطق باسم "الحقيقة العلمية" أو "الحقيقة الدينية"، وإنما أمام جهاز مفاهيمي يفاجئك بأسئلة مضادة، مؤسسة في الغالب الأعم على شعار/خيار "النقد المزدوج"، (نقد الذات العربية الإسلامية ونقد الذات الغربية، في شقيها الديني أو العلماني)، ويُدلي فيما بعد باجتهادات معرفية، من باب الإسهام في البحث عن أجوبة عملية على أسئلته وأسئلتنا في آن، ومُجمل الأسئلة الراهنة التي تؤرق بال العقل العربي الإسلامي المعاصر والعقل الغربي المعاصر. هذه بعض مقدمات هذا الحوار.. + توقفتم في خاتمة مبحث "الجميل والقبيح" الصادر مؤخرا في شهرية "الدوحة" (ضمن ملف حول "احتلال العقول") عند مقتضيات صناعة هوية متمفصلة تُجنِّب العالمين، العربي والإسلامي من جهة، والعالم الغربي من جهة أخرى، أسباب التباعد والتصارع، وأشرتم إلى أن هذا الأمر يتطلب توفر شرطين أساسين: أن ينتصر "التعدد الثقافي" في الحضارة الغربية، وأن تتجدد بلاغة الخطاب الإسلامي المهيمن في الفضاء العربي والإسلامي؛ ثم طرحتم استفسارا مؤرقا بخصوص مقتضيات الشرط الثاني، وأهمها مقتضى "تجاوز ما يعرف بالإسلام السياسي". هنا نعيد معك طرح نفس الاستفسار الذي ظل معلقا في نص المبحث، على أمل الظفر بجواب هذه المرة: ما هي ملامح خطاب مرحلة ما بعد الإسلام السياسي؟ ++ قبل الحديث عن ملامح خطاب مرحلة "ما بعد الإسلام السياسي"، يَحْسُن أن نقف عند مدلول "الإسلام السياسي" أولا. لا بد من الإقرار بداية بأن ما يُعيِّن مدلول هذه التسمية هو السياق ومجال التداول. فبقدر ما تكون تسمية مستهجنة وغير ذات موضوع في سياق بعينه، قد تكون مستحسنة وذات دلالات واضحة في سياق آخر. ففي العالم العربي والإسلامي مثلا، نكون أميل إلى استهجان هذه التسمية بالنظر إلى تداخل الديني والسياسي تداخلا طبيعيا لا نعرف معه أين ينتهي الديني ليبدأ السياسي أو العكس. لا أحد يجادل في أن الكثير من أنظمة الحكم في هذا العالم تستمد شرعيتها من الإسلام؛ فهذه الأنظمة تسعى إلى المزج بين الإسلام والسياسة مزجا يكون التجسيد الأمثل للشرعية، ويقطع بذلك الطريق على أنواع المزايدات التي قد يركب أصحابها الدين لاقتراح صيغ أخرى لهذا المزج. بهذا يستحيل نعت حركات الصحوة الإسلامية مثلا بأنها حركات إسلام سياسي، في مقابل نعت الأنظمة بأنها أنظمة فصل بين الإسلام والسياسة. فالصراع حول الشرعية يتم تحت سقف ثقافة سياسية ومنظومة قيمية يتداخل فيها الديني والسياسي. وبالتالي تصبح تسمية "الإسلام السياسي" تسمية خالية من المعنى. لذلك فالمُرجَّح عندنا أن الأصل في "الإسلام السياسي" أنها تسمية لا تكتسب معناها إلا بالإحالة على سياق العلمانية الغربي، سياق "كوني عالمي"، حيث الفصل تام وواضح بين الديني والسياسي. إذا كان الاختلاف بين الحركات الإسلامية والأنظمة الإسلامية حول الشرعية هو اختلاف في درجة استعمال الدين وحول صيغ المزج بين الديني والسياسي، فإن الاختلاف الذي يجمعهما معا، أي الحركات الإسلامية والأنظمة من جهة، بالغرب العلماني، من جهة أخرى، هو اختلاف في الأصل والمبدأ. والحاصل أن مدلول التسمية ينسحب في السياق العلماني على الأنظمة في العالم الإسلامي وعلى الحركات الإسلامية بنفس القدر. كلاهما محسوب على الإسلام السياسي منطقيا. إلا أن التسمية اكتسبت معنى خاصا وانزاحت عن الأصل المنطقي المقبول لتدل على الحركات الإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار، خصوصا بعد الثورة الإيرانية، بغرض التمييز بين هذه الحركات وبين الأنظمة العربية والإسلامية التي قبلت دخول معترك السياسة الدولية وساحة السجال الكوني على شرط النظام العلماني المهيمن على المؤسسات الدولية. وحتى وإن كانت شرعية الأنظمة في الداخل شرعية دينية، فإنها تقترح صيغا مقبولة للتمفصل مع المنتظم الدولي دون إقحام الدين. لم يكن الغرب ليعترض على أن