تخليدا لذكرى رحيل بيير بورديو، والتي تصادف الذكرى العاشرة لوفاته، أصدرتْ دار سويْ للنشر مجموع المحاضرات التي سبق لبورديو أن ألقاها، فيما بين 1989 و1992 بالكوليج دو فرانس، والتي كان قد خصّصها للحديث عن مفهوم الدولة وتشكّلها. غير أنّ اللجنة المشرفة على نشر الكتاب الضخم، الذي يقع في 660 صفحة، بقيادة عالم الاجتماع لويْكْ فاكُنْ، لم تقتصر على ما ألقاه بورديو أمام جمهور متعدد ومتنوع، بقدر ما أضافتْ إليه مناقشاته وردوده وكتابات تتصل بموضوع الدولة. هذا الكتاب ليس فقط بحثا في وضع أسس لسوسيولوجيا الدولة، بلْ إنه علاوة على ذلك وثيقة أساسية لرصد المسار الفكري لباحث عملاق مثل بورديو. وهو فكْر يجمع بشكل نادر ما بيْن التفكير النظري وتحليل حالات ومعطيات واقعية وحياتية. كما أن الكتاب ينطوي على حسّ نقدي كبير وصارم لبيير بورديو مع سابقيه ومعاصريه من الكبار(ماركس، فيبر، إلياس، دوركايم، صايْرْ، تييّي، أندرسون، كوريغان). إنه فكْر دائم التفكير في ذاته، ومن ثمّ ذلك الأسلوب الصارم عبر صفحات الكتاب، ليس في لغته فحسب، ذات الجملة البّْروسْتية الطويلة والمركّبة، وإنما كذلك في قلقه وحدّته وانشغاله المتواصل بالمساءلة الثقافية والفكرية والاجتماعية، بقدر حرصه على الصرامة العلمية. خلال هذه السنوات الثلاث، كان بورديو يحترس من الأفكار المستوردة ومن السوسيولوجيا العفوية. لذلك كان يفضل الحديث ليس عن «الدولة» بإطلاق، وإنما عن «حقل السلطة» و»الإيديولوجية المهيمنة». والسبب يعود في الحقيقة إلى أنه لم يكن منشغلا ببناء ما يمكن تسميته «نظرية للدولة»، بقدر ما كان هاجسه هو «توفير أدوات عمل» للتمكن من رصد كيفية تشكّل الدولة الحديثة. ومع ذلك فقد كانَ بورديو واعيا بأنّ تحليل الشروط الاجتماعية للهيْمنة لا يستبعد إقامة سوسيولوجية للدولة. لكنها ليستْ سوسيولوجيا ناتجة عن الدولة. ورغم أنّ كلمة «الدولة» لم تظهر بشكل نسقي ومنهجيّ عند بورديو إلا في بداية الثمانينيات، في درسه الافتتاحي بالكوليج دو فرانسْ، إلا أنه كان قد انكبّ، منذ أواسط الستينيات، على دراسة مفاهيم وقضايا تتصل بآلية اشْتغال الدّولة. من هذه المفاهيم : «الإيديولوجيا المُهيْمنة»، «التمثّل السياسي»، فعّالية الفعل السياسي»، علوم الحكم»، «استراتيجيات إعادة الإنتاج وصيغ الهيْمنة»، «حقل السلطة» الخ. لم يكن خلال هذه الفترة يستعمل لفظة «دولة» إلا في دلالتها الاعتيادية كالحديث عن «الدّولة-الراعية» أو «الدولة-الأمة» بدون تحليل نقدي لها. غير أنه في هذا الكتاب بات يستعمل مفهوم «الدولة» للإشارة إلى المؤسسات والفاعلين الاجتماعيين الذين هم في الوقت ذاته منتجون للدولة ومنتوجات لها. ومن ثمّ فإنّ مفهوم «الدولة» يحيل هنا على النظام البيروقراطي وعلى مفاهيم «الخدمة العمومية» و«الممتلكات العمومية» و«المصلحة العمومية»، والتي تعود كلّها إلى علم الدولة وروحها وسحرها. إن تركيز بورديو على مفهوم «الدولة» لا يعود إلى تعدّد مداخلاته في عالم السياسة، بقدرما يعود إلى الأعمال التي أنجزها حول تشكّل الحقول وبنياتها، اللذيْن درسهما على التوالي في أفق نظرية عامة