كشف الاستفتاء على الإصلاحات الدستورية في مصر السبت الماضي، والطوابير الطويلة العريضة للمصرين في انتظار دورهم للإدلاء برأيهم، مدى تشوق المصريين للتعبير عن رأيهم بحرية وبمحض إرادتهم وعن فرحتهم بالتغيير الذي حصل، فرحة لم تفسدها - كما كان يحصل سابقا- مضايقات الأمن بكل أنواعه وتشكيلاته، وألاعيب التحكم في توجه التصويت، وإجرام وعدوانية بلطجية الشارع ولأول مرة منذ 60 سنة يخرج المصوتون بمصر رافعين أصابعهم الملونة بالحبر الفوسفوري، ومنهم من أدخل معه صغاره وغمس سباباتهم في الحبر افتخارا وزهوا باللحظة التي وصفها البعض بالعرس ووصفها البعض الآخر بالحدث التاريخي بالنسبة للجميع لمن صوت ب «نعم» وب «لا»، ولمن اعتبر التعديلات الدستورية مرحلة انتقالية لدستور جديد وممهدة لإعادة الحكم للمدنيين بعد انتخابات تشريعية ورئاسية، ولمن رأى أن البلاد في حاجة لدستور جديد للتخلص من إرث نظام حسني مبارك قبل أي خطوة أخرى. لكن للأسف غابت مضايقات الأمن وعدوانية بلطجية الشوارع والفتوات، وحضر بلطجية السياسية الذين سعوا لتبخيس أهمية الخطوة الانتقالية، وممارسة الوصاية على 14 مليون مصري ومصرية ممن قالوا «نعم» للتعديلات، وصوروا الاستفتاء وكأنه معركة واختبار قوة بين الإسلاميين وفلول الحزب الوطني من جهة وبين شباب الثورة والأقباط وباقي الأحزاب من جهة أخرى. وخرج رفعت السعيد رئيس حزب التجمع من بقايا اليسار بمصر باتهامات كعادته ضد خصومه السياسيين مستعملا آلية الافتراء والكذب بقوله إن ورقة الاستفتاء حملت إيحاءات للمواطنين للتصويت ب «نعم»، مع أن وسائل الإعلام المصرية العديدة والمتنوعة المشارب والاتجاهات أجمعت على نزاهة الاستفتاء الذي مر تحت إشراف قضائي كامل. ويبدو أن الرافضين للتعديلات الدستورية لم يبنوا معارضتهم على مضامين التعديلات، لعلمهم أنها مرحلة انتقالية تمهد لمرحلة صياغة دستور جديد، بل بنوها على تخوف سياسي من إجراء انتخابات تشريعية في وقت قريب يعتقدون أنهم غير مستعدين فيه لخوض المنافسة السياسية، الأمر الذي سيخدم -حسب زعمهم- تيارا واحدا يرونه أكثر تنظيما هو تنظيم الإخوان المسلمين، وهذا عذر أكبر من ذنب، فكيف تزعم تيارات سياسية أنها موجودة في الشارع المصري وتعبر عن شرائح منه وفي الوقت نفسه تتخوف من المنافسة، الأمر الذي يطرح السؤال: هل هو تخوف من منافسة الإخوان أم من حكم صناديق الاقتراع عليهم وعلى تجربتهم الماضية بعد التحول الديمقراطي الذي حصل بالبلاد والإشراف القضائي على الانتخابات؟ شخصيا أشك أن تكون لجماعة الإخوان هذه القوة التي تمكنها من استقطاب هذا الدعم الكبير للتعديلات الدستورية كما زعم رفعت السعيد، ولا القوة الشعبية التي تمكنهم من الأغلبية في الانتخابات المقبلة، لأنه بالتأكيد لم يكن المسيحيون على رأي واحد، ومنهم من قال نعم للتعديلات، ومن الإسلاميين من قال لا. ولكن إذا كان هذا الزعم حقيقة فهو إدانة صارخة لحزب رفعت وغيره الذي عجزوا طيلة السنوات الماضية عن توسيع قاعدتهم الشعبية والتمكين لتصوراتهم وسط الشعب المصري، واكتفوا بالفتات الذي كان يمنحه لهم الحزب الوطني الحاكم سابقا متمترسين وراء لغة الخطابات والشعارات وانتقاد الآخرين بدل النزول للشارع للعمل وإقناع المصريين، واكتفوا بالعمل الموسمي والنخبوي الفوقي. ولا يملك المتابع للشأن المصري إلا أن يحيي ائتلاف شباب «ثورة 25 يناير» لإعلانه عقب ظهور نتائج الاستفتاء احترامه لإرادة الشعب المصري، منبها في بيان له أن القول بكون «نعم» للتعديلات الدستورية تعني أن الشعب غير مؤهل للديمقراطية وأن التيارات الإسلامية هزمت الأحزاب والكنيسة، سيجعل الثورة تخسر كثيرا، وكذلك الأمر بالنسبة للزعم بأن «نعم» للتعديلات الدستورية تعني أن الحزب الوطني ما زال مؤثرا في الحياة السياسية. باختصار إن الديمقراطية تحتاج للديمقراطيين الذين يقبلون التنافس الشريف ويقرون بالنتائج سواء كانت لصالحهم أم لا، ولا تحتاج لبائعي شعارات كل بضاعتهم تبرير ضعفهم وعجزهم ورمي الاتهامات على المخالفين جزافا وممارسة البلطجة السياسية بدل الانخراط الإيجابي في بناء المرحلة الجديدة بعقلية نظيفة تحترم ذكاء الشعب المصري وبروح جديدة هي روح التعددية والديمقراطية. محمد عيادي