كان ذاك التعديل هو السادس من نوعه في تاريخ المملكة المغربية الحديثة,ويشاء ربك الذي خلق نواميس الكون ,ويعلم ما تُخفيه الأنفس والأقدار إلا أن تُعاد المسائل ويتكرر التاريخ... من يتذكر تعديل 1996 وكيف خرج رؤساء الأحزاب آنذاك مهللين فرحيين ومخاطبين المغاربة من أنهم لن يرو دستورا أفضل مما قُدم لهم,لن يستغرب ما فعله زعماء التيارات السياسية من إسلاميها إلى اشتراكيها , حين قال الجميع ومن دون أدنى معارضة أنهم سيُصوتون بالإيجاب ... ومن رأى كيف كتب الكتاب وأنشد الشعراء لذلك التغيير لن يتعجب وهو يرى مصطلحات من قبيل "خطاب تاريخي" أو "دستور لا مثيل له" فهو يُدرك حقيقة الأمر ويعرف أن التغيير ليس تغيير حبر ولا ورق... وبعد الأفراح التي انطلقت بعد إنشاء دستور 1996 بقليل خرج علينا كاتب إنجليزي كبير ومحاضر عالمي في القانون ليُخبرنا أن دستورنا "الذي لا مثيل له" ليس إلا أوراقا مقتبسة من الدستور الفرنسي لعام 1958 ,وكم كانت الصدمة كبيرة حين قال عن دستور 96 أنه استطاع إغلاق قواعد اللعبة الدستورية المغربية بحيث يستحيل لأية مؤسسة أن تعمل ضد رغبته أو أن تواجه ما يريده النظام... هذه خمسة أمور أساسية دفعت بنا دفعا لرفض الدستور الجديد... 1 ) دستور ممنوح شُكلت لجنة المنوني من مائة عضو أو يزيد ولم ينتخب عليها لا عمر ولا اليزيد,وكانت تلك ضربة موجعة لأبناء التغيير والتجديد,وبما أن ذاك التغيير المنشود لا يأتي بالكرم والجود ,فقد كان بالأولى على السلطة بدلا من إهدار المال والوقت في لجنة مرفوضة من الأساس أن تعلن للأمة جميعا عن بدئها في استقبال ترشيحات من خبراء مغاربة داخل وخارج الوطن ,ليمر هؤلاء إلى صناديق الاقتراع لينتخب الشعب لجنة منهم يُكلفها بتشكيل دستور جديد,وما نملكه من خبراء في القانون والإعلام والسياسة وعلوم الدين و الشرع أكثر ثقافة من لجنة المنوني نفسها... وكان هذا من أكبر الأخطاء ,التي ساهمت في الشعور بتغييب الأمة عن الاختيار والمشاركة في صنع القرار,,, 2 ) دستور على ورق ليست المرة الأولى التي يتم فيها تعديل الدستور المغربي,فقد سبقتها محاولات عدة ولم تفي بالغرض المنوط منها من أجل تحقيق نهوض وقفزة نوعية إلى مصاف الدول المتقدمة.بل في بعض الأحيان كان التعديل أسوء من سابقه بكثير... وأكثر ما يُخيف الأمة ويزيدها قلقا على قلق أن يبق التعديل حبرا على ورق,فالدستور الماضي لم يكن بالسوء الذي يُصوره البعض بل كانت بعض من قراراته حكيمة ومع ذلك لم تُنفذ وازداد الوضع سوءا على سوء,فما فائدة المخططات من غير تطبيقات ,وما أهمية القول من دون عمل... نحن هنا لا نقرأ ما في القلوب فلا يعلم ذاك إلا علام الغيوب, ولكننا نخاف, وخوفنا محمود لا مذموم, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين" فكيف ونحن لُدغنا خمس مرات سابقة... 3 ) أحزاب من ورق إن كل الأحزاب الموجودة لا تُمثل الأمة المغربية ولو إدعت ذلك ,فكلها من صنع الدولة وتحت رضاها ووصايتها ورعايتها ,فلا الرأي رأيها ولا التغيير بيدها ,وكم كانت الصدمة كبيرة حين رأينا قادتها "كل قوادها" يصفقون ويهللون للدستور الجديد حتى دون أدنى معارضة من القوم... وإذا كانت كل تلك الأحزاب غير مرغوب فيها من الأمة, فكيف إذن سنقبل برئيس حكومة سيكون وبلا شك فردا من تلك الأحزاب... إننا في البلاد نملك أحزابا عجيبة غربية, بعضها يدعي الإسلام ومنهجيته "معظم منهجيته" بعيد عن الإسلام وشريعة الإسلام, والبعض يدعي الاشتراكية والنظام الشيوعي بعيد كل البعد عنه وعن مبادئه وحزب ثالث يدعي العلمانية والليبرالية والنظام الرأسمالي لا يُطبق حتى في أدبياته... 