للفضاء الاجتماعي. وإذا كان مفهوم الحقل ينسحب على الأدب والفن والجامعة والثقافة والدين والقانون والبيروقراطية، فإنّ الشيء نفسه يصدق على حقل مؤسسات الدولة. غير أنّ الدولة حقل يشغل موقعا خاصا، بلْ إنها هي «الحقل بامتياز»، أو بحسب تعبير بورديو هي «ميتا-حقْل». إنها حقل تكُون رهانات الصّراعات داخله هي تحديد الموقع الذي ينبغي لمختلف الحقول (الحقل الاقتصادي، الثقافي، الفني الخ) أنْ تلعبه من الناحية الشرعية إزاء بعضها البعض. لذلك يدعو إلى مقاربة الدولة باعتبارها «حقلا للمؤسسات العمومية» و»قطاعا لحقل السلطة». وبغية بلورة نموذج تكوينيّ للدولة، استند بورديو على العديد من الأعمال، مع علماء اجتماع ومؤرخين، وعلى كتّاب لا يحملهم المؤرخون على محمل الجدّ، والذين تكمن أهمّيتهم في طرح أسئلة لا يطرحها المؤرخون أنفسهم. ومن ثمّ، فإنه ينطلق من التحديد الذي يقدّمه ماكس فيبر عن الدولة باعتبارها محتكرا للعنف الجسدي الشرعي، غير أنه يوسعه ليشمل الفعل الرمزي برمّته. ذلك أنه عندما نتحدث عن الدولة، لا ينبغي في نظره اختزالها في عنف مادي أحادي الاتجاه، منها ومن أجهزتها، باعتبارها مُهيمنا، إلى أفراد المجتمع، باعتبارهمْ مُهيْمَنا عليهم. لذلك يعطي العنف الرمزي، الذي سأعود إليه في فقرة قادمة، معنى الضغط والقسر والتأثير الذي تمارسه الدولة على الأفراد والجماعات بالتواطؤ معهم. ويبرز هذا المعنى على نحو جليٍّ في التعليم الذي يمارسه النظام المدرسي من حيث الاعتقاد ببديهيات النظام السياسي، أو من حيث إدخال علاقة السلطة إلى النفوس كعلاقة طبيعية من وجهة نظر المهيمنين. وهو يعتبر رفض الاعتراف بممارسة العنف الرمزي محاولة للاستمرار في ممارسته. بتعبير آخر، يتجسد العنف الرمزي في البنيات الموضوعية (من خلال القوانين التي تحفظ سلطة المهيمنين) وفي البنيات العقلية «الذاتية» (من خلال مقولات الإدراك والتقدير التي تعترف بالهيمنة أو القوانين المفروضة). ويرى بورديو أن الدولة ليست مفهوماً مقدساً أو جوهراً قائماً بذاته، بقدر ما هي مفهوم ذو بعد اجتماعي. والاعتقاد بشرعية الهيمنة ليس فعلاً حراً وواعياً، كما كان يعتقد ماكْسْ فيبر، وإنما يعود إلى توافق مباشر بين البنيات المستضْمرة التي أصبحت لاواعية وبين البنيات الموضوعية. وخلافا للتقليد الماركسي، الذي يختزل الدولة في بنية فوْقية، فإن بورديو، طيلة صفحات هذا الكتاب، يبيّن كيف أنّ الدولة تؤسس وتقيم النظام الاجتماعي عبْر ترسيخ وتثبيت مقولات الفكر التي تضفي عليْها الشرعية. في هذا السياق يستند بورديو على ما سبق لدافيد هيوم أنْ قاله عن علاقة الحاكمين بالمحكومين، في مقالته حول «مبادئ الحكم»، المنشورة سنة 1758، والتي يبرز فيها هْيوم أنه ليس ثمة ما هو أكثر مدعاة إلى الدّهْشة من الانتباه إلى السهولة التي يجد فيها العدد الكبير من الناس محْكوما من طرف العدد القليل، وكذا ملاحظة الخُضوع الضّمْني الذي بواسطته يلغي فيه الناس في عواطفهم الذاتية وأهوائهم لفائدة عواطف وأهواء قادتهم. ومن ثمّ، فإنّ القدرة على الحكْم لا تتّصل بالقوّة، والتي توجد بجانب المحكومين. بناء على هذا التصوّر يبيّن بورديو أنّ «مسألة التديّن ومسألة الخضوع هما وجهان لعملة واحدة». إنّ خضوع المهيْمَن عليهم للمهيْمنين ليس مردّه للإكراه ولا للتوافق الحرّ، وإنّما يستند إلى مقولات التفكير التي يقتسمانها معها. وما كان هْيوم يسمّيه «الرّأي العام»، نظّر له بورديو من خلال مفهوم «العنف الرّمزي». ما يقصد بورديو بالعنف؟ وما سبب الحديث عنه؟ السبب هو أنّ استضمار Interiorisation مقولات التفكير، وأنساق التصنيف، أيْ استضمار مقولات معرفية تحدد وتعيّن لكلّ واحد مرتبته داخل التراتبية الاجتماعية، يستتبع التنكّر لأصلهم الاجتماعي، أي لطبيعتهم. من هنا يبدو النظام الاجتماعي كأنه مسألة بَدَهيّة. وإذا كان مفهوم «العنف الرمزي» يلتقي مع المفهوميْن الماركسييْن: «الأسطرة» و»الاستلاب»، فإنه يختلف عنهما من حيث إنّ الوعي لا يكفي إلغاء التراتبيات التي تأسستْ وتلاحمتْ عبر مسار طويل من الترسيخات والشحن هو الذي عمل على تشكيل وبنْينة «الهابيتوس»، الذي هو نسق من الاستعدادات المستمرة والقابلة للتحويل والنقل، بنى مبنية مستعدة للاشتغال بصفتها مبادئ مولدة ومنظمة لممارسات وتمثلات». فالهابيتوس في دلالته وصيغته النهائية هو المجتمع وقد استقل في الجسم عن طريق سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض، فالمجتمع هنا بكل قيمه وأخلاقياته، بكل محددات السلوك والتفكير والاختيار. إنه ذلك التاريخ الذي يسكن الأشخاص في صورة نظام قار للمؤهلات والمواقف. والحال أنّ الدولة تلعب دورا مركزيّا سواء في إنتاج هذه البنيات المعرفية، أو في عملية ترسيخها وتثبيتها عبْر النظام المدرسي. من هنا يسمح تحليل آليات الهيمنة لبورديو باستكمال وتطوير مفهوم الدولة كما سبق وحدّده ماكسْ فيبر. فالدولة مع بورديو لا تتحدد فقط من خلال احتكارها للعنف الرمزي، بقدر ما تتحدد كذلك من خلال احتكارها للعنف الرمزي الشرعي، الذي يُعتبر كافيا على كلّ حال، من حيث أنّ العنف الرمزي يضفي الشرعية على العنف الجسدي: فباسْم « نقاء العرْق» لجأ النازيون إلى الإبادات الجماعية، وباسم «القومية» شنّت الولاياتالمتحدةالأمريكية حروبا قاتلة، وباسم «المواطَنة» يُقاد المهاجرون إلى الحدود الترابية. إنّ الدولة، في نظر بورديو، هي مكان إنتاج «الهوّيّات المشروعة» التي تعمل على تبرير إجراءات القبول والإدماج أو الإبعاد والإقصاء. الدولة هي مكان صنْع « ما هو شعبي» و «ما هو رسْميّ». من ثم فإنها تحتكر بما هو كوْني: إنّ لها القدرة على تعميم_تدويل بعض الممارسات أو الخصائص على حساب أخرى تعمل على جعلها خصوصية، كطريقة النطق في الضواحي قياسا إلى النخبة الباريسية، والعلاقة بين الثقافات الشعبية والثقافة الشرعية التي يراقبها ويعاقبها النظام المدرسي، أو الخصائص والنعوت النسائية مقارنة مع النعوت الذكورية. بهذه الطريقة تنتج الدولة تصنيفات وتراتبيات يستضمرها الأفراد تحت وصايتها، بمن فيهم أولئك الذين يتمرّدون ضدّها. لهذا السبب تثير النقاشات حوْل الإصلاحات، بما في ذلك الإصلاحات الرمزية كتلك المتعلّقة بالإملاء، مثل هذه الأهواء_العواطف. وهذا ما يقود بورديو إلى