يحتمل الموقف السياسي من مشروع الدستور أربع تعبيرات أساسية، وداخل كل تعبير يمكن التبرير بمرتكزات مختلفة. التعبيرات الأربع الممكنة هي نعم، لا، المقاطعة ثم حجب الموقف. فلفهم المواقف المعلنة من طرف الفاعلين السياسيين والاجتماعين من الوثيقة الدستورية المعروضة للاستفتاء الشعبي يوم فاتح يوليوز 2011، يمكن طرح السؤال التالي: ماذا يعني هذا الموقف أو ذاك؟ 1- نعم للدستور: يعني الموافقة على النص الدستوري شكلا ومضمونا، ومن داخل هذا الموقف يمكن انبثاق مواقف ثانوية أو تبريرية: أ- التمجيد والقبول الكلي واعتبار المشروع أسمى استجابة للتطلعات والمطالب، وبالتالي وقف كل تفكير في مراجعة دستورية مستقبلا؛ ب- القبول بجزء من الدستور ورفض الجزء الآخر أو بعض مقتضياته، ولأن التصويت يكون مشروع متكامل وليس على أجزاء منه فيتم التصويت بنعم؛ ت- عدم الاقتناع بالمشروع في مجمله ولكن يكون الموقف تأييدا لتوجه سياسي عام أو بناء على تسوية سياسية ما؛ 2- لا للدستور: يعني هذا الموقف رفض المتن الدستوري كليا أو جزئيا إما لعدم وضوحه أو لعدم تلبيته جل تطلعات أو مطالب صاحب الموقف؛ 3- مقاطعة الدستور: وهي رفض المشروع الدستور شكلا ومضمونا، أي التنازع في السلطة التأسيسية للدستور، أي من يضع الدستور، وبالتالي موقف المقاطعة يكون سابقا على إنزال المشروع للتصويت وبالتالي فإن المتن الدستوري لا يكون موضوع نقاش. وهنا يشبه الأمر إلى حد بعيد حسم القضاء في قضية مرفوعة أمامه بالبت في الشكل ووقف المتابعة دون مناقشة التهم المنسوبة للمتهم مهما كانت خطيرة؛ 4- حجب الموقف عدم إبداء الرأي وترك الفرصة للمنتسبين للتنظيم لاتخاذ الموقف الشخصي، وهذا قرار قد يكون فيه غياب الجرأة السياسية اللازمة. من خلال هذا التوضيح نحاول قراءة المواقف السياسية المعلنة من المشروع الدستوري من طرف الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية. يظهر من خلال متابعتنا النسبية للحياة السياسية الوطنية أنه لم يعبر عن موقف "لا" رغم أن حزبي المؤتمر الوطني الاتحادي وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي اتخذت أجهزتهما التقريرية هذا الموقف، لكن تنسيقهما مع الحزب الاشتراكي الموحد في إطار تجمع اليسار حولا موقفهما إلى المقاطعة. فهل ينبني موقف المقاطعة على أساس منطقي، أم هو تعبير عن عدم إدراك معنى الموقف المتخذ؟ ارتباطا بتفسير معنى كل موقف أعلاه، نحاول تحليل مواقف المقاطعة كل على حدة. الحزب الاشتراكي الموحد: يبدو من الوهلة الأولى أن هذا الحزب كان منطقيا في موقفه، لأنه قاطع اجتماعات اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور برئاسة الأستاذ عبد اللطيف المنوني كما قاطع الآلية السياسية للتتبع ولإبداء الرأي برئاسة المستشار الملكي الأستاذ محمد المعتصم، وكان تبرير الموقف بكون الشعار المرفوع في الشارع هو "المجلس التأسيسي" وكون الحزب يرفض مناقشة الدستور مع أحزاب ونقابات ليس لها رأي في الشأن الدستوري وبكون هذه الأحزاب جيء بها فقط للتشويش على التغيير الدستوري الحقيقي. لكن بالعودة إلى علاقة هذا الحزب بمطلب الإصلاح الدستوري يتجلى بأن موقف الحزب الاشتراكي الموحد يعرف شيء من الاهتزاز وغياب نسق واضح في التحليل، فهذا الحزب لم تكن لديه مشكلة مع السلطة التأسيسية وأقر بأن للملك صلاحية تعديل الدستور، وجسد هذه القناعة بإجراء بروتوكولي حيث تقدم بمذكرته حول الإصلاحات الدستورية للملك يلتمس منه تعديل الدستور، ولم ينشرها عبر الإعلام الوطني إلا بعد تسليمها للقصر الملكي، ولم يتقدم الحزب عبر أجهزته التقريرية بأي نقد ذاتي في الموضوع مما يجعل موقف المقاطعة موقفا لتصفية حسابات سياسية مع السلطة السياسية أو لإرضاء شباب حركة 20 فبراير. وبالتالي فإن في موقف المقاطعة رد فعل وليس تأسيسا لفعل. حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي: إن موقف الحزبين يجعلهما