عناصر أولية تمهيدية ثمة علاقة جدلية بين الفكر الغربي الحديث ، كفعل تنظيري بجميع ألوانه و تياراته ، و كيفية ممارسته لمفهوم السلطة ، كمفهوم ثقافي و عملي ، هذه الممارسة التي تجاوز بها هذا الفكر الطرح التقليدي و البسيط ، الذي كان سائدا و مهيمنا في الفترة السابقة عليه ، و المرتبط خصوصا بكل ما هو اقتصادي و إداري و سياسي ، في وقت ارتقى فيه هذا الطرح ، إلى مستوى أكثر فعالية و عقلانية و حداثية ، و ذلك بتحيين المنحى المنهجي و المعرفي العميق لمفهوم السلطة ، و محاولة ربطه ربطا محكما ، بكل تجليات و تمظهرات جسد المجتمع ، كبنية متماسكة تعتبر وجوهها الرمزية و المخفية ، أهم و أخطر بكثير من واجهاتها المادية و الظاهرة . و تجدر الإشارة ، إلى أن هذا التحول النوعي ، الذي شهده التعامل و البحث في مفهوم السلطة ، جاء نتيجة طبيعية لتضافر العديد من العوامل السوسيو اقتصادية و السياسية و الثقافية و الحضارية ، التي كان لها الدور الأساسي و الأكبر في تطور الواقع الغربي المادي المعيشي و الحضاري في جميع ميادين المجتمع الغربي ، سواء تعلق الأمر بالواقع الأمريكي أو الأوروبي ، ذلك التقدم التاريخي و الحضاري الهائل ، الذي كان له التأثير الإيجابي الكبير و العميق على المستوى الفكري و الفلسفي و العلمي ، الأمر الذي أدى إلى ظهور ، في أواخر القرن العشرين ، مجموعة من الأبحاث و الكتابات المتمردة ، على الطرح التقليدي الضيق لمفهوم السلطة ، و أسست لنفسها أفقا أكثر عمقا و عقلانيا . و يمكن اعتبار المفكر و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ، من أهم مؤسسي هذا الفهم الجديد لمفهوم السلطة ، و قد عرف باجتهاداته الهامة في مجال البحث الفلسفي الجذري ، خاصة في الطب العيادي و تاريخ الجنون ..، إلى جانب كل من ماكس فيبر و بيير بورديو في مجال الدراسات الاجتماعية و علم الاجتماع الانعكاسي ، و قد حاولت هذه الأبحاث العلمية ، من خلال روادها الأساسيين ، طرح سؤال المنهاج الشامل و الناجع ، و أدوات تحليل الظواهر الاجتماعية و السياسية و الثقافية، لهذا ستأخذ هذه الأعمال على عاتقها ، الانشغال أكثر و الاهتمام بعمق طبيعة العوامل الخفية غير المباشرة ، و المنظومة الرمزية المؤثرة بفعالية في أي مجتمع ، مهما كانت طبيعته و نوعية وضعه العام ، بجميع تجلياته و تشكيلاته . و من خلال مفاهيمها الإجرائية و أدواتها المعرفية و المنهجية ، المتميزة بطابعها الشمولي ، و ببعدها النقدي ، ستحاول هذه الأبحاث الفكرية الغربية الحديثة ، إعادة قراءة العديد من المواضيع الهامة في المجتمع ، و التي يعتبر موضوع التعليم و التربية ، من أهم الأسئلة التي شغلت الكتاب و المنظرين في هذا المجال . و قد تم تعاملنا مع سؤال المؤسسة التعليمية ، كمنظومة عامة و شاملة و رمزية ، في علاقتها القوية بما يسمى سوسيولوجيا بالعنف الرمزي ، خاصة عند أهم رواده الأساسيين ، و نعني به بيير بورديو ، متسائلين عن مدى نجاعة هذه النظرية المعرفية ، و قيمتها المنهجية و التربوية ، من أجل الأخذ ببعض عناصرها المنهجية ، و محاولة الإستعانة بأهم جوانبها المشرقة ، و المناسبة لمنظومة التربية و التكوين المغربية ، التي ما فتئت تعيش منعطفا أساسيا في تاريخ النظام التعليمي بالمغرب الحديث . 1- صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية لتحديد مفهوم السلطة .. و السلطة الرمزية ، بالضبط ، تنطلق نظرية بورديو من تقسيم العالم الاجتماعي ، إلى مجموعة حقول مستقلة نسبيا ، و فهم هذا العالم الاجتماعي ، يتوقف على البحث بعمق و بجدية كبيرة ، في كيفية اشتغال آليات حقول ذلك العالم الاجتماعي ، من أجل الكشف عن واقعها و طبيعة منطقها الداخلي ، في علاقته الجدلية بمفهوم السلطة . يقول ب.بورديو بهذا الصدد ، في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر ، ع 37، دجنبر 1985: ( إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما ، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة ، و نجد أن كل بنية العالم الاجتماعي ، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار ، من أجل فهم آليات الهيمنة و السيطرة ) .إن السلطة إذن ، حسب بورديو ، بمثابة نظام معقد ، يخترق كل العلاقات و الترابطات ، التي تشتغل داخليا ، بواسطة آليات دقيقة و جد فعالة ، تتحكم في البنية العامة ذلك النظام . بالإضافة إلى أن هذا المنظور المنهجي في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، حريص كل الحرص ، على ربط مفهوم السلطة ، كركن إجرائي جوهري في الفعل التحليلي ، بمفاهيم أخرى ، لا تقل أهمية و قيمة ، من مفهوم السلطة ذاته ، و نذكر من بينها ، مفهوم النسق ، و الحقل ، و اللعب ...الخ ، و هي على كل حال ، مفاهيم تستمد أهميتها ، من تصور بورديو للبحث المنهجي و الأداة التحليلية ، المرتبط باستراتيجية كونية و شاملة، مؤسسة على نظام مشروع فكري ، لبناء و دراسة آليات و قوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعي ، كما أسلفنا ، تحقيقا لهدف رئيسي ، هو صياغة نظرية عامة لمفهوم السلطة الرمزية pouvoir symbolique ، إلى جانب الاهتمام بتحليل أنساق أخرى عديدة ، و حقول اجتماعية مختلفة كالدين ، و الفن ، و اللغة ، و السكن ، و اللباس ، و الرياضة ، و الأذواق ، ...إلخ . و انطلاقا من العدد الهائل من الدراسات ، و الأبحاث التطبيقية الميدانية و أيضا النظرية ، التي أنجزها بيير بورديو ، مع الكثير من الدارسين و الباحثين الاجتماعيين الغربيين ، الذين اقتنعوا بالبعد الثوري الواضح ، و فعالية أدوات هذا المنظور المنهجي و التحليلي ، يلاحظ أن السلطة الرمزية ، تستند عنده دوما ، إلى أسلوب التورية و الاختفاء ، و هي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض ، و تنفيذها بشكل فعال و إيجابي ، إلا من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه ، من طرف أغلبية الناس المعنيين بها ، و الذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية ، و لا يعترفون بها . يقول بورديو بهذا الصدد في ص 52، من كتابه الرمز و السلطة ( إن السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية ، و لا يمكن أن تمارَس ، إلا بتواطؤ أولائك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها ، بل و يمارسونها ) . لهذا ، فتأثير السلطة الرمزية يكون أعمق و أخطر، لسبب بسيط ، يتمثل في كونه يستهدف أساسا البنية النفسية و الذهنية للمتلقين لها ، و بالتالي فهي – أي السلطة الرمزية – تمارس فعلها العميق ، و تخطط من أجل فرض و تحقيق الأهداف المرسومة و المتوخاة ، و إنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة و الناجعة ، لتثبيت و خلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه و مخطط له ، و تمارس سلطة الرمز كل هذه الأعمال بطريقة منظمة و بنائية ، و تحت غطاء الخفاء و الاختفاء ، وراء حجاب أقنعة المألوف العادي ، و أنظمة التقليد و القانون و الخطابات الشائعة بين الناس . 