4 ) غياب المحاكمة إن تعديل الشيء يعني الإبقاء عليه ,ولكن الأمة لا تريد أن ترى نفس النتائج التي رأتها وراكمتها طيلة التعديلات السابقة,ولكنها تريد معاقبة المُتسببين بفساد في الملة والدين ,تريد جرجرتهم إلى المحاكمة والقضاء لا أن تراهم يُعلقون على فرحهم بدستور جديد ,والأمة تعلم جيدا أسمائهم ومراكزهم الحساسة في الدولة ,فكيف وهي تبحث عن محاسبتهم تجدهم قد خرجوا للتعبير عن سعادتهم البالغة أمام وسائل إعلام هي أصلا مُتورطة في فساد . وقبل أن يبدأ سيدنا يوسف عليه السلام الإصلاح في مصر ,فقد طالب ملكها أخناثون بمعاقبة المفسدين ورد الحقوق والمظالم إلى الناس وبعدها تولى إدارة مال أهل مصر ,وكان الفاسدون والمفسدون قد وقفوا في خط مُتعارض مع أبناء الإصلاح في مصر آنذاك ,فلم رأيناهم في بلادنا العزيزة وقد هنأ بعضهم بعضا على إنجاز لم يطالبوا به أصلا... 5 ) العسكر والحلقة المفقودة ضل هذا الموضوع طي الكتمان لعقود طويلة, والدستور الجديد لم يقدم جوابا واضحا يخص هذه المسألة,وبقي الأمر كله بيد الملك محمد السادس ,ومعظم أبناء الأمة في المغرب يعلمون علم اليقين أن هذا المجال شهد عدة انتهاكات جسيمة أدت لمظالم عديدة ,ولعل أخرها ما وقع لآلاف من إخواننا الذين سُجنوا وعذبوا ظلما وعدوانا على شيء لا دخل لهم فيه لا من قريب ولا من بعيد,فمن يرد لهؤلاء حقوقهم ومن يُنصفهم ... وقد رئينا في المملكة المتحدة البريطانية على سبيل المثال,رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير يقف أمام محكمة خاصة أُقيمت له لمحاكمته في جرائم الحرب والحرب الظالمة التي شارك فيها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد العراق عام 2003 ... فمن سيقف أمام محكمة خاصة إذا ما تم شن حرب في غير موضعها أو تم ظلم عباد وسجنهم بسبب إتهمات باطلة قد تُوجه إليهم كما وُجهت من قبل ... وإن ما فكر أحدنا في طلب إلغاء المعاهدة التي وُقعت بين المغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية بخصوص محاربة «الإرهاب" فإلى أي جهة سيتجه لطلب هذا الموضوع...
هنالك الكثير من الأمور التي يجب أن لا تمر مرور الكرام وأن يتم التعليق عليها ,فالقضاء وفصل السلط ما زال قائما والملكية البرلمانية أيضا ... وأختم بثلاث أمور أحببت ذكرها إلى إخواني الكرام ... 1 ) لا أخفي أني ما زلت أقرأ فصول الدستور وأُعيد قراءتها لمزيد من الفهم والتحليل ,وأني لا أُنكر وجود تحسينات قد دخلت على الدستور الجديد دون أن تجعلنا نقبل به للنقاط الخمس الأساسية السابقة الذكر... 2 ) إن الذين يريدون الخير للمغرب والمغاربة , ليس هؤلاء الذين خرجوا إلى الشارع مباشرة بعد الخطاب,فأغلبهم لم يستوعب حتى بعضا من أساسيات الدستور ,وأن الذي يريد الخير هو الذي قرأ الدستور أولا واستوعبه ثم انتقده حبا لمزيد من الإصلاح ,وقد رئينا كيف طالبت بعض من النسوة بالمال جراء خروجهن للتعبير عن فرحهن وهن الأميات اللواتي لا يعرفن حتى أبجديات القراءة والكتابة ومع ذلك أيدن الدستور وقلن أنه حقق تقدما ملموسا وهن لم يقرأن أصلا لا الدستور القديم ولا الدستور الجديد... 3 ) إن كل تلك الأحزاب المغربية وعددها يفوق الثلاثين ,لا تمثل المغاربة لا من قريب ولا من بعيد وأنها جميعا ,حتى تلك التي تدعي أنها تقف في خندق المعارضة, إنما هي شكل من أشكال الاستبداد والقمع وكثير من اللغط ...
في الفاتح من يوليو سيخرج البعض للتصويت على الدستور الجديد المُكون من 180 فصلا "كان عدده 108 " ,وعلى مقربة من صناديق الاقتراع سيكون هنالك تصويت من نوع أخر ,تصويت بالحناجر بدلا من بطاقات الانتخابات...