يعيش المغرب وهو يستعد للانتخابات التشريعية الثانية بعد إقرار دستور 2011 في ارتباك سياسي حقيقي. ويبدو أن هذا الوضع ناتج أساسا على ضعف إيمان السلطة السياسية بأهمية الاختيار الديمقراطي رغم تضمينه في الوثيقة الدستورية الأخيرة باعتباره ثابتا وطنيا. مؤشرات الارتباك عديدة ومتنوعة، ومنها ما اتخذته وزارة الداخلية مؤخرا خطوات غير ديمقراطية تهم الانتخابات. وسار من المنطقي التساؤل عن الهدف من مثل هذه الإجراءات، المتعلقة بإعلان النتائج المنقوصة لانتخابات 2015، وكذاك "منع" التسجيل في اللوائح الذي صفقت له سابقا وزارة الداخلية، واعتبر ذلك التزاما بروح الدستور في فصوله (30 و33)، قبل أن "تكتشف" الداخلية مساوئ توسيع المشاركة السياسية سنة 2015؛ وربما هذا ما شجعها على الدفع بقوة لتخفيض العتبة المخصصة لولوج مجلس النواب... لا يزال المغرب بعيد عن المعايير الدولية للانتخابات الديمقراطية، ومعروف أنه واحدة من دول شمال إفريقيا التي لم تعرف بعد في تاريخها انتخابات نزيهة ولا حتى شبه نزيهة في العهد القديم والعهد الجديد. كما أن بلادنا تراجعت إفريقيا للرتبة الثامنة للدول الساعية لخلق تحول ديمقراطي، ومن ثمة أصبحت مقولة المغرب استثناء إفريقي أو عربي مجرد شعار غير مقنع للداخل والخارج على السواء. ومن الطبيعي في ظل هذا الواقع الملموس أن تثار نقاشات سياسية وحزبية حادة حول جدوائية الحفاظ على "سياسة الانتخابات المزورة"، ومنهج تقسيم الغنيمة بين النخبة الحزبية، وإشراف وزارة معينة بفعالية في خلق الخرائط الانتخابية؛ ومن ثم تحديد أفق العملية بشكل مبكر، واعتبار ذلك رهانا وإنجازا عظيما للدولة المغربية، وحماية للمؤسسة الملكية. ولأن العملية السياسية في كل مجتمع تخضع للتحولات السوسيوسياسية كذلك. فقد تأثرت إرادة الدولة التسلطية بطبيعة الدينامية وتطورات السياق الوطني، وازدياد الوعي الشبابي وتوسع دائرة مجابهة الدولة المستبدة عربيا؛ وهكذا وجدت الدولة المغربية نفسها مضطرة للتراجع نسبيا ومؤقتا على عاداتها المتلاعبة بإرادة الناخبين منذ 2011. ومن الغريب في هذا الباب، أن إرادة التحكم في العهد الجديد أبقت على التلاعب بالعملية الانتخابية في جدول أعمالها، وهي اليوم تدعو لمقاضاة كل من يشك في بياناتها ومزاعمها الخاصة بهذه العملية. والغريب كذلك أن فعلها هذا غير الديمقراطي وغير الدستوري يقدم باعتباره عاملا يعزز شرعية النظام السياسي، واعتبار المؤسسات المنتخبة، هيئات خاضعة للإرادة وسياسة التحكم في الشأن العام، سواء كانت المؤسسات تتعلق بالبرلمان أو الجماعات المحلية، أو الجهوية، أو تعلق الأمر برآسة الحكومة نفسها. ومن العجيب كذلك أن هذا الوضع الذي كرسه حوالي عقدين من التسلطية السياسية، وما يطلق عليه في أدبيات على السياسة بالاستبداد الناعم؛ فشل في السيطرة على إرادة الناخبين رغم استعماله لوسائل متطورة ومختلفة. ولم يكن هذا هو فشله الوحيد فقد فشلت السلطوية المتحكمة في الانتخابات السياسة بالمغرب في إقناع المغاربة بجدية مزاعم الديمقراطية والمغرب الحداثي، وإلى ما هناك من الشعارات المزيفة التي رفعت بعد حكومة عبد الرحمان اليوسفي. كانت حركة 20 فبراير الشعبية واحدة من الأجوبة الشعبية المناهضة للاستبداد والفساد الذي ترعاه قوى التحكم من داخل الدولة المغربية. فقبل انتخابات 2011، حاولت الدولة مجاراة ما يحدث من تطورات مجتمعية، فقامت الوزارة المشرفة على الانتخابات بتقييم خاطئ للوضع ورفعت تقريرها للسلطة العليا تدافع فيه على ربح G8 للانتخابات، وحصرت نتائج العدالة والتنمية في حوالي نصف مقاعده الحالية بمجلس النواب. وعندما نزل الملك بثقله باعتباره رئيسا للدولة، ووجه بوصلة العملية الانتخابية نحو مزيد من الشفافية في ظل التلاعب بالنتائج. حصل العدالة والتنمية على 107، في أجواء السياسية استقت قوتها من حجم وتفاعلات الحراك العربي الإقليمي، وضربه بقوة لمفاصل الدولة المستبدة. من النتائج الأولى لانتخابات 2011 التي يلزمنا استعادتها، والتي وقعت داخل علبة النظام، هو الخروج غير المشرف لوزير الداخلية الشرقاوي، فقد غادر الرجل الوطني المحب لبلده وملكه، لأن البعض اتهمه بعدم إدراك حجم شعبية العدالة والتنمية وقدرته على ربح رهان انتخابات، في أول دستور أعاد اكتشاف سلطة رئيس الحكومة، ووسع من هامش المشاركة السياسية...... اليوم يحاول وزير الداخلية الاستفادة من درسين مهمين؛ الأول مثله حصول العدالة والتنمية "المفاجئ" على المرتبة الأولى في انتخابات2011. والثاني هو اكتشاف الدولة أنها عاجزة في زمن وسائل التواصل الحديث على التحكم في كل النخب السياسية، و"الأخطر" ضعف سيطرتها القانونية والمسطرية على إرادة واختيار الناخبين في 2015. وهذا يعني أن عملية التحكم، والاستبداد الناعم يواجه مشاكل حقيقية، ولذلك من المرشح مع قرب الانتخابات، أن يشتد الخناق على المشاركة وكيفيتها. وبما أن الانتخابات تشرف عليها وزارة لم تتحول بعد لقطاع يخضع بالتمام لرئيس الحكومة، ويراقبه البرلمان؛ فإن هذه الوزارة ستظل منشغلة بأهداف غير أهداف الحكومة، مما يسمح للتحكم ونخبه السياسية، في كسب شرعية انتخابية في ظل تحول سياسي يقوده التحكم ومؤسساته.