2- حول تأسيس مغاير لعلاقة السلطة بمفاهيم أخرى 1- 2 الحقل و اللعب و علاقتهما بالسلطة إن اعتماد مفهوم الحقل ، في التحليل السوسيولوجي عند بورديو ، هو بمثابة تقنية إجرائية دقيقة و أساسية ، للتفكير بصيغة العلاقات ، أي التفكير على نحو علاقي و جدلى ، بدل التفكير بالطريقة البنيوية الجاهزة و الضيقة الأفق ، كما كانت سائدة و مهيمنة ، في بداية انشغال بورديو بموضوع السلطة الرمزية ( عصر انفجار الفكر البنيوي في أوروبا ) ، لهذا كانت أبحاثه المعرفية و العلمية عامة ، محاولة منه لتصحيح مسار فكري و فلسفي اقتنع به ، و مارسه بنقد و هدم الفكر السائد ، و تأسيس الفكر الفعال و البديل . يتشكل الحقل ، حسب بورديو ، من جملة علاقات موضوعية ، القائمة بين مجموعة من الأوضاع ، التي تحدد في وجودها بمحتليها ، و هؤلاء المحتلون لتلك الأوضاع ، إما أن يكونوا فاعلين أو مؤسسات ، حسب موقعهم الحالي أو المحتمل ، في بنية توزيع مختلف أنواع السلطة ( الرأسمال ) التي يتطلب امتلاكها بلوغ الأرباح الخاصة ، و هي شرط أساسي و مهم لتحقيق لعب متواز بين القوى الفاعلة في الحقل ، و في الآن ذاته ، بواسطة علاقتهم الموضوعية بالأوضاع الأخرى ( سيطرة ، تبعية ، تطابق ..إلخ ) . كما يرتبط مفهوم الحقل ، بمفهوم الرأسمال ارتباطا وثيقا ، من خلال التأكيد على أبعاده الثقافية و الاقتصادية ، كقوة لها سلطة فعالة رمزية للقدرة على السيطرة على فضاء اللعب ، في الحقل المعني ، و الذي من الطبيعي أن يشهد بدوره ، حركية داخلية مهمة و اشتغالا ديناميا محكما ، سيؤدي فيما بعد ، إلى نشوء نزاعات و التي ستتراكم و تختمر، لتنفجر في المرحلة الموالية ، على شكل صراعات بين هذه القوى الفاعلة داخل حقل اللعب ( سواء كان لعبا طبيعيا أو سياسيا ، أو اجتماعيا أو فكريا أو دينيا أو ثقافيا أو حضاريا ...إلخ ) ، و ذلك بهدف الدفاع عن المكتسبات السابقة للقوى المتصارعة و الاحتفاظ عليها قدر الإمكان ، أو تحويل تشكل تلك القوى لصياغة خريطة جديدة ، تتناسب و وضع اللعب الجديد . و لكي تتضح ملامح دلالة مفهوم الحقل ، كما يتصوره بورديو ، و يعمل به في تحاليله الاجتماعية ، يمكننا تقديم مثال عن حقل السلطة ، و هو المثال الذي كثيرا ما يتشهد به في كتاباته النظرية تقريبا لهذا المفهوم . فما المقصود بحقل السلطة عند كاتبنا و ما هي مميزاته ؟ * إنه حقل قوى محددة ، في بنيته ، بحالة علاقة القوة بين أشكال من السلطة أو أنواع مختلفة من الرأسمال . * هو حقل صراعات من أجل السلطة و السيطرة و الهيمنة بين مالكي سلطات متباينة . * إنه فضاء للعب ، يتواجه فيه فاعلون و مؤسسات ، يشتركون في امتلاك كم معين من الرأسمال الخاص ( ثقافي ، اقتصادي ..) ، و الغاية من تلك المواجهة ، هي تحقيق الرغبة في احتلال أوضاع مسيطرة في حقولهم الخاصة و العمل على تحريرها ( الحقل الاقتصادي ، و حقل الإدارة العليا للدولة ، الحقل الأكاديمي ، الحقل الفكري ) ، كما تهدف تلك المواجهة ، إلى الاحتفاظ بعلاقة القوة تلك أو محاولة تحويلها . * الهدف من صراع