ان اللامح لكتب التاريخ بعين الاستنارة يرى طوعا او كرها تلك العملية المستفزة للفعل البشري في تكرار اساليبه السياسية نحو التسلق او الرياسة او الاصلاح او الثورة , وبغض النظر عن تسليمنا بخطية دالة التاريخ في تحقيق مراد الارادة البشرية فاننا نتفق على ان اسقاط تجارب الماضي على الوضع الحالي بشكل محوري تماثلي هو امر من باب تبسيط هذا التاريخ , دون منع لسننه في اعادة كتابة نظرياته على سبورة البشر . ان مفهوم التغيير في خطية الزمن مفهوم ثابت منهجا متربص ومتفلت سبلا وهنا سامسك بخيط المقالة لتوصيف مرحلي يعرفه المغرب قد نزعم انه اكثر مفصلية من محطة دستور 2011 او الانتخابات السابقة , بل قد تأخذنا الجرأة في القول انها عملية تكررت في كل الدول التي يحكي التاريخ انها شملت بعفو الاصلاح . منذ استقلال المملكة الشريفة واقرار التعدد الحزبي بقي المغرب في خانة الكلاسيكيات السياسية التي تقسم الاحزاب حسب الايديولوجية الفكرية ومنطلقات التفكير وان سجل في السجل ان هذا المعطى نفي قسرا وعوض بمنطق القرب من القصر , ومن مع ومن ضد الجالس على العرش , ايضا كنا نسجل هجونة غريبة في التركيبة المسيرة لامور الدولة وتلك الهجونة الايديولوجية مازالت قائمة الى غاية الساعة اليوم نحن امام سنة تاريخية دقت بلادنا وهي سنة " التقاطب الوطني " بمعنى اخر القطع مع الكلاسيكية الحزبية في الاعتماد على المرجع الفكري في الوقوف مع او ضد , ويحسب للاسلاميين في المغرب انهم حفزوا التاريخ على استدارج التاريخ لابوابنا , ويحسب للدولة العميقة غباؤها الذي جعلها تخرج من جحر الضب وتهيكل لنفسها هيئات حزبية واعلامية ومدنية جعل التصويب عليها واجب وطني , هذا التقاطب بدأ ضبابيا ومحتشما لان الاصلاحيين تركوا الباب مفتوحا بدون تقديم دعوات رسمية للدخول , اليوم اصحاب اللحي يعيدون قراءة كتاب " الامير " بطريقة ذكية حسب قول قسطنطين زريق حين قال " كتاب الامير موجود ولا ادري لماذا السياسيون اغبياء ..." الشيوعيون دخلوا باب التقاطب مبكرا وان كانوا ضعافا الا ان التاريخ يحفظ لاصحاب الشوارب الانيقة رمزيتهم في مواجهة الاستبداد في العالم , اليوم جاء الدور على السلفية المستنيرة وشباب اليسار الحق الذي يؤمن بمنجل الحق ومطرقة العدالة , جاء الدور على الذين تحالفوا مع الشيطان قبلا فعرفوا ان سوقه في مزاد الوطن بوار وكساد عظيم , بعد حين سينضم الاستقلال فحاملي البنادق امام المستعمر لن ينسوا زناد الحرية ولا خراطيش الكرامة . في اقصى اوربا وتحديدا انجلترا كانت هناك دولة عميقة تتحكم في بلاد الضباب وكانت الاحزاب مصلحية حد الاستنزاف , كان اصحاب الدروع والسيوف والبلاط يسيطرون على الملك نفسه ولعل قصة الملك والدوف بيرنارد خير مثال على تحكم الدولة العميقة في تلابيب الامبراطورية الانجليزية , في سنة 1688م قرر بعض الوطنيين الوقوف في وجه الاستبداد وبدات عملية التقاطب بعيدا عن المصالح القبلية وكان للبرلمان الدور الكبير في استدارج هذه السنة في بلاد كانت