سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الساسي : لسنا عدميين وقاطعنا الاستفتاء لأن الدستور الجديد لا يحقق الملكية البرلمانية قيادي الحزب الاشتراكي الموحد قال للمساء : المجلس الوزاري لازال متحكما في الجهاز التنفيذي والداخلية لا ينبغي لها أن تشرف على الانتخابات
في هذا الحوار مع «المساء» يستعرض محمد الساسي، القيادي في «الحزب الاشتراكي الموحد» المبررات التي استند إليها حزبه في تبرير الموقف الداعي إلى مقاطعة الاستفتاء على مشروع الدستور الحالي، قائلا: «لن نقبل ولن نصوت بنعم على مشروع الدستور ما لم يستوف متطلبات الملكية البرلمانية»، وهذا بعيد حسب قوله عن «تهمة العدمية» التي يوجهها البعض إلى «الحزب الاشتراكي الموحد». «نحن نعترض على مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء يوم فاتح يوليوز لسبب بسيط وهو أننا نطالب بدستور تجسد بنوده حقيقة مفهوم الملكية البرلمانية»، قبل أن يضيف أن الملك مازال ممسكا بزمام السلطة التنفيذية في الدستور المرتقب، من خلال رئاسته الفعلية لمجلس الوزراء، الذي يتداول في كل التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة والتوجهات المتعلقة بقانون المالية». - أنتم في الحزب الاشتراكي الموحد تدعون إلى مقاطعة الدستور الجديد، وهناك من يتهمكم بالعدمية والسلبية، ورفض أي شيء بشكل منهجي إلى درجة عدم معرفة ماذا تريدون. الرد على هذا القول بسيط، فنحن لا نرفض كل شيء يأتي من الجهات الرسمية، ولسنا عدميين. نحن نناقش الأشياء ونحاول أن نكون إيجابيين متى ظهر لنا أساس لاتخاذ هذا الموقف. يكفي أن أذكرك في هذا الصدد بثلاث مبادرات أو مشاريع رسمية قمنا بتزكيتها، وسجلنا إيجابياتها، بل تحمسنا لها: أولا، مقترح الحكم الذاتي، الذي قدمه الملك لحل قضية الصحراء، اعتبرناه خطوة تاريخية، وطالبنا بتوفير الشروط السياسية العامة التي تسمح بتنزيله. ثانيا، توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، التي تبنيناها جملة وتفصيلا، رغم اعتراضنا على مجريات المسلسل الذي سمي إنصافا ومصالحة. ثالثا، مدونة الأسرة، التي اعتبرناها ثورة اجتماعية وتصدينا لمسلسل الإفتاء بما يخالف أحكام هذه المدونة، فدافعنا عنها أكثر من الجهات الرسمية. - وماذا تعني الملكية البرلمانية في أدبيات حزبكم؟ تعني أن ينسحب الملك من كل ما له علاقة بالتقرير في التوجهات والبرامج، فهو مراقب من بعيد، يقدم ملاحظاته، ويتدخل في لحظات أزمات مؤسسية ليعيد الأمر إلى نصابه، ويحتكم إلى صناديق الاقتراع إذا اقتضى الأمر ذلك، ولكن كل ما له علاقة بالبرامج والاختيارات يجب أن تكون السلطة فيه للمنتخبين، بناء على التعاقد الذي أبرموه مع ناخبيهم، وأن السلطة الرئيسية التي ستبقى للملك هي سلطة تمكين المنتخبين من ممارسة سلطتهم. أما في المشروع الذي أمامنا فيظل الملك ممسكا بزمام السلطة التنفيذية، من خلال رئاسته الفعلية لمجلس الوزراء. هذا المجلس هو الذي يتداول في التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة والتوجهات المتعلقة بقانون المالية. يتم كل ذلك تحت رئاسة وإشراف الملك. ولا يُتصور أن يكون للحكومة الحق في رسم هذه الاستراتيجيات خارج إرادة الملك وخارج موافقته، التي تجعل إرادة الناخبين غير محمية بالدرجة الكافية، فالملك يحدد مسار مجلس الوزراء ويحدد النتائج التي يريدها منه، وهذا قد يقع في تناقض مع الاختيارات والتوجهات التي يكون الناخبون قد ارتضوها وصوتوا على فريق يرون أنه الأجدر بتطبيقها. - الدستور الجديد منح صلاحيات لمجلس الحكومة. ما هو تعليقكم على هذا الأمر؟ حقيقة تم توسيع بعض صلاحيات مجلس الحكومة، لكن هذا التوسيع ليس له قيمة لأن الصلاحيات التي أضيفت إليه مضطر لأن يمارسها في إطار ما تم رسمه من توجهات واختيارات استراتيجية على مستوى أعلى منه هو مجلس الوزراء. مجلس الحكومة سيكون تابعا لمجلس الوزراء، وبالتالي فإن الإرادة المستقلة للحكومة غير موجودة، لأن الحكومة تابعة في تطبيق وتنزيل هذه الاختيارات للإرادة الملكية، الشيء الذي قد يضعنا أمام تناقض مع خيارات الناخبين، فإذا لم يوافق الملك على خيارات الناخبين، وأملى خيارات أخرى، فمعناه أن الانتخاب لا يحقق نتيجته السياسية، وهي تطبيق البرامج التي فيها التعاقد مع الناخبين، خاصة أن الملك غير مقيد، بل هو حر في صياغة الخطب التي يوجهها إلى الأمة أو المؤسسة التشريعية، وفي الخطاب الملكي الأخير قال الملك إنه بالإضافة إلى وظيفة التحكيم الأسمى، فهو يمارس أيضا التوجيه، حيث إنه هو «الموجه الأمين». هذه العبارة غير واردة في الدستور، رغم أن بعض الأحزاب اقترحتها مثل الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، ولكن من الناحية العملية نعتبر أن الخطاب الملكي يساعدنا في تحليل وفهم مشروع الدستور، ولا شك أن الملك، كما يرى نفسه في مشروع الدستور، عبارة عن مُوجه، يوجه من خلال عمله مجلس الوزراء، ويقدم التوجيهات الأساسية والكبرى، وفي نفس الوقت يوجه من خلال الرئاسات التي يراكمها لعدد من المؤسسات. فالملك هو رئيس مجلس الوزراء، وله أن يفوض ذلك لرئيس الحكومة، والملك هو رئيس المجلس الأعلى للأمن، والملك هو رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والملك هو رئيس المجلس العلمي الأعلى، والملك هو الذي يعين 6 أعضاء من أصل 12 عضوا في المحكمة الدستورية، إضافة إلى الرئيس، والملك هو الذي يعين 4 أعضاء من أصل 8 أعضاء في المجلس السمعي البصري، كما يعين رئيس الهيئة. إذن هناك تحكم للملك في عدد من المؤسسات، وبالتالي التحكم في مساراتها ونتائج عملها، وهذا يتناقض مع الملكية البرلمانية، التي تحيل دور الملك إلى نوع من الدور الرمزي أو الشرفي. بالإضافة إلى أن الملك يتحكم في مصير الوزراء بعد تعيينهم، فبعد تشكيل الحكومة يمكن للملك أن يعفي أي وزير متى شاء، بشرط أن يستشير رئيس الحكومة. ولكن هذه الاستشارة غير ملزمة. إذن لازال الملك يلعب دورا محوريا في القرار الاقتصادي والاجتماعي وفي القضايا السياسية، وهناك صنف من التعيينات يعود إليه وحده، وبعض التعيينات الأخرى تتم في مجلس الوزراء، ولكن يتحكم فيها، حيث لايمكن أن تتم بدون رضاه. إذن هو لايزال يلعب دورا محوريا وأساسيا. - أفهم من كلامكم هذا أن رفضكم للدستور المعروض على الاستفتاء ناجم عن عدم تجاوبه مع مذكرة الإصلاح الدستوري التي سبق لحزبكم أن رفعها. هناك بعض الأشياء والكثير منها نجد لها صدى في النص المقدم للاستفتاء، وإليكم بعض الأمثلة: الحل المقدم للقضية الأمازيغية، التنصيص على السيادة الشعبية وعلى سمو المواثيق الدولية، ربط حل الأحزاب والنقابات والجمعيات أو توقيفها على صدور مقرر قضائي، ضرورة التنصيص على حقوق المعارضة، ضرورة دسترة دور المجتمع المدني، والإشارة إلى الديمقراطية التشاركية، وإلى حقوق مغاربة الخارج والتأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية والثقافية. هناك أيضا مقترحات قدمناها تم التنصيص عليها مثل شروط المحاكمة العادلة وحقوق الأسرة والتنصيص على التنمية المستدامة. ولكن نحن لا ننظر إلى الوثيقة الدستورية انطلاقا من المقارنة مع دستور 96. طبعا من يريد أن يسجن نفسه في هذه المقارنة يمكن أن يقنع نفسه بسهولة بالتصويت ب«نعم»، خاصة بالنسبة للأحزاب التي قدمت مذكرات بسقف أقل بكثير مما جاء في الدستور. نحن لا نتبنى هذه المنهجية. نحن نتبنى منهجية المقارنة بين المشروع المعروض للاستفتاء وبين شروط ومتطلبات الملكية البرلمانية. أي نص لن نقبل به ولن نصوت ب«نعم» إذا لم يكن يستوفي متطلبات الملكية البرلمانية في حدودها الدنيا المعروفة كونيا، ووفق ما هو مكرس في الملكيات البرلمانية كأسس عامة. هنا ليس لنا نموذج محدد. نحن نستلهم المبادئ العامة في الملكيات البرلمانية ونلخصها في نظام سياسي يتيح للمنتخبين تطبيق برامجهم واختياراتهم بدون أن يتدخل الملك في هذه البرامج أو الاختيارات. - هناك من يقول إن النخبة السياسية في المغرب ضعيفة، في حين يحتاج الدستور القادم إلى «رجال دولة». ما ردكم؟ التمرين الدستوري الأخير أعطانا مجموعة من الخلاصات. الخلاصة الأولى تكمن في أن السلطة لا تعتبر الأساليب القديمة والعتيقة التي كانت تمارس في الستينيات أدوية منتهية الصلاحية، بل تعتبرها أسلحة احتياطية، يمكن أن تعود إليها في اللحظات، التي تحس بأنه يجب أن تدافع عن نفسها بكل الوسائل. الخلاصة الثانية هي أن الأحزاب السياسية، وخاصة الاتحاد الاشتراكي، لم تعد ريادية، إذ ليس هي التي تجر السلطة نحو مزيد من التقدم، بل تطرح مقترحات أقل مما يأتي من الملكية نفسها. الخلاصة الثالثة هي أن المجتمع المدني أصبح يقدم أفكارا ومقاربات سياسية أكثر تقدما مما تقدمه الأحزاب السياسية، بمعنى أن درجة الانخراط السياسي للمجتمع المدني أصبحت مثيرة لأنه في الوقت الذي ينمو حسه المطلبي، وتنمو ثقافته السياسية، يدقق ويفصل مطالبه ويقدم مطالب أكثر تقدما، بينما تتحصن الأحزاب السياسية خلف الرغبة في أن تلقي بمذكرات تسمح لها باستمرار تطبيع علاقاتها مع الملكية، وتموقعها قريبة من النظام بدون أن تكون منشغلة بهاجس تحديث الملكية وفرض الانتقال بإنجاز الخطوة الحاسمة والجريئة نحو نظام ملكية برلمانية هنا والآن. الخلاصة الرابعة هي أن حزبا محافظا مثل العدالة والتنمية، وإن كان لا يقدم في المجال المتعلق بالحقوق والهوية أفكارا متقدمة، لكنه في المجال المتعلق بتنظيم السلط يذهب أبعد من الأحزاب الأخرى، إذ نصبح أمام حزب محافظ يقدم أفكارا غير محافظة فيما يتعلق بتنظيم السلط، والأحزاب غير المحافظة تقدم أفكارا جد محافظة فيما يتعلق بتنظيم السلط، ولا تتردد في اقتراح ممارسة الملك سلطة التوجيه، أي يقدم التوجيهات بصدد الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدون أن نحفل أو نهتم بمطابقة هذا التوجيه لإرادة الناخب. الخلاصة الخامسة هي بروز الشارع كحلبة للصراع، وبروز حركة جديدة قامت بدور تفعيل الشارع كحلبة للاعتراض على الدستور. وهذا الاعتراض شمل رقعة جغرافية شاملة، لأنه شمل مختلف مناطق المغرب. إذن هذا فاعل جديد يستعمل في الاعتراض على الدستور أسلوبا جديدا، هو اعتراض من خلال تظاهر سلمي، وهذا شيء جديد تماما، لأن الدساتير السابقة لم تكن تجد الشارع المتظاهر كحقل للاعتراض على الدساتير السابقة، على الأقل بهذا القدر من الشمولية والاتساع الجغرافي. - سبق أن قلتم في إحدى مداخلاتكم إن مشروع الدستور الحالي مليء بالتناقضات. أين تتجلى هذه التناقضات؟ بالرغم من الساعات الطويلة التي قضا لجنة المنوني في تلقي الاقتراحات وتلقي مذكرات الأحزاب والنقابات والجمعيات، فإن الصياغة النهائية للنص تمت على عجل، وهذا ليس بسبب طريقة اشتغال اللجنة، ولكن يبدو أنه فرض على اللجنة أن تنهي عملها بأسرع وقت، بسبب الرغبة في إخماد جذوة حركة 20 فبراير، وليس الرغبة في الإصلاح، وهذا أثر على الصياغة، بالإضافة إلى اعتماد مقاربة الإرضاء الفئوي على حساب البنية الشاملة، الشيء الذي جعل السلطة تحاول وضع دستور تستطيع اقتطاع أجزاء منه ليتبين لجهة ما أنها تخدم منطقها، ولكنها تقتطع جزءا آخر متناقض مع الجزء الأول لتدلي به أمام جهة أخرى كدليل على تبني منطقها. هذا يتناقض مع البنية الشاملة والفلسفة التي تحكم الدستور. هذا لا يعني أن دستور 96 لم يعرف تناقضات. التناقضات في الدستور هي من صلب التناقض الكامن في الإيديولوجيا السائدة، التي تريد أن تتظاهر بالديمقراطية، ولكن في نفس الوقت تحافظ على عمق تقليدي وهياكل حداثية. هذا النوع من التوليف يولد دائما تناقضات، لأننا لم نحسم بعد مع الحداثة كخيار فلسفي، وكبناء مؤسسي لدولة القانون. يكفي مثلا أن نلاحظ أن أبرز وجه للتناقض هو عندما يقال إن المغرب يسعى إلى حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والنهوض بهما والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء، ويتحدث