تكون شرعية الحكم في العالم العربي الإسلامي شرعية دينية ما دام هذا الحكم لا يطلب إعادة ترتيب العلاقات الدولية ترتيبا يكون للدين دور محوري فيه. لذلك فإن لفظة الإسلام السياسي برزت بقوة مع الثورة الإيرانية لتنسحب على كل الحركات التي تتوخى من وراء طلب الحكم إعادة ترتيب الوضع الكوني ومساءلة النظام الدولي مساءلة باسم الدين. نستفيد من هذه الديباجة التي نحسبها ضرورية أن الإقرار بالتسمية هو إقرارا بموازين القوى العالمية. فالإسلام السياسي من وجهة نظر واضعي التسمية هو جملة حركات إسلامية تزايد على الأنظمة في العالم العربي الإسلامي وتقترح صيغا جديدة للعلاقة بين الديني والسياسي، صيغا تهدد بنسف الأسس التي انبنت عليها العلاقة بين دول ما بعد الاستعمار والعالم الخارجي...حركات يعميها الانتساب الديني وبلاغة العقائد عن تمثل الواقع الكوني تمثلا صحيحا. إذا كانت الحقائق الدينية حقائق مطلقة لا تقبل المساومة، فإن الواقع السياسي الكوني هو واقع تفاوض, وبلاغة التفاوض ليست بلاغة المعتقد المستصحبة من الفكر المشبع بالدين. متى أقررنا بهذا الواقع وبوجود خطاب منسوب إلى الإسلام السياسي يُنزِل مطلب التحرر من قبضة النظام العالمي السياسي والاقتصادي والثقافي منزلة المطلق الديني الذي لا تفاوض بخصوصه، جاز لنا الحديث عن مأزق "الإسلام السياسي" وساغ لنا البحث عن أسباب الخروج من هذا المأزق. بالنسبة لملامح ما بعد الإسلام السياسي إذا، وكما تحددت معاني "هذا الإسلام" في سياق موازين القوى القائمة، تعد بخطاب جديد يحث العرب المسلمين على تمثل آخر للعالم، للذات وللآخر، لمواطن القوة ومواطن الضعف. ينطلق خطاب ما بعد الإسلام السياسي من جملة قناعات جديدة، أولها القناعة التي مفادها أن معضلات التخلف والجمود والعجز عن مواكبة الركب الحضاري العالمي ليس الجواب عنها منوطا بسؤال السياسة والحكم والشرعية السياسية فقط. تفصح الكثير من كتابات مُنظري الحركات الإسلامية في الوطن العربي والإسلامي عن استيعاب لطبيعة اللحظة التاريخية وتصرح بالاستعداد للتفاوض، وهو ما يضمر القول بأن الصراع الذي كان يجمعها بأنظمة الحكم لم يعد صراعا حول الشرعية الدينية، بل صراع من أجل رفع سقف المطالب في عملية التحاور مع القوى العالمية، أو تغيير "أجندة" التفاوض، وأمام هذا الوعي الجديد يجد خطاب الإسلام السياسي نفسه أمام مفترق طرق؛ إما أن يختار سبيل المواجهة داخليا فيسقط في شراك الهيمنة الخارجية التي تسعى إلى استعماله كورقة ضغط على الأنظمة، مكتفيا بالوصول إلى الحكم والظفر بالسلطة كغاية. وإما أن يعمل على المساهمة في رفع جاهزية المجتمعات العربية والمسلمة المعرفية والعلمية والاقتصادية والفنية، وكذا المساهمة في تضييق ساحة التضخم الإيديولوجي وتوسيع ساحة الفعل الحضاري، ثم القبول بالاصطفاف وراء السلطة القائمة طمعا في تحقيق التماسك الداخلي في مواجهة الخارج. فكلما زادت العلاقة بين السلطة والحركات الإسلامية تأزما وكان الاحتقان سيد الموقف، ستزداد إمكانية لجوء الحركات الإسلامية إلى الخارج طلبا للاستقواء داخليا. وكلما خف التوتر بين الحركات الإسلامية والأنظمة العربية والإسلامية زادت حظوظ المجتمع في اكتساب مكانة تحت شمس العولمة. ملامح خطاب ما بعد الإسلام السياسي إذن نختزلها في هذين التوجهين: توجه نحو التفاوض مع قوى الخارج على حساب قوى الداخل؛ وتوجه آخر نحو تعزيز مكانة السلطة القائمة في التفاوض مع قوى الخارج، وبقدر ما تتجدد ملامح خطاب الإسلام السياسي من الداخل تحت ضغط الواقع وتسليم أصحاب هذا الخطاب بضرورة الانزياح البلاغي عن جملة من الثوابت، ترتسم هذه الملامح وتتشكل وفق محاور استقطاب جديدة، محاور تحددها استراتيجيات خارجية عالمية. + مع ابن عربي، كما نقرأ في نفس المبحث، نجد الحضارة الإسلامية تستوعب الآخر استيعاب مُحبّ، وعند ابن تيمية، ومن خلال استقراء لاميته التي يتحدث فيها عن أصول الاعتقاد والمذهب وغيره، نصطدم بروح انغلاق تعكس سياقا آخر يسود فيه الحرص على ترسيخ العقيدة والوجود العقدي للأمة. هل يمكن لانفتاح خطاب ابن عربي، نموذجا، أن يفسر لنا بعض أو أهم أسباب ولع العديد من الغربيين بالخطاب الصوفي، إلى درجة اعتناق بعضهم للإسلام؟ ++ بداية، أود الإشارة إلى أنني بالوقوف عند ابن عربي وابن تيمية لا أصدر عن محور الاستقطاب المعهود الذي يملي المفاضلة بينهما، بقدر ما أروم التنبيه على طبيعة السياق الذي أنتج كلا منهما، داعيا إلى الاستفادة من تجربتيهما، ومن تجارب أخرى كثيرة، انطلاقا من موقعنا نحن اليوم كذات حية لها أسئلة جديدة، تقتضي تركيب أجوبة جديدة. ففكر ابن تيمية وبلاغته يُجسّدان مرحلة من مراحل الحضارة الإسلامية، حيث كان الحرص على تثبيت الهوية العقدية للأمة مشروعا أمام تحديات الواقع ومداهمة القوى الخارجية. أما فكر ابن عربي فيعكس مرحلة من مراحل انفتاح الحضارة العربية الإسلامية وإقبالها على الآخر بروح انفتاح عالية. المقصود من وراء هذا الحديث هو لفت الانتباه إلى حقيقة مغيبة مؤداها أنه لا توجد حضارة يلازمها الانفتاح ملازمة جوهرية، وأخرى يلازمها الانغلاق ملازمة جوهرية. بل كل حضارة تعرف سياق انغلاق وسياق انفتاح تمليها موازين القوى والعلاقة مع المحيط الخارجي. ولا عجب في أن يجد الغربيون في خطاب ابن عربي، أو الخطاب الصوفي عموما، مَنفَذا للتمفصل مع الحضارة العربية والإسلامية ومدخلا للتعارف معها، حتى أن بعضهم كتب "إما أن يكون الإسلام روحيا/صوفيا أو لن يكون" (إيريك جوفروا). فهؤلاء يجدون في بلاغة التصوف ما به يؤلفون بين الانتماء الثقافي والحضاري للغرب من جهة، وبين الانتماء العقدي والروحي للإسلام من جهة أخرى. من الطبيعي جدا أن يرفض هؤلاء كل أنواع التوسع في بلاغة العقيدة التي تلغى معها تجاربهم الفنية والروحية والفلسفية التي كانت هي الأصل في التقائهم بالإسلام، ويلوذون ببلاغة الانزياح الصوفية التي تستوعب الكثير من التجارب المتناقضة تحت لواء الإسلام ورايته. حقيقة أن التوسع في بلاغة العقيدة يربط بين عقيدة التوحيد المقبولة والمرحب بها من طرف الكثير من الغربيين، وبين أشكال ثقافية غريبة ومرفوضة. لذلك فباللجوء إلى بلاغة التصوف يطلبون بلاغة تفصل بين عقيدة التوحيد وبين بعض الأشكال الثقافية المستصحبة من العالم الإسلامي. غير أنه، وبالمقابل، لا يخفى أن هناك قوى غربية نافذة في عالم السياسة والاستراتيجية، ومقربة من مراكز صنع القرار، قوى ترى في التصوف الحلقة الأضعف في الحضارة الإسلامية وبالتالي المدخل المناسب لإخضاع أبناء هذه الحضارة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا لنفوذ العولمة والسياسات الغربية. نشير هنا إلى برنارد لويس وكتابه عن الإسلام والحداثة، وكيف أن هذا المفكر يعلي من شأن التصوف على حساب السلفية لأغراض لا علاقة لها بتطلعات المتصوفة وتشوفاتهم...لا عجب أن يختار حراس عقائد الغرب السياسية والدينية الاشتغال على التصوف بغرض تحقيق التمفصل مع العالم العربي والإسلامي تمفصلا يضمن نشر قيم الغرب وتفوق منظومته الحضارية. إذا كان الغربيون يجدون في بلاغة التصوف ما يشجعهم على الاقتراب من الإسلام ومنظومته الروحية وتجاربه الثقافية والحضارية، فما عسانا نحن نجد في هذه البلاغة؟ بغض النظر عن تنوع التجارب الصوفية وتفاوت أصحابها من حيث الورع والصدق وإخلاص النية، يظل التصوف جزء من التراث والواقع الإسلامي لا سبيل إلى إقصائه. بعيدا عن السقوط في تنزيه التصوف وأصحابه، أو تبديعهم وتكفيرهم، نحتاج إلى روح نقدية جديدة تتوخى التقاط الأسئلة الجوهرية التي حاول المتصوفة الإجابة عنها، فالإفادة منها. ولعل أهم سؤال يواجه به المتصوف المنظومة الفقهية الإسلامية هو السؤال المتعلق بصيغ التوفيق بين "المغلق والمطلق"، بين الداخل والخارج. هذا سؤال يطرح في كل السياقات الحضارية، على اختلاف الحضارات. ولعل حظوظ الحضارات، ومنها الحضارة الإسلامية، في التوسع والاستمرار، تكبر وتصغر بحسب قدرتها على التقاط هذا السؤال ثم الإجابة عنه. إذا كان الفقهاء في المنظومة الحضارية الإسلامية هم فرسان المغلق، أو الداخل؛ فإن المتصوفة هم فرسان المطلق، أو الخارج. والحضارة الإسلامية تبلغ ذروتها حين يتم التواصل بين هؤلاء. إن التناغم بين الفقه والتصوف يعين العقل العربي الإسلامي في تحصيل أسباب وسبل الانفتاح، كما يدفع إمكان الوقوع في آفة الانحلال. أما من الناحية الإجتماعية والسياسية، فما أحوج المجتمعات العربية والإسلامية إلى خطاب يمزج بين الفقه والتصوف مزجا يخلق أجواء الانفراج، تفاديا لأسباب الانفجار. في واقع ا لأمر، إن سؤال التصوف، مثل سؤال المرأة والفن والأقليات، يضع المجتمعات العربية والمسلمة في زمن العولمة أمام خيارين لا ثالث معهما: إما الانفراج أو الانفجار. فأما التفريج فيأتي من الداخل، بفضل قوى ذكية وحكيمة؛ وأما التفجير فيأتي من الخارج، بفعل قوى متربصة. وعلينا نحن أن نختار. والمسؤولية هنا طبعا لا تقع على عاتق الشعب دون الحكام، ولا على عاتق الفرد دون الجماعة...إنها مسؤولية الجميع، مسؤولية حضارية مشتركة. + نقرأ للمفكر الجزائري محمد أركون في كتابه "قضايا في نقد العقل الديني"، أن "تجاوز التضاد بين الحضارات لم يتم عبر الدعوة إلى اتباع الروحانية والأخلاق، لأن المواعظ الأخلاقية لا تحل شيئا"، مضيفا أن "الأخلاق التقليدية عفا عليها الزمن ولم تعد قادرة على التأثير في الحياة الحديثة، بحكم مقتضيات الاتجاه اليوم، نحو فضاء جديد للمعرفة والتأويل والممارسة العملية". كيف تقرؤون هذا التقييم الأركوني؟ ++ يصح كلام أركون من وجه، وقد لا يصح من وجوه. ولعل القول بعدم قدرة الخطاب الأخلاقي على حلّ مشاكلنا في عالم اليوم، يجب ألا يكون مسوغا للدعوة إلى نبذ الأخلاق، أو طرح الدعوة إليها جانبا. حين نتحدث عن الأخلاق إنما نتحدث عن منطق النبوة القائم على أساسين اثنين: الأمل والشهود. فأما الأمل فمصدره الإيمان القوي في الممكن، في إمكان أن يحمل الغيب ما يغير سياق الأمور؛ وأما الشهود فمعناه أن أصحاب الدعوة الأخلاقية، على خلاف الفاعلين السياسيين، لا يطلبون الفعالية السياسية، بقدر ما ينبهون الناس إلى ضرورة الأخلاق لأجل تجنب ما قد تكسبه أيديهم من قوارع وتجنيه صناعتهم من كوارث. قد يُلتفَت إلى الخطاب الأخلاقي وقد لا يُلتَفت إليه! هذا الخطاب يضع الناس أمام مسؤولياتهم، وعليهم أن يختاروا. وأما ما يبشر به أركون من "فضاء جديد للمعرفة والتأويل والممارسة العملية"، فهذه أمور إذا لم تزد الطينة بلة وتُعجّل بنهاية الحضارة وكساد العمران، فهي لن تحدث تغييرا يذكر. فهل عند أركون وصفة عملية لحل المشاكل المستعصية في عالم البيئة والسياسة والعلاقات الدولية اليوم فيخرجها لنا! غاية ما يدعونا إليه هو الاستسلام لموازين القوى العالمية والرضوخ للنظام القائم تحت ذريعة الامتثال للأمر الواقع. والحقيقة أن الدعوة إلى الامتثال إلى الواقع دعوة لا تخلو من صواب متى ما جاءت مشفوعة بالدعوة إلى الأخلاق. وما المانع في أن نجمع اليوم بين "المعرفة والتأويل والممارسة العملية" وبين الدعوة إلى الأخلاق! مشاكل العالم اليوم لا تستدعي حلولا تقنية فقط، بل أكثر ما تستدعيه حلولا أخلاقية بالدرجة الأولى. فالإنسان كائن أخلاقي...