النزعات القومية اقدس ما يمكن الدفاع عليه , فحطت سفن ارشيبالد كامبل في شواطئ انجلترا وكان هذا الكامبل ثوريا حد اليسارية فتبعه " الكاثوليكي " الدوق مونموت , وما كان بمنطق ان يضع هذا يده في يد ذاك الا بمنطق الوطن ومحاربة البؤس واحزابه , هذا التحالف الذي اضطر معه مجلس اللوردات العظيم للانصياع لبيانات الاصلاح ثم لحبر التغيير لتكتب بلاد الزمرد سطرا جديدا وسط الصقيع بدايته كرامة وحرية ... في فرنسا كان التقاطب الوطني اكثر تلونا ووضوحا يوم اجتمعت كل الوان الطيف السياسي في ملعب التنس القريب من قصر لويس واي نعم لا مقاربة بين اسباب قيام الثورة الفرنسية والثورة الاصلاحية الانجليزية الا ان وضعية " خدام الدولة " في فرنسا اججت الوضع الاجتماعي ( الفيلسوف ميرلوبونتي يعتبر ان كل الثورات مردها سياسي في الاصل ) الا ان العامل النقابي وضع يده في كتف الاقطاعي الوطني واليساري في يد البورجوازية الفرنسية التي تكونت في مدن غير باريس , روبير سبيير اليساري التصق كتفه بيد الجبلي رابلي. الوضع في بلدان عديدة كان يحتاج لعملية التقاطب الوطني بدل الايديولوجي , في ايطاليا والنمسا والهند بل في المشرق العربي نفسه في القرن التاسع عشر ايام الرغبة الملحة في رمي ثقل الاستبداد العثماني على كاهل العرب , الم يتفق قاسم امين مع الكواكبي فكريا حول دولة بني عثمان العميقة , كتب الطهطاوي الم تكون رحما لكتب المسيحي شبلي اشميل , يوم اصدرت محمد عبده جريدة الوقائع المصرية كانت معظم المقالات المرسلة من التيار العلماني وكانت معظمها تخالف فكر صاحب الجريدة وصديقه جمال الدين الافغاني وذات يوم اشمئز الافغاني من مقال لاحد المفكرين المسيحيين نشره محمد عبده على صفحات الجريدة فلما راجعه كان جواب الشيخ محمد عبده ذكيا وينم على حكمة ودراية بسنن التاريخ فقال " الاستبداد يا جمال لا يخاف من فكر واحد بل يخاف ان اجتمعت الافكار ....". الخوف ليس من المعركة فالكل سيشارك والكل سيرمي الغمد في النار , وتحت وطأة الفطرة سيدافع الاصلاحيين عن مشروعهم , وتحت ضغط الخوف سيستخدم " خدام الفساد والبؤس " كل الوسائل لتحصين وضع قائم , التاريخ يعلمك ان المعارك ليست مهمة بقدر ما تهم المعاهدات المترتبة عنها , الخوف حين سيهدأ حماس سيف الاصلاح فتحن الى غمودها . من اخرج الموحدين من الاندلس اليست معاهدات ما بعد النصر , من قضى على النابليون اليست سداجة المعاهدات الموقعة بمداد الغفلة . ان تحصين المعارك الديمقراطية يتم عبر ارساء مزيد من المعارك المفتوحة في كل الاوراش فهدوء الحرب يعني البحث عن هدنة والاستبداد يجيد تاريخيا التفاوض على وضعه . صاحب " الكوميديا الالهية " دانتي شرح سبب نكوص الاصلاح وعودة الفساد في كل مرة بعد خوض المعارك فقال ان بعد المعارك الضارية مع قباب الفساد تركن اسود المعركة للصمت ويحكي القردة حكايات كاذبة ......" طريق الاصلاح طويل وعلى الاسود ان تستمر في رواية الحكاية والا سنجبر يوما ما على الانصات لحكايات القردة .