علمتنا السوسيولوجيا أن السمات الأساسية للدولة هي أن تمارس السيادة فتكون القوة القاهرة لتنفيذ القانون في المجتمع من خلال أدوات متنوعة. ومع «ماكس فيبر» و«بيير بورديو» وقفنا على حقيقة هذه الأدوات وأهمها «العنف الشرعي». فالدولة تحتكر العنف بنوعيه المادي والرمزي، من أجل إقرار القانون وبسط الهيمنة على المواطنين، الذين أصبحوا بهذا المعنى خارج المفهوم التقليدي للدولة باعتبارها «مجموعة من المواطنين تضمها حدود». لكن إلى أي حد مازالت هذه التعريفات النظرية صالحة في ظل التحولات التي عرفها العالم؟ نقطة الانطلاق لهذا التحليل هو سقوط أنظمة في العالم العربي وبداية تداول «السلطة» التي تعتبر بدورها سمة أساسية من سمات الدولة. الملاحظ أن العنف الذي كان أداة مركزية في تعريف الدولة قد تحول من يد لأخرى، انتقل من يد الدولة إلى يد المجتمع. الدليل على ذلك وقائع كثيرة دفعت الدولة بعد انهيار أنظمة عربية إلى التريث في فرض القانون بالقوة خاصة على مستوى فوضى الباعة المتجولين، وكذا المسيرات والاحتجاجات غير المرخص لها، والهدف من ذلك هو عدم الوصول إلى نقطة الاحتقان. مقابل هذا التراجع كان هناك تقدم على مستوى أشكال العنف التي ارتبطت بالمطالب الاجتماعية والمادية وهو عنف وجه في بعض الأحيان إلى رموز الدولة كما وقع في تازة مؤخرا عندما تم إحراق سيارات الأمن أو من خلال اقتحام المؤسسات (جماعات، وزارات...) أو ضد الممتلكات العمومية والخاصة كما يقع في الملاعب من تخريب يعقبه الاعتداء على واجهات المحلات والسيارات، لكن هذا العنف يتم أيضا توجيهه ضد الذات المحتجة وهي الصيغة الجديدة للاحتجاج التي باتت العديد من الفئات الاجتماعية تهدد بها أي إحراق الذات بعدما برهنت على فعاليتها في إسقاط النظام التونسي. هذا العنف المعلن عنه وإن كان يختلف عن عنف الدولة «الشرعي» فإنه تعبير عن مطالب ملحة يجب تلبيتها لم تعد موجهة إلى الادارة المعنية بها ولكنها رسالة «إكسبريس» إلى الدولة باعتبارها المهيمنة على كافة المؤسسات والادارات، وجميع أنواع هذا العنف يجد تبريره في العبارة التالية: «الدولة خايفة من الصداع»، وبالتالي فإن المخزن الذي كان يخيف عندما شبه طوماس هوبز الدولة ب«التنين» بات اليوم يخاف من تكرار سيناريو «البوعزيزي» الذي أسقط النظام. نقطة التحول الكبرى هي عندما يجد هذا العنف مشروعيته في الدين الذي كان دائما ضد «قتل النفس»، فيتحول المنتحر إلى «شهيد»، ولتبدأ عملية استغلال كبرى للبؤس الاجتماعي!