عن دولة عصرية وحديثة، لكن في نفس الوقت عندما يقوم بعرض الحقوق حقا حقا، يقيد تلك الحقوق بثوابت ترجع إلى قراءة تمارس تجزيئا لتلك الحقوق بدعوى الخصوصية، وهذا فيه تناقض كبير جدا، فالدستور ظاهريا يعترف بالحقوق بمفهومها الكوني، غير القابل للتجزيء، ثم يمارس التجزيء تحت ذريعة احترام الثوابت واحترام الخصوصية، وهذا ربما وجه التناقض الأبرز في هذا النص. - في ميدان التشريع خص مشروع الدستور الجديد البرلمان بحق التشريع شبه الحصري، وكذا النظر في التقطيع الانتخابي، كما عزز دور المعارضة بأن كلفها بلجنة التشريع.. ما تعليقكم على ذلك؟ فيما يتعلق بالمعارضة، يتحدث النص عن المعارضة البرلمانية، وهذا مفهوم ضيق للمعارضة، لأن هناك معارضة برلمانية وأخرى غير برلمانية، ويجب أن يُعترف بحقوق المعارضة البرلمانية وغير البرلمانية.وفيما يتعلق بالتقطيع، ما سُمح به للبرلمان هو البت في مبادئ التقطيع أو معايير التقطيع الانتخابي، ولكن لا يحال التقطيع الانتخابي على البرلمان، فالمهمة تمارس على مستوى الحكومة، والبرلمان لا يتداول في التقطيع وإنما في معاييره، وعلى ضوء تلك المعايير تتصرف الحكومة بإصدار مرسوم التقطيع، الذي كان مطلوبا لتقطيع الدوائر الانتخابية الخاصة بمجلس النواب قبل أن تحال على هذا المجلس لتكون موضع مناقشة. بالنسبة لهذه الصلاحيات أو مجال القانون الذي اتسع، يجب أن نعلن بصورة عامة أن هناك شيئا يجب ألا نهمله، هو أن مشروع الدستور الحالي لم يتبن المطلب، الذي تقدمت به العديد من الأحزاب، والقاضي بأن يصبح الإشراف على الانتخابات من طرف هيئة دستورية مستقلة. فنحن لا نثق في طريقة إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات، ونعتبر أنه في كل الأحوال، حتى لو تم توسيع بعض صلاحيات مجلس النواب، فإن وزارة الداخلية دأبت منذ عقود على ممارسة نوع مما يمكن أن نسميه الضبط الانتخابي، ولها أعيان قارون. الآن تثبت لنا التجربة أن عددا من الأشياء التي تمارسها الدولة، من قبيل وضع لوائح ممنوعين من الترشيح وفرضها بقوة الأمر الواقع، وعرقلة ترشيح المستقلين، ودفع بعض الأشخاص للترشيح، وتسهيل الفوز الانتخابي لبعض الأعيان عن طريق سوء التصرف في البطائق الانتخابية... كل هذه الأشياء انفضحت. ويكفي أن نعود إلى البطائق الانتخابية لنرى كيف تستعمل كسلاح للتحكم في الخريطة. هذا لا يعني أن الداخلية تصنع خريطة أخرى مخالفة للواقع كليا، ولكنها تدخل نوعا من التقويم للخريطة حتى لا تتجاوز هندسة موجودة بشكل مسبق، وحتى لا تخل بما تعتبره توازنا سياسيا تعتبر نفسها مؤتمنة على ضمانه. وبالإضافة طبعا إلى طريقة استعمال التقطيع والإعلام العمومي، والتغاضي عن استعمال الوسائل العمومية، وكذا التغاضي عن استعمال المال الحرام، تقدم الداخلية نفسها كما لو أنها عاجزة عن الوقوف في وجه استعمال المال في الانتخابات. والحال أنه في مجالات أخرى، يظهر أن الدولة توظف وسائل كاسحة لمواجهة أنواع خاصة من الإجرام. لا يمكن أن نقول إن الدولة هُزمت في معركة محاربة استعمال المال الحرام، إذ أظن أن المسألة مبنية على أن الأعيان، ونوع خاص منهم، مرتبطون بأجهزة الدولة، ويجب أن تتاح لهم الفرصة لرفع نسبة المشاركة الانتخابية المتدنية أصلا، وكذا لمنع تيارات معينة من أن تقلب خريطة النتائج. إذن هذه مسألة استراتيجية. لكن أخطر من هذا أن الدستور المستفتى لم يتبن هذه الفكرة، فكرة إشراف هيئة دستورية مستقلة، رغم أن الاتجاهات العامة الآن في العالم هي تبني هذا النوع من الأجهزة المشرفة على الانتخابات. والأخطر من هذا هو أن وزارة الداخلية بدأت تتخذ كل الترتيبات للانتخابات المقبلة، كما لو أن لديها الثقة مسبقا بأن لجنة المنوني لن تخرج بأي تصور آخر للجهة التي يوكل إليها الإشراف على الانتخابات، والحال أنه كان يجب أن توقف أي نشاط يتعلق بالتحضير للانتخابات، حتى ترى إن كان سيتم تبني أم عدم تبني إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات. إذا أضفنا إلى كل ما سبق ما صرح به وزير الخارجية من كون بعض السلطات السيادية في مجال الخارجية والدفاع ستبقى للملك، يبين ذلك أن هناك تصورا دستوريا مسبقا لدى الجهات الرسمية، إذ حتى قبل أن تبدأ لجنة المنوني عملها كانت هناك حدود مرسومة بشكل مسبق في العقل المخزني المدير للأشياء بغض الطرف عن «الاجتهادات الخلاقة» التي كان يمكن أن تصل إليها هذه اللجنة. - وأنتم تتحدثون عن وزارة الداخلية، كيف تقيمون بشكل عام أداءها أثناء الحملة المصاحبة للتصويت على مشروع الدستور الحالي؟ أظن أن السلطة وقعت في مطب، هو أنها قدمت نفسها في صورة عهد جديد لم يتخلص من القديم. لقد تم إخراج أسلحة ووسائل عمل، اعتقد الناس أنها تمت القطيعة نهائيا معها. أظن أنه في بداية العهد الجديد تعاطف جزء من الطبقة المتوسطة مع الهواء الذي هب على المغرب، وأظن أن هذه الطبقات المتعلمة بدأت شيئا فشيئا تصبح لديها قناعة بأن العهد الجديد يمكن أن يصلح نفسه بنفسه بخطوات ثابتة نحو المستقبل، وأنه قد ينجح في إعطاء الحياة العامة مدلولا حرا فيه حراك وحيوية واستقلال للحقل السياسي بشكل مخالف لمنطق الوصاية والتحكم الذي كان سائدا في الماضي، لكن أظن أن الممارسة الاقتصادية لبعض المقربين من القصر من جهة، وإنشاء حزب الأصالة والمعاصرة من جهة ثانية، وما جرى خلال استفتاء دستور 2011 من جهة ثالثة، ربما قد يدفع بشرائح من هذه الفئات إلى التشاؤم، وقد يؤدي إلى تبديد جزء من الرأسمال الرمزي للنظام، فالناس لاحظوا مثلا كيف تم وضع منصات في الساحات العامة، تشتغل ليل نهار باستدعاء أجواق لتجميع الناس، وتقديم دعاية للدستور بدون أي شرح أو نقاش، وبشكل غير راق. كما شاهد الناس كيف تم التضييق على استعمال الفضاء العمومي من طرف مناهضي الدستور، وكيف تم منع الشباب في عدة أماكن من أن يوزعوا بيانات أو مناشير تتضمن موقفا نقديا لمشروع الدستور وكيف استعملت المساجد في العملية الانتخابية وفي خطبة الجمعة. أظن أن هذا اليوم كان يوما مفصليا بعد أن وصلت السلطة إلى درجة استعمال المساجد للدعاية بالتصويت ب«نعم»، وبخطبة تنطوي على نوع من القول بالحكم بعدم شرعية الرأي الآخر المناهض للدستور، أي افتقار الرأي المعترض للشرعية الدينية.لقد تم استعمال مؤسسة عمومية مفروض فيها الحياد لأنها جهاز تابع لكل المواطنين، وكان يجب إعفاء وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية مباشرة لو كنا نحترم معايير الاستفتاءات، ففي الشارع العام لم يكن للداعين إلى مقاطعة الاستفتاء والمعترضين على الدستور نفس الحقوق التي كانت للداعين إلى التصويت ب«نعم»، وما قامت به الداخلية من تشجيع أو تغاض عن فئات من ضحايا الأزمة، انتشروا في المدن يحملون صور الملك والأعلام الوطنية، ويمنعون الشباب الآخرين من حق التظاهر، وأحيانا يلجؤون إلى العنف والإيذاء الجسدي واللفظي لمواطنين لهم رأي آخر في الدستور، بالإضافة إلى بروز لافتات باسم مؤسسات عمومية تدعو إلى التصويت ب«نعم»، كبلديات أو غير ذلك، وبروز نوع من اللافتات الموجودة في الشارع، والتي تدعو إلى التصويت ب«نعم» وليس عليها علامة تشير إلى مصدرها، بمعنى أننا لا نعرف من كتب اللافتة ومن وضعها... كل هذه الأمور من الأساليب القديمة، وأظن أنه لو كان النظام يحترم معايير الاستفتاء الحر لكان أقال وزير الداخلية، إذ أقل ما يمكن أن يقع في مثل هذا الجو أن يُقال وزيرا الداخلية والأوقاف. إضافة كذلك إلى تشتيت المقدمين للبطائق الانتخابية، الشيء الذي يرجح استعمالها من طرف من هم ليسوا بأصحابها. أظن أنه في هذا الجو لم يعد يهم الملاحظ الموضوعي أن ينتظر نتيجة الاستفتاء لأنها باطلة ولم تعد لها أي أهمية سياسية في هذا الجو، ولا يجب أن نعطي لأي نتيجة معلنة أي قيمة سياسية أو حقوقية، لأننا عشنا استفتاء اختلت فيه الموازين المعروفة للاستفتاء الحر، وتدخلت الدولة فيه بشكل تعسفي