قد تبلى أشكال الوعي وأنماط تمثل الأخلاق، ولكن لا تبلى الأخلاق. وقد نتفق مع أركون لو كان المقصود ب"الأخلاق التقليدية" الوعي التقليدي بسؤال الأخلاق. هناك ضرورة لتحديث سؤال الأخلاق على ضوء مستجدات الواقع الكوني. + تبنّيتم بشكل صريح، في كتاب "من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع الإسلامي والعربي"، خيار النقد المزدوج للعقل العربي الإسلامي والعقل الغربي في آن، وفي إطار النقد الموجه للعقل الأول، استشهدتم مثلا، بطبيعة التناول الإعلامي العربي لذكري مرور ثلاثين سنة على اندلاع ثورة 68، حيث استنتجتم أننا لا نملك الشجاعة الكافية لنتحول إلى دارسين لتاريخ الغرب ولحضارته. إذا انطلقنا من مُسلّمة مقتضيات "الزمن الأخلاقي الإسلامي"، بتعبير طه عبد الرحمن، والتي تفرض على المسلمين، تحمّل مسؤولياتهم الأخلاقية ولا نقول الفقهية أو العقدية أو المذهبية، حتى لا يؤاخذ علينا تبني خطاب الوصاية العقدية على الغير اتجاه التحديات الكونية التي يواجها الإنسان والمعممور. تأسيسا على هذه المُسلّمة إذن، منْ مِنَ المسلمين اليوم، يبقى مُؤهّلا أكثر لتولي هذه المهمة الأخلاقية والمعرفية في آن، إذا أخذنا بعين الاعتبار تواضع أداء فقهاء المؤسسات الدينية الرسمية (والحديث هذه الأيام عن "فتوى إرضاع الكبير")، وإصرار فقهاء الحركات الإسلامية على اختزال الإسلام في حركات وأحزاب الإسلامية، (إضافة إلى إشارتكم الصريحة بما يُشبه حتمية المرور نحو حقبة مرحلة ما بعد الإسلام السياسي)، وانخراط العديد من المفكرين والباحثين العرب والمسلمين، على الأقل وهذه جزئية هامة من وجهة نظرنا بالنسبة للمقيمين في الرقعة العربية، في تمرير خطاب "العمالة الحضارية" للغير، من طينة النخبة الفكرية العربية التي تراهن على الذوبان في تاريخ الغرب! ++ لماذا الطاووس لا يحسن الغناء، على الرغم من جمال صورته وريشه؟ عن هذا السؤال يجيب المثل العامي المغربي بأن السبب في قبح صوت هذا الطائر هو قبح رجليه. حين ينظر المسكين إلى رجليه ويقارن قبحهما بجمال ريشه، يشق عليه الأمر فيبدأ في العويل والصراخ، عوض الغناء مثل باقي الطيور. صرخة الطاووس ليست صرخة المزهو بنفسه، بقدر ما هي انتحاب اليائس من الطمع في تمام الجمال وكماله. ينطبق مثل الطاووس علينا، شرقا وغربا، مسلمين وغير مسلمين، عرب وغيرهم. فما أحوجنا إلى النظر إلى مواطن القبح فينا حتى لا نكون ضحية الانتشاء بالذات والزهو بالنفس. لا يخلو أحد من العيوب. لا الذات منزهة عن الخطأ ولا الآخر. من هنا يصح توجيه النقد إليهما معا. من العبث توجيه النقد للآخر بغرض تنزيه الذات، أو العكس. فحيثما وليت وجهك وجدت ما يستحق النقد. هناك خط رفيع يفصل بين النقد المتبصر والنقد المتهافت، سواء نقد الواقع الغربي أو نقد الواقع العربي الإسلامي. فالنقد لن يكون نقدا بناء إلا إذا انبنى على معرفة بموضوع النقد. ومن الواضح أن الكثير من النقد عندنا ينبني على جهل، وتدفع أصحابه الرغبة في احتلال المواقع. صحيح أن الخطاب الأخلاقي لا يُجَسّده حزب أو جماعة أو جهة معينة. دعاة الأخلاق يعتبرون أنفسهم مجرد إصبع يشير إلى حقيقة متعالية، كلما برزت هذه الحقيقة وتجلت في الأذهان اختفوا عن الأنظار. وهؤلاء موجودون في كل أرجاء العالم، في كل الأحياز الثقافية والحضارية. قد يكون من المبالغة ربط البطولة الأخلاقية بالمسلمين. من ينظر إلى واقعنا يجد أننا لا نقدم نموذجا أخلاقيا متماسكا. بل قد نكون أبعد من غيرنا، متدينين وغير متدينين، امتثالا للأخلاق التي نُبشّر بها في حياتنا وسلوكنا. وصحيح أيضا أن الغرب لم يعد يقدم نموذجا للأخلاق. لذلك فالمطلوب هو تحقيق قدر من التوافق الأخلاقي حول مجموعة من السلوكيات والأفعال بغرض تحديد وجهة لخلاص العالم؛ لم يعد المطلوب هو الإثبات النظري أو الإفحام العقلي بجدوى وأحقية "الأخلاق الإسلامية"، أو "الأخلاق المسيحية" أو "الأخلاق العلمانية". الأمر أثقل من أن ينهض به أتباع ملة واحدة، أو شعب واحد، أو جهة واحدة. والحق أن أكثر أنواع النقد الأخلاقي عندنا نفاذا وعمقا، هي أكثرها اطلاعا على الفكر الغربي وتتبعا للنقد الغربي ذاته للحضارة. لا