على مدار العقدين الأخيرين صار المغرب محط نظر عدد من المراقبين وخبراء الاستراتيجيا الذين يحاولون أن يدرسوا خلفيات بعض القرارات والتوجهات الاستراتيجية، وما إذا كانت محكومة برهانات اقتصادية محضة، أم بمجرد الاستجابة لمتطلبات إدارة التوازن الإقليمي مع الجزائر، أم أنها تتجه إلى بناء قطب إقليمي قوي في المنطقة يتجاوز الأدوار الكلاسيكية التي كان يضطلع بها في السابق؟ ثمة في الواقع ثلاث نقاط مشوشة، تجعل من هذه القرارات مجرد تدابير لمواجهة أزمات حصلت، أو لتجنب أزمات أخرى متوقعة الحصول، أو أنها تندرج في سياق تقوية الموقع التفاوضي للمغرب وتعزيز قدرته في إدارة التوازن أو ربما تحقيق الردع الإقليمي. النقطة الأولى، وتتعلق بالأزمة الاقتصادية والمالية التي عاشها المغرب قبيل الربيع العربي، واضطرته إلى أن يؤسس لتجربة استثنائية عربيا تمزج بين خياري الإصلاح والاستقرار، كان مدار أهدافها في الجوهر على استعادة التوازنات الاقتصادية الماكرو اقتصادية، وإحداث تغيير جوهري في النموذج الاقتصادي، لجهة التخفف من الارتهان إلى المناخ والفلاحة، وتحويل البوصلة نحو التسريع الصناعي والطاقات المتجددة. النقطة الثانية، وتتعلق باستباق أزمة الطاقة، والتفكير في خيارات لتحقيق الاكتفاء الذاتي فيها، خاصة وأن المغرب كان يستمد جزءا مهما من موارده الطاقية من الجزائر. وضمن هذا السياق يمكن إدراج توسيع محطات توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية (محطة نور) أو الريحية أو المائية، ضمن هذا السياق، كما يمكن أن ندرج ضمن هذا الإطار أيضا الرهان على فتح الباب واسعا أمام الشركات الدولية من أجل التنقيب على الغاز والنفط، والتي أسفرت عن نتائج واعدة. النقطة الثالثة، وتتعلق بتعميق التوجه نحو إفريقيا وإصلاح الأخطاء التي ارتكبت على مستوى التعامل مع البنيات المؤسسية لهذه القارة، عبر مراجعة قرار الانسحاب من الاتحاد الإفريقي، فانطلقت هذه السياسة منذ سنة 2004، وحققت ثمارا مهمة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو التجاري. هذه السياسة، كانت تقرأ إلى عهد قريب ضمن مشمول توسيع مروحة أوراق اعتماد المغرب للحسم في قضية الصحراء لصالحه، عبر تجسير انتقال القارة الإفريقية إلى داعم قوي لمغربية الصحراء وتقليص المحور الجزائري، عبر تحييد الدور النيجيري، ومد البصر ليس فقط نحو الوجهة التقليدية للمغرب (غرب إفريقيا) وإنما أيضا إلى وسطها وجنوبها وشرقها. قبل سنة، وبالتحديد بعد إطلاق المغرب لمبادرة الواجهة الأطلسية، بدأت ظلال العتمة تزول نسبيا عن النقاط الثلاث المشوشة، وتبين أن الأمر لا يتعلق كما يبدو باستباق أزمات أو الاستجابة لمتطلبات إدارة التوازن الإقليمي في المنطقة مع الجزائر، وإنما يتعلق الأمر بتوجه استراتيجي مدروس بعناية. البعض شكك في هذه المبادرة، واعتبرها مجرد فقاعة إعلامية لا أثر لها في الواقع، واستحضر عقدة موريتانيا في هذه المبادرة، وأن عدم مشاركتها، يجعل الرهان بلا سقف، لكن مشكلة هذا النوع من التشكيك أنه لا ينظر إلى أربع نقاط أساسية، أولها أن بعض الدول التي تربطها حدود واسعة مع الجزائر انضمت لهذه المبادرة ودعمتها، وأنه لا يمكن لها بحال أن تدعم مبادرة لا أفق لها، خاصة وأن طبيعة علاقاتها مع روسيا، تطرح سؤال توتر علاقتها مع الجزائر، علما أن الجزائر وموسكو حليفان موضوعيان، أو هكذا يبدو. والثانية، أن الموقف الموريتاني، لحد الآن، لم يعلن أي رفض لهذه المبادرة، بل على العكس من ذلك، صدر موقف موريتاني صريح في رفض توجه الجزائر نحو الاستعاضة عن المغرب العربي، وتكوين كتلة مغاربية جزائرية تونسية ليبية. النقطة الثالثة، تتعلق بالمفاوضات الموريتانية المغربية، والتي أسفرت مؤخرا عن حل مشكلة الرسوم الجمركية التي فرضتها نواكشوط على الصادرات