بعيدين عن منطق التصويت تماما، فهما معا شاركا في النقاشات المؤسسة للوثيقة الدستورية عبر اللجنة الاستشارية وداخل آلية المتابعة، بمعنى أنهما قبلا بانبثاق النص الدستوري عبر هذه الآليات و بذات المنهجية، وهذا وحده يكفي لإبعاد موقف المقاطعة من التداول أو حتى من دائرة التفكير، وبالتالي فإن الموقف المقبول قد يكون "لا" حزب النهج الديمقراطي: يبدو أنه الحزب الوحيد المنسجم في موقفه لأنه متشبث دائما بمطلب المجلس التأسيسي المنتخب، وبهذا الموقف قاطع الحزب كل الآليات التي تم بمقتضاها إنزال المشروع الدستوري للاستفتاء الشعبي، لكن ما يلاحظ على حزب النهج الديمقراطي والأحزاب الثلاثة السابقة كونهم يرافعوا عبر وسائل الإعلام الوطنية العمومية، تفسيرا لموقف المقاطعة، بانتقاد المتن الدستوري وليس كيفية تنزيله. حزب الأمة: لم يكن أمامه من اختيار إلا موقف المقاطعة، وهو الذي تعرض للقمع والمنع من التأسيس عبر إنكار وزارة الداخلية توصلها بالطلب وفقا لقانون الأحزاب، ثم الاعتقال الظالم الذي تعرض له الأستاذ محمد المرواني وتهديد رفاقه في الحزب، والحجز على ممتلكاته، وبالتالي منعه من إبداء الرأي في كل شأن سياسي ، إلا أن بيان المقاطعة ركز على المتن الدستوري وليس سياقاته. جماعة العدل والإحسان: موقف الجماعة هو الأكثر انسجاما مع تصوراتها و آلية اشتغالها. فالجماعة هي حركة دعوية تتخذ من التربية أساسا لوجودها ولفعلها الجماعي، لم يعرف عنها المبادرة المباشرة في الفعل السياسي إلا مبادرات زعيمها الشيخ عبد السلام ياسين عبر كتاباته المتشبثة بالنهج التربوي حتى في مقاصدها السياسية، وهذا ما تؤكده لغة الخطاب المستعمل عبر الرسائل المفتوحة الموجهة للملك أو عبر تصريحات نجلته السيدة نادية ياسين أو أعضاء من مجلس الإرشاد. فالوثيقة الدستورية شيء لايعني الجماعة وهذا منسجم مع أصل التصور السياسي عند الجماعة المستمد من فكر المرحوم حسن البنا والسيد قطب، والموجز في مبدأ" دستورنا القرآن". فالجماعة أثبتت أنها أكثر انضباطا لمبادئها وأكثر وعيا بمفردات خطابها، وهذا يظهر من تفاديها الخوض في المتن الدستوري وتركيزها على طبيعة النظام السياسي في مجمله. الكنفدرالية الديمقراطية للشغل: أعتقد أن موقف هذه المركزية النقابية هو الأغرب والمثير للسخرية، فرغم الأخطاء التعبيرية التي وقعت فيها الأحزاب السياسية الداعية إلى المقاطعة فإن مواقفها تبقى جديرة بالاحترام لأنها تعبر عن غيرة وطنية انطلاقا من فهم محدد ومن رؤية خاصة، قد تكون مخطئة و قد تكون صحيحة ولكن في كل الأحوال تبقى وجهة نظر تعبر عن الرغبة في مغرب أفضل. لكن موقف cdt يمكن الجزم أنه يفتقد للخيط الرابط بين العقل و القرار لأسباب بسيطة نسردها تباعا: - الكدش لم تجادل يوما في السلطة التأسيسية بل أن خطابات مسؤوليها تصب دائما في تقوية المؤسسة الملكية وتلوح دائما بضرورة تدخل الملك لإجبار الحكومات على الاستجابة لمطالب الشغيلة؛ - الكدش صوتت بنعم على دستور 1996، وبالتالي فإن موقف المقاطعة اليوم يعني أن المشروع المعروض على الاستفتاء الشعبي هو أسوأ من الجاري به العمل؛ - الكدش وقعت على نتائج الحوار الاجتماعي الأخير بهزالته، اقتناعا منها بكونه إجراء سياسي للتخفيف من التوترات الاجتماعية استعدادا للحظة الدستورية الحالية؛ - الكدش تقول بملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، في الوقت الذي يبقى السيد محمد نوبير الأموي ملكا في مركزيته يسود ويحكم منذ نشأة نقابته في أواخر السبعينات من القرن المنصرم، - الكدش تقول بالديمقراطية الحقيقية وإقرار السيادة الشعبية وهي لم تعقد مؤتمرها منذ سنة 2002؛ - الكدش تقول بالفصل بين السلطة والمال وهي تمنع افتحاص الأموال الطائلة التي تتلقاها من الدولة ومن بطائق الانخراط، ولربما قد يكون هذا هو السبب الحقيقي وراء موقف المقاطعة لأن مشروع الدستور يلزم النقابات والأحزاب والجمعيات