تحديد الدولة باعتبارها « وجهة النظر الهندسية التي تصدر عنها جميع المنظورات»، والتي كان واحد مثل لايْبنيزْ يسندها إلى الإله، وهي وجهة نظر تفرض نفسها على الآخرين لأن كل شيء يعود إليها وبالقياس إليها. غير أنّ الدولة، بالنسبة لبورديو، ليْستْ تجريدا فوقيا غير مرئيّ. فخلافا للميْل إلى تشييء هذا الكيان، فإنّه يدعو إلى سوسيولوجيا للمؤسسات والأفراد الذين يشكّلون الدولة ( كيف يتمّ تعيين الخبراء الذين يشكّلون اللجان العمومية)، والنزاعات التي تقوم فيما بينهم ( بين اليد اليسرى للدولة ويدها اليمنى، أو بين المهن التي ترغب في تأكيد كفاءاتها في ميدان ما) والتي تجعلها النقاشات والجدالات حول مختلف الإصلاحات بادية للعيان. فمثل هذه المقاربة هي التي تعمل على حلّ هذه المفارقة، مفارقة الدولة بصفتها هيئة، تمارس، من جهة الإقصاء والإكراه والمراقبة، كما تقدّم، من جهة أخرى، الرعاية والمساعدة والحدبَ. لذلك، فإنّ المقاربة السوسيولوجية لبيير بورديو ذات طابع تاريخيّ: لأنّ لحظات تكوُّن مؤسسات الدولة توفّر، في حقيقة الأمْر، أرضيّة خصبة لملاحظة كيْف تسْمح بالتعرّف على حالة سابقة على تسْنين وتقنين ما هو رسميّ وكوْني، حيث تجري الصراعات بيْن المجموعات الاجتماعية للحسْم في ما يستحقّ أنْ يدخل إلى الكونيّ. وفي سياق تحليله لتشكّل الخطاب العمومي، يبرز بورديو الذي يلعبه فقهاء القانون juristes ، وبخاصّة الأجيال الأولى من فقهاء القانون الذين لمْ يكونوا قدْ استمدّوا مشروعيتهم بعدُ من الدولة، مثل النّبيّ المشرّع_القانوني الذي تستند مشروعيته الكاريزمية على إضفاء الطابع الشعري على خطابه. وبدون هذا الطابع الشعري سيجازف في أيّة لحظة بعدم تصديقه واعتباره «مجنونا»؛ أو مثل فقهاء القانون-الشعراء الذين كانوا في وضعية النبيْ المشرّع أمثال رجال القانون الإنجليز في القرن الثاني عشر الذين كانوا أوّلَ من أنتج نظرية للدّولة. إنّ ما يُستخلصُ من دراسة هؤلاء الأنبياء المشرّعين، في نظر بورديو، وهو الأمْر الذي يصدق، بمعنى من المعاني، على الحالات اللاحقة، هو أنه « من أجْل أنْ تعمل النبوّة القانونية على نحو جيّد، يتعيّن أنْ تكون تضفي الشرعية بصفة ذاتية». ينبغي على سوسيولوجيا الدولة كذلك أنْ تهتمّ بالشؤون اليومية الاعتيادية، كاقتناء المنازل على سبيل المثال، وهي شؤون تستعمل إجراءات ومقولات وأوصاف تنتمي إلى الدولة، كما نكتشف ذلك من الملاحظة البسيطة للعملية التجارية التي تتمّ فيما بين بائع ومُشترٍ يأتي بأحلام ولكنه يعود بواقع. بيْد أنه من أجْل فهْم أحلام هذا المشتري، ينبغي فهم كيْف أنّ اقتناء المنزل، أي الرغبة في ملكيته، أصبح حُلما، وكيف أخذ هذا الحُلم شكلا مع الإقبال المتزايد والقويّ على اقتناء المنازل. لذلك يهتم بورديو، عبر صفحات الكتاب، أساسا بكل أشكال الهيمنة، والتي تبين بأن الدولة لا تُختزل في كونها جهازا للسلطة في صالح المهيمنين، ولا في كونها مكانا محايدا لامتصاص الصراعات. إنها تشكّل، بعبارة واحدة، شكل الاعتقاد الجماعي الذي يعمل على بنْينة مجموع الحياة الاجتماعية داخل المجتمعات المتمايزة بشكل قويّ.