المغربية. والنقطة الرابعة تتعلق بجملة المشاورات الأمريكية والأطلسية التي أجريت مع موريتانيا، والتأكيد على دورها الإقليمي في المنطقة. هذه الاعتبارات كلها تبين أن الموقف الموريتاني بخصوص مبادرة المغرب الأطلسية، لا يتعلق بالمشاركة من عدمها، وإنما يتعلق بالتفاوض حول حجم المشاركة وحجم الكسب منها. في الاجتماع الوزاري الذي انعقد السبت الماضي بالقصر الملكي بالدار البيضاء، ظهرت بكل وضوح الرهانات الاستراتيجية البعيدة للدولة المغربية، وأن الأمر يرمز حقيقة إلى دخول الرباط ما يسمي باللحظة الاستراتيجية، كما تأكد بأن القرارات السابقة، كانت بالفعل محكومة بخيط استراتيجي رفيع، يقصد بالأساس تحويل المغرب إلى فاعل إقليمي استراتيجي في المنطقة. المراسيم الأربعة التي تمت المصادقة عليها، تهم كلها المجال العسكري، ثلاثة منها تعطي فكرة واضحة عن الأفق الذي بلغه هذا التوجه الاستراتيجي، فسواء تعلق الأمر بإحداث منطقتين للتسريع الصناعي للدفاع، أو بإحداث اللجنة الوطنية للتنسيق في مجالات الهيدروغرافيا وعلم المحيطات والخرائطية البحرية، أو تعلق الأمر بإحداث منصب ملحق عسكري لدى سفارة المملكة البرازيل، فإن الجوهر الذي ينظم هذه المراسيم هو تحول المغرب إلى عهد التصنيع الحربي. قبل سنتين، صادق البرلمان المغربي على قانون التصنيع الحربي، وكان القصد منه ابتداء هو تحديد الإطار العام للصناعات الدفاعية والمسؤولية القانونية لعمليات تصدير واستيراد وتصنيع الأسلحة، وقد مكن ذلك المغرب في السنوات التالية من تحقيق اكتفاء ذاتي مهم، لكن المراسيم الجديدة، توحي بالرغبة في تحقيق طفرة بعيدة، والانتقال من تحقيق الكفاية إلى التصدير. المرسوم المتعلق بالهيدروغرافيا وعلم المحيطات والخرائطية، والذي يتعلق برسم خرائط دقيقة للمياه الإقليمية المغربية وما تحتويه من ثروات مختلفة معدنية وسمكية وبحرية وطاقية، يروم في الجوهر، تأمين الثورات بثروات المستقبل، والتي ستمكن المغرب من لعب دور استراتيجي في السنوات القلية القادمة، فالأمر يتعلق بحماية وتأمين المناطق الغنية بالثروات المعدنية التي تكثف عليها الطلب في صناعة السيارات والتكنولوجيات الحديثة (النفاديوم، الليثيوم، البوكسيت..). التركيب الجامع لهذه المحاور الاستراتيجية في سياسة الملك محمد السادس المبكرة، انطلق أولا من عمل استراتيجي تم الاشتغال عليه إفريقيا بقصد تغيير تصور الفاعلين الأقوياء حول موقع المغرب الاستراتيجي ومدى أهمية الرهان على دوره في الامتداد إلى العمق الإفريقي، ثم انتقل إلى لفت انتباه العالم إلى الإمكانيات التي يمكن أن يقوم بها المغرب في عمليات التحول والانتقال الطاقي في العالم (الطاقات المتجددة) ليصل قطار التخطيط الاستراتيجي إلى التفكير في رؤية لتحقيق الاستقرار والأمن في أشد المناطق توترا في إفريقيا (منطقة الساحل جنوب الصحراء) حتى تصير فكرة الشراكة مع المغرب للامتداد إلى إفريقيا عملة سلسة، لا تمانعها أي تحديات أمنية أو سياسية، لتأتي المحطة الأخيرة، بقرارات استراتيجية، تنقل المغرب سريعا إلى عهد التصنيع الحربي، ووجهة أساسية ترتهن إليها الصناعات العسكرية المتطورة (صناعة الدرونات) والتصنيع الحربي المعد للتصدير (الذخيرة لتلبية النقص الشديد في المستودعات العالمية) و(الليثيوم وصناعة البطاريات) التي يتوقف عليها الانتقال في صناعة السيارات من الرهان على المحروقات إلى الرهان على الطاقة المستدامة. البعض للأسف يقرأ هذه القرارات دائما باعتبارات التوازن الإقليمي، أي محاولة المغرب إحداث اختلال استراتيجي لصالحه، لكن في الجوهر، يبدو أن هذه التوجهات الاستراتيجية، تعدت سقف تدبير الصراع الإقليمي إلى ما هو أكبر من ذلك مما يتعلق بالتحول إلى محور استراتيجي مؤثر يسعى إلى أن يخلق الفارق في العقود القليلة القادمة.