يمكننا نقد الواقع الحضاري الحالي نقدا أخلاقيا دون تحصيل وعي شامل بالواقع الحديث، والغرب كما لا يخفى أكثر التصاقا بهذا الواقع، صنعا وتأثيرا وتحويرا ونقدا. أما بخصوص معظلة الفتاوى، فهذا موضوع آخر. ظني أن أهمية الفقه لا تكمن في صياغة الفتوى فحسب، بل الأهم هو تأطير السؤال. نحن في حاجة ماسة إلى ذهنية فقهية تحدد مجالات الاسئلة بحسب السياق. كثيرا ما أفاجأ هنا في أوربا بأسئلة غريبة أظن أن السبب وراء طرحها هو الذهنية الفقهية الموجودة. أليس غريبا أن يسأل بعض الشباب في أوربا "هل يجوز إفشاء السلام أو مد اليد إلى الجار غير المسلم؟" هذا سؤال مستورد من بيئة آخرى، من فضاء ثقافي ومكان حضاري بعيدين، ولربما قد يجده طارحوه في كتب قديمة مرتبطة بسياق آخر، أو يصدرون في طرحه عن تصورات تحكمها روح التشنج في العلاقة بين الذات والآخر... لو بقي الإنسان على فطرته، لما طرح هذا السؤال إطلاقا. فهذا السؤال يبدو سؤالا خارج الزمن وخارج المكان، وبعيدا عن المنطق العقلي السليم. حتى والفقيه يفتي بجواز إفشاء السلام على الجار غير المسلم، يكون في الجواب مضيعة للوقت والجهد، وظهور بمظهر غير لائق بالمسلم. فمشكلتنا ليست في طبيعة الفتاوى الغريبة التي تصدر هنا وهناك، بقدر ما هي مشكلة عجز عن تأطير العقل المسلم وترقيته إلى درجة يحسن معها طرح السؤال واختياره. وظني أنه لن يتأتى لنا هذا الأمر حتى نرفع جاهزية المسلم الثقافية ونمكنه من التواصل مع العالم الحديث المحيط به ونرسخ وعيه بحيثيات السياق التاريخي الراهن. + يصعب فصل صعود أسهم الأحزاب اليمينية في العديد من الدول الأوروبية، كما تزكي ذلك نتائج بعض الانتخابات التشريعية، وبين النقاش الأوروبي الدائر حول موضوع النقاب. ما هي قراءة حاجي المفكر للحدثين معا، وهل ثمة تقاطع بينهما بالفعل أم أنهما يندرجان في سياقات مختلفة، من قبيل أن صعود أسهم أحزاب اليمين، قد يُفسر مثلا، ضمن أسباب أخرى، بتبعات الأزمة الاقتصادية التي تمر منها القارة الأوروبية، في حين أن أزمة النقاب تهم العقل الإسلامي المعاصر؟ ++ هناك شعور قوي يراود الإنسان المتردد على أوربا أو المقيم في إحدى دولها، وهو شعور بأن القارة تشيخ وتهرم بوتيرة لا تخطئها العين الفاحصة. إن المتتبع للنقاش الفكري والجدل السياسي الدائرين بين النخب الأوربية يحس بانقطاع الأسباب بين أوربا والأفكار الكبرى من قبيل تلك الأفكار التي عرفتها القارة في القرن التاسع عشر والتي كانت المحفز الرئيس على الإبداع. لا عجب وأوربا على هذه الحال أن تنحو منحى الانطواء والتقوقع حول الذات وبالتالي النزوع سياسيا نحو التطرف. هناك قوى محافظة تعيد طرح سؤال الهوية داخل القارة العجوز بغرض التراجع عن التعدد الثقافي بحثا عن سبل التحصن والدفاع عن الثوابت التي يقال أنها أصبحت مهددة. ولقد وجدت هذه القوى في أحداث الحادي عشر من سبتمبر وفي مقولة "خطر الأسلمة" ما يسوغ هذا النكوص إلى الخلف. في هذا السياق، أي سياق الحديث الإعلامي المستفيض عن مخاطر الحضور الإسلامي الدائم على مستقبل أوربا وقيمها، يجد صناع القرار السياسي أنفسهم مجبرين على طمأنة الرأي العام، ووسيلتهم إلى ذلك هو اللجوء إلى التشريع. إن التشريعات المتعلقة بالنقاب والمآذن هي في عمقها رسالة المقصود منها بعث رسائل باتجاه المجتمع مفادها أن أوربا لا تزال قادرة على سن القوانين لاحتواء الحضور الإسلامي والتحكم في زمام الأمور. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، للقوانين المتعلقة بالظواهر الإسلامية علاقة بواقع الهجرة وبتحول الوعي بخصوص هذا الواقع. في البداية لم يكن من الضروري سن القوانين بغرض تنظيم العلاقة بين الدولة والمسجد، أو بين المجتمعات الأوربية العلمانية الحديثة والجاليات الإسلامية المتدينة، على اعتبار أن حضور المسلمين كان حضورا مارا، لا حضورا قارا. أما الآن وقد استيقن الجميع بأن المسلمين باقون، فقد ظهرت الحاجة إلى سن القوانين كوسيلة من وسائل إدماجهم وتسهيل انخراطهم في سياق المجتمعات العلمانية وتاريخها. تتفاوت جملة القوانين الجديدة من حيث الأهمية والقيمة والوقع على الرأي العام والقدرة على إدماج المسلمين. ومن هذه القوانين ما يفصح عن قلق حقيقي موضوعي وينم عن حاجة المجتمعات الأوربية لتنظيم علاقتهم بالجاليات المسلمة. من المفهوم أن تسن ألمانيا قوانين تشترط تعلم اللغة الألمانية على طالب الجنسية. بالرغم من كل أنواع الاعتراض التي يمكن أن تساق، تبقى مثل هذه القوانين مفهومة وتأتي تعبيرا عن حرص مبرر على رفع جاهزية الأقليات اللغوية بغرض ضمان اندماجها. لكن وبالمقابل، يعجز العقل عن إدراك طبيعة الروح الكامنة وراء قانون حظر المآذن أو تغريم النقاب. والراجح هو أنها قوانين تفصح، في أحسن الحالات، عن وضع نفسي يحكمه الخوف والتوجس من حضور الآخر؛ وفي أسوء الأحوال تكون تعبيرا عن مزايدات الغرض منها مغازلة الرأي العام واستمالة الناخبين وتعبئتهم حول أكثر القضايا مثارا للجدل، ألا وهي قضايا الإسلام والمسلمين. ما أحوجنا نحن، والحالة هذه، إلى الفصل بين القوانين المعقولة التي تهدف إلى إدماج الإسلام والمسلمين في الإطار العلماني حيث تنتظم الديانات المختلفة وتتعايش الأجناس المتنوعة؛ وبين القوانين المجحفة التي تجلب المضرة أكثر مما تجلب المصلحة، وتثير العواطف وتهيج المشاعر، أكثر مما تساهم في تلطيف الأجواء وتهييء المناخ أمام التعايش. في هذا السياق، إذا جاز للمسلمين المطالبة بقوانين تكون ضامنة لحقهم في التدين وممارسة طقوسهم والتمسك بمعتقداتهم، فإنه لا يجوز لهم المطالبة بحقوق قد تتطلب مراجعة ثوابت المجتمعات الأوربية وإعادة ترتيب العلاقة بين السلط المتعايشة داخل هذه المجتمعات، خصوصا العلاقة بين سلطة الديني وسلطة السياسي. على المسلمين، من جانبهم، أن يعووا طبيعة السياق الأوربي الذي شهد تراجع الشأن الديني عن احتلال أماكن الصدارة في الفضاءات العامة. وتبعا لهذا الوعي يمكنهم التمييز بين ما يمكن المطالبة به وما لا يمكن المطالبة به. باختصار هناك خيط رفيع يفصل بين القوانين التي تأتي استجابة لطبيعة المرحلة التاريخية وحاجات المجتمعات الأوربية إلى تنظيم العلاقة بينهم وبين الجاليات المسلمة؛ وبين القوانين المجحفة في حق المسلمين، القوانين التي إن لم تُشهِّر بالمسلمين وتحشرهم في ركن الكائنات الغريبة، فهي لا تنفع المجتمع في شيء. وبطبيعة الحال، بغض النظر عن جدوى القوانين المتعلقة بارتداء النقاب ومدى تهافتها، تطرح علينا ظاهرة النقاب، نحن المسلمين، أكثر من سؤال. العقل الإسلامي والذهنية الفقهية مستحثان للإجابة على أسئلة شائكة تستدعي مراجعة المنظومة الفقهية الموروثة بغرض التمييز بين ما هو من جوهر الدين وما هو خلاف ذلك. إن جملة الأجوبة الفقهية المتداولة بين الناس بخصوص المرأة وصوتها ومظهرها وعلاقتها مع محيطها... تعكس ذهنية فقهية تبقى أميل إلى الإفراط في التحوط منها إلى شيء آخر. وقد نحتاج إلى ذهنية تصوب الميل الحاصل وتعدّله... + كيف نفسر انخراط العديد من الأقلام العربية والإسلامية، من مختلف التوجهات الإيديولوجية، في شن حملات إعلامية شبه عدائية ضد الدول الأوروبية التي صوتت على قوانين تحظر ارتداء النقاب، في حين أن أغلب المراجع الفقيهة الوازنة في المجال التداولي الإسلامي العربي، ليست مع ارتداء النقاب، كما جاء مثلا، على لسان الشيخ يوسف القرضاوي. هل هي أزمة اجتهادات فقهية معاصرة أو أزمة "ازدواجية المواقف" لدى العقل الإسلامي المعاصر؟ ++ أظن أن هناك إحساسا بالغبن، مبررا إلى حد ما، وراء انخراط هذه الأقلام في مسلسل شجب الدول الأوربية التي صوتت على قوانين النقاب. الأمر لا يتعلق بالقضية الفقهية أو بالفتوى؛ حتى وإن كان الجدل الفقهي شبه محسوم هنا في أوربا لصالح الرأي المُستحسِن لعدم ارتداء النقاب، يظل هذا الرأي غير ملزم للنساء اللواتي يبدين إصرارا على ارتدائه، وهن أقلية صغيرة جدا، مقارنة مع السواد الأعظم. هناك نساء يجدن من أنفسهن نزوعا لارتداء النقاب، ولسن في حاجة إلى فتوى تبرر لهن القيام بذلك، إذ ما أكثر الفتاوى الأخرى، خارج الحيز الأوربي، التي تعتبر النقاب جزء من عقيدة المسلمة وما أشبه ذلك. المشكلة ليست في الفتوى وبالاعتدال وصوت الحكمة أو ما شابه ذلك، بقدر ما هي في تهافت المشرع الأوربي وإسراعه باتجاه سن قوانين تستهدف المسلمين، في حين كان يسعه معالجة الموضوع معالجة فيها نوع من الحكمة والتروي. يشعر المرء المتتبع للجدل القائم بخصوص هذه القضية وكأن النخبة النافذة في أوربا تضع السيف موضع الندى. إن ما يسوء في قضية النقاب ليس القانون، وإنما الرسالة التي وراء سن هذا القانون. كما لو لسان حال المشرع الأوربي يُصرح بأن صدر أوربا لم يعد يتسع لجميع أشكال التدين الإسلامي، مهما كان حجمها صغيرا. ولعل متسائلا يتساءل هل استنفذ المجتمع جميع أساليب المرافقة وطرائق الاستيعاب لظاهرة النقاب كي يلجأ إلى التشريع! + تنتهي روايتك الأخيرة "عبد الرحمن والبحر"، برؤى تفاؤلية، في عمل إبداعي مليء بالتساؤلات والرموز والأسئلة المعلقة، ويعرف تشابكا بين عوامل الذات والغير (الآخر)، ومقتضيات علاقتنا بأسئلة الحداثة، دون الحديث عن قلاقل تشابك إنسانية المسلم (والعربي) مع إنسانية الغربي، أو دلالات استلهام والإحالة على عبد الرحمن المجذوب وابن خلدون ونيتشه من خلال شخصية زارادشت وحي بن يقظان..؟ هل نحن إزاء عمل روائي صرف، أم إزاء عمل فلسفي تحت غطاء روائي على غرار رائعة "عالم صوفي"، للروائي النرويجي جوستن غاردر، وإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نرجحه، فلماذا هذه الانعطافة على عمل روائي، عوض الاقتصار على تحرير متن فلسفي أو فكري صريح؟ ++ رواية "عبد الرحمن والبحر" هي محاولة لمد الجسور ما بين الذات و"آخَرِها"، محاولة لتعيين سبل الخروج الصحيح من عالم الصمت إلى عالم الصوت، ومن مغارة التعبد نحو شطآن العشق، من التراث إلى الحداثة... الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر والمهالك، وأسباب التشاؤم أقوى من أسباب التفاؤل. غير أن الأحداث تتناهي بعبد الرحمن إلى ضفاف الأمل، فيعيش على الأمل في أن يجد في مقبل أيامه ما يسعفه في التوليف بين متناقضات الروح والجمع بين أطرافها الموزعة بين ميولات وأهواء متنافرة. البعد الصوفي حاضر بقوة في الرواية. فعبد الرحمن ينتقل من مقام إلى آخر، ومن حال إلى حال. تتقلب به الأيام من وضع إلى وضع، من مكان إلى مكان، من لقاء أناس إلى لقاء أناس آخرين؛ ولعل هذا التقلب ذاته هو أهم عنصر من عناصر صنع الحبكة الدرامية ونسج خيوط الرواية. ولعله لا مجال لإخفاء مظاهر التأثر بشخصية عبد الرحمن المجذوب وزرادشت وحي بن يقظان وغيرها من الشخصيات التي تحسب على ضرب من ضروب التصوف بمعناه العام. ولعل السر في لجوئي إلى الرواية، عوضا عن الاكتفاء بالمتن الفكري أو الفلسفي الصريح، هو شعور بوجود رسائل لا ينقلها إلا القالب الفني، الروائي والشاعري. باللجوء إلى الحجج والبراهين وأنواع الاستدلال المختلفة إنما يخاطب الإنسان عقل القارئ ويتوخى بلوغ النتائج المفحمة لهذا العقل. أما باللجوء إلى القالب الفني، خصوصا ما تعلق منه بفنون الكلمة، فالكاتب يخاطب مخيلة القارئ وينفذ إلى أعماق من الروح فيحرك ساكنها ويسكن متحركها. وجدت في القالب الروائي ما يوسع حيز البيان، ومع التوسع في البيان تزيد إنسانية الإنسان سعة، ذلك أن ما يميز هذا الإنسان عن سائر المخلوقات هو كونه كائنا بيانيا. يفهم العالم ويعبر عنه بواسطة الكلمة وأشكالها وفنونها، ومنها فن الرواية.