بدورية مؤتمراتها و بالتدبير الديمقراطي لهياكلها وخضوع ميزانياتها للرقابة القضائية. أما الواقف المؤيدة للدستور فيمكن التمييز فيما بين أصحابها انطلاقا من ثلاث زوايا أساسية، وبالتالي تقسيمها إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: موقف التأييد بالنسبة إليها مبدئي وجاهز مهما كان العرض يكفي أنه مقدم من طرف الملك، فهي لا تمتلك مشروعا ولا تصورا سياسيا ولا قرارا بالبقاء أو الزوال فهي ملك لصانعها يحييها حين يشاء ويعدم وجودها لما تقتضي مصالحه الاستراتيجية ذلك، ويدخل في هذه المجموعة الأحزاب المصنوعة من طرف الراحل إدريس البصري بالإضافة إلى الحركة الشعبية، ثم حزب الأصالة والمعاصرة، فلو كانت هذه الأحزاب تمتلك استقلالية القرار وبنيات الحزب السياسي لكانت عارضت هذا المشروع الدستوري لأنه يعارض مصالحها ويهدد استمرارها، لأنه يجرم التزوير الانتخابي الذي منحها أسباب الوجود وأسباب الدعم المادي المعلن. المجموعة الثانية: تلتقي فيها أحزاب سياسية حقيقية تلزمها قراراتها السابقة بتأييد المشروع الدستوري، وبالتالي فهي أحزاب تمتلك من الحنكة السياسية ما يجعلها منسجمة مع قراراتها الاستراتيجية وتحاول قدر المستطاع أن تحقق من المكاسب المبررة للتأييد المسبق، ويدخل في هذه المجموعة أحزاب الكتلة الديمقراطية بالإضافة إلى حزب العدالة والتنمية وهي أحزاب استحضرت في صياغة قرارها بشأن المشروع الدستوري، موقفها من الدستور الحالي وخضعت لمنطق المقارنة في المتن و في الشكل رغم كونه أمرا ثانويا بالنسبة إليها. المجموعة الثالثة: تلتقي فيها أحزاب و نقابات عبرت عن دعمها للدستور مع إبداء تحفظات بشأنه، إلا أن المشترك بينها هو اعتبار تأييدها هو مساهمة في الخروج من المأزق السياسي الذي تعيشه البلاد بارتباط مع التحولات الكبرى الذي يعيشه الوطن العربي، وجل هذه الأحزاب والنقابات ركزت على المكاسب الحقوقية لتبرير تأييدها للدستور إدراكا منها أن حقوق وكرامة الإنسان هي الجوهر و الأساس في العمل السياسي، وأن أي تجمع بشري لا يقوم إلا على أساس الاتفاق على مكانة الحقوق والحريات فبه، فالاستبداد أو الديمقراطية هي طبائع سلطوية تحدد بموقع الحقوق والحريات. إن الموقف السياسي السليم لايمكن أن يكن معزولا في زمن واحد أوفي حدث واحد بل هو مرتبط بسياقات متعددة ويخضع لضوابط محددة ولعل أهم عنص غائب في كل المواقف هو عنصر المشروع المجتمعي البديل، والشجاعة في تقديم النظام السياسي البديل. أظن أن الوثيقة الدستورية موضوع الاستفتاء جاءت بالشكل الذي هي عليه نتيجة قوتين ضاغطتين، من جهة حركة 20فبراير المجيدة التي تستمد قوتها من حراك الشارع العربي، ومنة جهة ثانية قوة المناهضين للتغيير وهم كثر ويمتلكون القوة المادية التي تهدد المكاسب والاستقرار، ومناهضتهم يجسدونها فعليا بمعاكسة كل خطاب يبشر بتقدم الوطن نحو مفهوم المؤسسات والمواطنة، وهذا ملحوظ من خلال القمع الحاقد للحركات الاحتجاجية السلمية، أو إشعال الفتنة بقرارات كارثية كما هو الشأن في التعامل مع ملف الجنود المغاربة الذين كانوا أسرى بسجون البوليساريو، أو حرمان أكثر من 5000 مواطن من الحق في التسجيل في اللوائح الانتخابية بالعيون، أو استثناء عدد من المعتقلين السياسيين من العفو الذي شمل جزء منهم، تعبئة التجار والشباب ضد حركة 20فبراير واعتقال الصحفي رشيد نيني...إلخ فأمام هذين القوتين الضاغطتين، القوة الشعبية الطامحة للتغيير والقوة المستفيدة من شكل النظام السياسي الحالي الرافضة للتقدم، نكون بين خيارين: إما تصادم القوتين مما يجعلنا أقرب إلى النموذج السوري أو اليمني، وإما القبول بالمكاسب المحققة في المشروع الدستوري مع الإبقاء على ملف الإصلاحات الدستورية مفتوحا مع تحويل الضغط إلى ملف الإصلاحات السياسية، وبالتالي هل نضالنا يقصد الانتقال نحو ملكية برلمانية أم تعميم تجربة الحكم العسكري على المنطقة المغاربية.