القوى السابق هو فرض مبدأ السيطرة ( سيطرة المسيطر ) ، الذي يمكن أن يصل في أية لحظة إلى حالة من التوازن ، ليتمكن بالتالي من اقتسام السلط فيما بينه و بين المتنازع الآخر ، أي تقسيم عمل السيطرة . * هو أيضا صراع و نزاع من أجل فرض مبدأ الشرعنة ( المشروعية ) ، أي إضفاء المشروعية و المصداقية ، على وضعية السيطرة المنفذة، إلى جانب الحفاظ على نمط إعادة الإنتاج المشروع ، لأسس السيطرة المحققة . و نشير الآن إلى أهم أنواع المجابهات و الصراعات و الأشكال التي يمكن أن تتخذها : أ - مواجهات واقعية ( حروب القصر ) ب- مواجهات مسلحة ( بين السلطات الزمنية و السلطات الروحية ) ج – مواجهات رمزية ( صراعات فكرية ) . 2-2 حول علاقة نظرية الأنساق بنظرية الحقول إن مفهوم الحقل عند بورديو ، يعمل على استبعاد كليا الطابع الآلي ، الذي يتميز به مفهوم الجهاز ، و تبعا لذلك يكون قد استبعد النظرية الوظيفية التي سبق أن انتقدها في العديد من كتاباته ، و بشكل يكاد يكون أحيانا قاسيا و عنيفا ، و ازداد أكثر قربا و التحاما بالتاريخ و الفهم الجدلي للمجتمع . بالإضافة إلى أن الحقول ، كما هو واضح من خلال الفقرة السابقة ، لا تقوم على أجزاء أو مكونات ، بل هي تبدو فرعية ، لها منطقها الداخلي الخاص ، و انتظاماتها الخاصة . لهذا يرى بورديو ، و هو رأي كثيرا ما أورده و أكد عليه في العديد من كتاباته ، أن الحقل هو لعب أعقد بكثير من كل الألعاب ، التي يمكن أن يتخيلها المرء . 3 – تحليل و دراسة حقل معين من حيث الخصائص و المراحل يميز بورديو بين ثلاثة لحظات أساسية لدراسة و تحليل حقل من الحقول ، وهي : 1 –3 لحظة تحليل وضع الحقل إزاء حقل السلطة إن الحقل متضمن دائما ، بجميع علاقاته الموضوعية و الصراعية ، داخل حقل أوسع منه ، هو حقل السلطة . فالحقل الأدبي مثلا في المغرب متضمن في حقل السلطة ، بمعنى أن كل الكتاب و المثقفين بشكل عام ، هم فئة من شرائح المجتمع المغربي ، التي تنتمي إلى الشق المهيمن ( بفتح الميم ) عليه من طرف الطبقة المسيطرة . 2 – 3 لحظة تحديد البنية الموضوعية ، للعلاقات بين الأوضاع المحتلة ، من لدن الفاعلين أو المؤسسات ، الذين يتنافسون و يتصارعون داخل ذلك الحقل ، من أجل فرض السلطة ، و الحفاظ على السيطرة . 3 – 3 لحظة تحليل سموت ( استعدادات ) الفاعلين ، التي اكتسبوها في إطار تواجدهم ، ضمن شروط الحقل المعني الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي و السياسي . إن المؤلف الذي لا يراعي ، أثناء تحليله لحقل معين ، المراحل و اللحظات التحليلية السابقة ، و بنفس الأولوية الترتيبية ، لن يكون معنى للتحليل الذي أنجزه ، عند بورديو ، و لا يسمح له أن يزعم أنه مارس تحليلا يذكر ، أو درس موضوعه الدرس المنتظر منه ، و بالتالي لا يستحق أن يكون مؤلفا ، حسب بورديو دائما ، لأن هذا الأخير ( المؤلف) ينبغي عنده أن يكون ذاتا محللة فاعلة ، على النحو العلمي الاجتماعي ، كما حدده أعلاه ، و أن المهم في التحليل الاجتماعي الخلاق ، ليس عرض الإشكالات و وصف البنيات و تقديم المعلومات ، رغم الأهمية النسبية لهذا الجانب من المعرفة ، و إنما المهم و الأساس عند بورديو هو البحث و التنقيب في أسئلة الحقل ، و دراسة التفاعلات فيه ، و إثارة أكبر ما يمكن من إشكالاته ، و بالتالي يكون بذلك ، قد وصل إلى شط الأستاذية .