لصالح رأي ضد رأي آخر، بمعنى أن المواطن لم يشعر بأن الدولة تفتح جميع الإمكانات، ولا يمكن الاحتجاج في كل مرة على أن البضع دقائق، التي يُسمح فيها للرأي المعارض بأن يمر في التلفزيون كافية للتغطية على هذه المخالفات. وأظن بأن جزءا من المواطنين المتنورين والمتعلمين أصيبوا بالإحباط والتشاؤم بعد هذا الذي جرى، وشعروا بأننا لم نغادر بعد قطار الأساليب المخزنية العتيقة التي اعتبرنا بأنها أصبحت في ذمة الماضي. - هناك من يصف أداءكم السياسي ب«المثالية السياسية» مقابل المدرسة الواقعية التي تقول بالتعريف الكلاسيكي للسياسة من حيث إنها فن الممكن. ما هو ردكم؟ هذه المثالية السياسية يمكن أن ينعتنا بها أي كان، ولكن هذه المثالية هي التي تحرك اليوم عشرات الآلاف من الشباب في بقاع العالم العربي، والمنطقة بكاملها تغلي بهذه المثالية المتحدث عنها.لقد أصبحت المثالية السياسية الآن عبارة عن مطلب يعيش في الشارع. لو كانت مثالية سياسية لما استنفرت مئات الآلاف من المواطنين المغاربة. هذه المثالية السياسية أصبحت الآن واقعا حيا يحرك الآلاف، وأظن أن الذين لا تصلهم رسالة 20 فبراير ورسالة الانتفاضات العربية هم الذين يعيشون نوعا من المثالية السلفية لأنهم يريدون أن يقفزوا على واقع حي نعيشه اليوم. الشباب يتحركون، يطالبون ويضغطون. هل يمثلون الأغلبية؟ لم نقل بذلك. ولكن هناك واقع جديد، هناك تاريخ جديد يبنى، هناك تاريخ مغربي وعربي يبنى في منطقة بكاملها وسيغير خارطة الأشياء، وكما قال الرئيس الأمريكي إن هناك واقعا جديدا، وهناك أنظمة سقطت وأخرى ستسقط. إذن من يقول إن الرئيس الأمريكي ليس واقعيا؟ أنتم تعلمون بأن الرئيس أوباما ينتمي إلى مدرسة واقعية براغماتية ترى الواقع الحق أمام أعيينها. - إذا كانت الدساتير تهدف إلى عنصرين أساسيين، هما تقييد السلطة وإعلان الحقوق وضمانها، فإلى أي حد يتجاوب مشروع الدستور الجديد مع هذا التعريف؟ أولا، نحن نعيش خصاصا حقوقيا في دساتيرنا. لماذا؟ لأن الدساتير لم تهب عليها رياح الأجيال المتلاحقة من حقوق الإنسان. صحيح أيضا أن الدساتير الحديثة تميل إلى التفصيل أكثر فيما يتعلق بالحقوق، وهذا نتيجة تطور الثقافة الحقوقية في العالم، والغنى الذي تعرفه الترسانة الحقوقية الدولية، لكن ما نعيشه في المغرب لم نجد له حلا في مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء. لا يكفي أن نفصل مجموعة من الحقوق، إذ يجب أن تكون هذه الحقوق مضمونة. وهناك نوعان من الضمانات، هناك ضمانات لتفعيل تلك الحقوق، تُستخلص من نظام توزيع السلط واشتغاله، فهذا هو الذي يؤمن تلك الحقوق، إذ مثلا يمكن أن نمتلك نظريا مجموعة من الحقوق، إذا لم يكن هناك استقلال للقضاء، وكان بإمكان السلطة الحاكمة التي تتضايق من ممارستك لهذا الحق، أن تتدخل لدى القضاء لمنع إنصافك وحمايتك، فالحق المنصوص عليه لا يصبح لديه أي جدوى، وهناك أدوات الحماية الخاصة بذلك الحق على وجه الخصوص، ومن جملة أدوات الحماية حماية الدستور نفسه عن طريق المراقبة، مراقبة دستورية القوانين. ولكن مراقبة دستورية القوانين تحيلها المحاكم العادية على المحكمة الدستورية التي يتحكم فيها الملك، الذي هو في نفس الوقت رئيس مجلس الوزراء، وهو المتحكم في الجهاز التنفيذي، وهو أيضا رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية. إذ بعض وسائل الحماية للحقوق تجد في طريق تفعيلها عوائق ناجمة عن طريقة تنظيم وتوزيع السلط، علما بأن مشروع الدستور الحالي أورد عددا كبيرا من الحقوق، ولكن جعل تلك الحقوق معلقة على شروط، وتلك الشروط في أصلها، وحسب محتواها المعروف، هي هادمة لأساس الحق، فنصبح في النتيجة النهائية أمام عملية منح وهمي للحقوق، لماذا؟ لأنهم يعطونك الحقوق ويتظاهرون بذلك، ولكن تلك الحقوق مقيدة بقيود يمكن للمشرع العادي أن يوسعها إلى درجة أن يهدم الحق من الأساس، رغم أنه حق دستوري. في هذا الإطار يمكن أن نقول إن أحسن ما كنا نتمنى أن يأتي به مشروع الدستور من زاوية الحقوق هو إقرار سمو المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي صادق عليها المغرب، على القانون الداخلي، علما بأن هذا جاء في توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ونسجل في هذا الباب أن عددا كبيرا من توصيات الهيئة لم يتم تضمينه في مشروع الدستور الجديد مثل إلغاء عقوبة الإعدام والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية. عندما نتأمل ديباجة مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء نرى بأنه عمليا يأتي بمقتضى غريب تماما لا ندري ما هي الظروف التي تمت فيها صياغة هذا المقتضى، إذ يقول بسمو المواثيق الدولية على القانون الداخلي في إطار أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة. قوانين المملكة من المفترض أن تكون هذه المواثيق تسمو عليها، فكيف يتم هذا السمو؟ أظن بأن هناك خللا في هذا المقتضى. يمكن أن نقول إنهم ربما يقصدون أن المواثيق التي يتم الاعتراف لها بالسمو هي تلك التي خضعت لمصادقة تمت وفق أحكام الدستور وقوانين المملكة. هذا ممكن، لكن في هذه الحالة لماذا نقول إن من الشروط لكي تحظى هذه المواثيق بالسمو أن تكون مطابقة للهوية الوطنية الراسخة، ذلك أنه حتى إن كانت هذه المواثيق تمت المصادقة عليها وفقا لدستور المملكة وقوانينها، فهذا لا يكفي لأننا يجب أن نعلق تمتع تلك الاتفاقيات الدولية بالسمو على شرط أن تكون مطابقة للهوية الوطنية الراسخة. معنى هذا أن مشروع الدستور في النتيجة العملية لا يؤمن بسمو الاتفاقيات الدولية على القانون الداخلي، كما أقرت بذلك توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة. فإذا كنا نقيد الاتفاقيات الدولية بالقانون الداخلي فكيف تسمو عليه في الوقت ذاته؟ يمكن أن نقول إذن إن أهم الضمانات التي كنا نأمل أن تأتينا من هذا المشروع هي هذا النوع من السمو، لأن هذا كان سيعطينا المعنى الكوني لحقوق الإنسان، ويفرض ضمانة لحماية وتأمين حقوق المواطنين، انطلاقا من تمتعهم بحق الاستفادة من المواثيق الدولية التي يكون المغرب قد صادق عليها. أهم ما كنا ننتظره أُهدر، وهذه الإمكانية أُهدرت معها فرصة تاريخية لإعطاء الشق الحقوقي في الدستور المعنى الدينامي المطلوب الذي يجعل هذه الحقوق مكتسبات حقيقية ونهائية، والحال أننا في المغرب لازلنا منذ أكثر من نصف قرن لا نستطيع القول في مجال الحقوق إننا نتوفر على مكتسبات نهائية. أحيانا تتاح لنا فرصة تفعيل هذا الحق أو ذاك، ولكننا في المحطة النهائية لا نستطيع أن نجزم بأننا نمتلك بشكل نهائي ولا رجعة فيه مكاسب نهائية على هذا المستوى.
الساسي: لهذه الأسباب نقاطع الاستفتاء على الدستور - وما هي المبررات التي تستندون إليها في مقاطعة الدستور؟ نحن نعترض على مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء يوم فاتح يوليوز لسبب بسيط هو أننا نطالب بدستور للملكية البرلمانية، والمشروع الذي بين أيدينا ليس دستورا للملكية البرلمانية. ولهذا نعتقد بأنه يجب أصلا مقاطعة هذه العملية، لأننا لانريد أن ندخل في متاهة جديدة، فخلال 55 سنة من الاستقلال ونحن نُدعى إلى التصويت على دساتير، ويقال لنا في كل مرة إنها ستخطو بنا خطوة إلى الأمام، لكننا لم نصل بعد إلى الملكية البرلمانية. نعتبر أن الزمن العربي وزمن الانتفاضة في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط وحركة 20 فبراير كلها رسائل لها مضمون واحد هو أن المواطنين في هذه المناطق أصبحوا يطالبون بالحرية كاملة غير منقوصة وبحق السيادة الشعبية والتعدد والحرية. الشباب الذي يخرج إلى الشارع في البحرين أو سوريا أو في طنجة يطالبون أن يعيشوا مثلهم مثل باقي المواطنين في الدول الديمقراطية. لم يعد الزمن العربي أو الزمن العالمي يتحمل استمرار الاستبداد والمستبدين. نريد حرية كاملة ومطلبنا لا يقبل التقسيط أو التجزيء. كفى انتظارا. لا نريد أن نخرج من قاعة انتظار الديمقراطية لندخل إلى قاعة انتظار أخرى. ومادام النص المعروض علينا ليس دستورا للملكية البرلمانية، فمعناه أن الملكية البرلمانية مؤجلة. والسؤال هنا: إلى متى سيتم تعليق وتأجيل هذا النظام؟ علما بأنه الشكل الوحيد لكي تعيش الديمقراطية في ظل نظام وراثي. وبما أن الإرادة الشعبية هي مناط سلطة الحكم، حسب المواثيق الدولية، وأن هذه الإرادة يتم التعبير فيها بواسطة الانتخابات، فإن احترام وإعمال هذه القاعدة لا يمكن أن يتم إلا من خلال الملكية البرلمانية.
محمد الساسي: اعتقال رشيد نيني يندرج في إطار حرب ضد الصحافة المستقلة - كيف تقرؤون المفارقة التالية: حديث عن انخراط المغرب في إصلاحات سياسية ودستورية واعتقال أشهر صحفي في المغرب اسمه رشيد نيني بسبب كتاباته؟. الملاحظ الموضوعي الذي يريد أن يحكم على الجو الذي جرى فيه استفتاء من الاستفتاءات يتساءل: هل كان هنالك جو من الحرية؟ هل كان جميع الأشخاص، مهما كانت مواقفهم وآراؤهم، بصدد تقييمهم للفعل العمومي؟ هل كانت تتوفر لهم حرية التعبير؟ أظن بأن تزامن الإعلان عن المراجعة الدستورية مع سلسلة من الإجراءات القمعية، أفقد العملية برمتها مصداقيتها، فاعتقال صحفي ومحاكمته وفقا لبنود القانون الجنائي، وليس قانون الصحافة، وإيداعه السجن، والذرائع العلنية التي قدمتها النيابة العامة، والتي لم تتردد في إيراد عبارات لا علاقة لها بالقاموس الديمقراطي، ثم الاعتداءات التي تمت على نشطاء حركة 20 فبراير، نعلم بأن كمال عماري قُتل في غمرة أو معمعة نقاش حول الدستور. أظن بأن هذه مؤشرات تؤدي إلى نتيجتين: النتيجة الأولى هي فقدان العملية ككل لأي مصداقية، لأنه انطلاقا منها لا يمكن أن نعرف حقيقة الأشياء بعد أن تُعلن النتائج. لن نعرف إن كانت هذه النتائج تعبر عن الحقيقة، أم أن الحقيقة غُيبت لأن هذا الجو يعطينا نتائج مزيفة، نتائج مخالفة للحقيقة. في جو الحرية المطلق يمكن أن نعرف من يريد هذا الدستور ومن يعترض عليه، والأرقام التي تقدم في جو القمع لا يمكن الاستئناس بها أو الاعتماد عليها، فتصبح جزءا من الدعاية السياسية، وغير قادرة على أن تعطي مصداقية اقتراعية. الشيء الثاني هو أن هذه الإجراءات القمعية هي في نفس الوقت كشف للنوايا المتعلقة بذلك الدستور نفسه، بمعنى أن هذه الإجراءات القمعية، تفيد بأن الناس سيقرؤون الدستور قراءة محافظة، وأن الحال بعد هذا الدستور لن تكون بأحسن من قبله، بمعنى من يريد أن يُؤمن الحقوق للناس، ومن جملتها الحق في السلامة البدنية، لا يمكن أن يضرب الناس في الشارع، كما وقع على الخصوص في 13 و22 و29 مارس الفائت، لأن من يضرب الناس لا يستطيع أن يقنعهم بأن هذا الدستور سيحميهم من الضرب، فإذا كان سيتم ضربهم ثم الادعاء بأنهم أمام دستور يحميهم، يكون هناك تناقض. إجمالا يمكن القول إن الإجراءات التي صاحبت العملية هي من قبيل العربون على أن هذا الدستور لن يحمي المواطنين أكثر، ولن يكون بأحسن من سابقه. أما بخصوص اعتقال رشيد نيني فأظن بأنه تدخلت في الاعتقال اعتبارات عدة. يجب أن نأخذ الاعتقال ونضع بجانبه الإجراءات التي تمت في الحقل الصحفي ونخلص إلى بعض النتائج، مثلا ما يقع في الشارع يسمح لنا بأن نقول إن السلطة في المغرب تخاف التظاهر، ولا تعتبر التظاهر شيئا عاديا. التظاهر في نظر السلطة ينطوي على شيء غير عادي، فالتظاهر في نظرها يضع المغرب على سكة المجهول. ما يقع في الحقل الصحفي هو عملية بدأت بأساليب مختلفة. هناك محاربة للصحافة المستقلة، محاربة ذات وجه خفي ومحاربة علنية وبآليات مختلفة، أخطرها الآليات الخفية كشراء الجرائد والضغط بوسائل مختلفة. هذه الإجراءات كلها تؤدي بنا إلى نتيجة مفادها أن السلطة في المغرب تخشى من اتساع فضاء الصحافة المستقلة، وتعتبر بأن مجرد اتساع ذلك الفضاء يهدد مصالح استراتيجية، وهذا يعني بأنه رغم وجود الدستور، ربما نتوجه أكثر نحو انغلاق الحقل السياسي وليس انفتاحه.