يقول الله تعالى في كتابه المبين: »أمّا الزّبد فيذهبُ جُفاءً وأمّا مَا يَنفعُ النّاسَ فيَمْكثُ فِي الأَرضِ. « صدق الله العظيم. سَنحاول في هذه المقال أن نتناولَ، بشيءٍ من التفصيلِ والتحليلِ، بعضا من مسيرة وحياة مثقفٍ ومفكر ومناضل مغربي كبير، عُرف بقيمه النبيلة وأخلاقه الحميدة ونضاله السياسي الممتع. هو من أكثر المثقفين الّذين دَفعت بهم الغيرة وحُبّ الوطن إلى تأليف عددٍ منَ الأبحاث والدراسات القيّمة ردّا على سياسة المخزن المهينة والهجينة.فكان أن تعرض للإقصاء المباشر والتهميش المبكر والمنع المتكرر والإهانة القاسية، هذه الأخيرة التي، لطالما، وقف معها كثيرا في جل كتاباته محاولا الكشف عن مفهومها العميق ومدلولها الواسع و كنهها الحقيقي ، فما كان منه إلا أن ألّف كتابا أسماه بالإهانة في عهد الميغا إمبريالية المتعفنة أردفها بمجموعة من الكتب الأخرى من قبيل (انتفاضات في زمن الذلقراطية ...، كما سنعمل على تبيين أن المفكر المنجرة هو من المثقفين الذين ينتمون الى الفئة الملتزمة ذات النظرة الانتقادية العلمية والتقدمية. من هذا المنطلق نقول إنّ المثقف هو الإنسان والكائن البشري الوحيد، الذي بمقدوره أن يدفعَ شعبا ما لمراجعة قرارات وسياسات الدولة العشوائية والهمجية، التي لا تنفك تحط من قيمة الشعب وكرامته المقدسة. كما سنحاول البحث عن طبيعة العلاقة التي تربط المثقف بالمجتمع من جهة وعن علاقة المثقف بالسلطة والأنظمة السياسية من جهة ثانية.إننا،هاهنا، نؤكد، وبوضوح، أن هذه المقالة ليست، في أساسها العام، بحثا عمليا أو
سوسيولوجيا أو تاريخيا في موضوع الثقافة والمثقف، بقدر ماهي مجرد مقالة فكرية تحاول تلمس ورصد مفاهيم من قبيل المثقف والثقافة...، وهي كذلك، عبارة عن حوارات في مسار المفكر والمثقف المغربي العمومي الدكتور المهدي المنجرة. كما أننا، في هذه المقالة، سنتطرق إلى الوظيفة المثالية النقدية والتوجيهية للمثقف العمومي داخل المجتمع ودوره في توجيه الرأي العام، وذلك من خلل طرح تساؤلات نُجملها في الآتي:
- متى نقول عن شخص ما إنه اكتسب صفة "المثقف"؟، ومن هو المثقف؟ وما علاقته بالسلطة من جهة وبالمجتمع من جهة ثانية؟.
- ماهي الشروط والمعايير التي ينبغي ان تتوفر في شخص المثقف.؟
- أين تتجلى وظيفة المثقف النقدية داخل المجتمع؟
ستظل تهرب أيها الجبان وسأظل أطاردك حتى يصيبنا الوهن. سنمضي حياتنا في وسن. سنظل نلعب نحن الاثنان، لعبة آدم والشيطان، حتى تخضع أو أسقط،. سنجري في تواز حتى نلتقي عند السلطان، سأقف عقبة حلوة في طريقك، سأظل الشبح المقدس الذي ينير دربك، ستظل سائحا تائها وسيظل المثقف مرشدا لك عبر المكان والزمان. منذ سنتين ونصف تقريبا فقد العالم، إن صح القول، علما بارزا من أعلام الأمة العربية ورائدا من رواد فكرها في العصر الحديث، امتد عطاؤه قرابة خمسين عاما لم يتوقف خلالها نبضه أو تخفت حرارته، هو المفكر والعلاّمة المستقبلي المهدي المنجرة. المهدي المنجرة، هو أيقونةُ الفكر العربي الضائعة والمهمشة في بلاد المغرب، والساطع فكرها في سماء بريطانيا واليابان.كيف لا؟، وهو الذي سُئل يوما عن السبب الحقيقي وراء هذا التهميش، فأجاب قائلا: بأن الفترة الاستعمارية طُبعت بمحاربة متواصلة للعلم والعلماء، وأعتقد أن الوضع لا زال قائما في العالم العربي والسبب " عدم تشجيع الكفاءة "، ولا يوجد مسؤولون أسوأ من أولئك الذين يجهلون درجة جهلهم.
المهدي المنجرة (1933-2014)، عُرف بِفِكره التّحررِي، تحرر البلدان الجنوبية من هيمنة دول الشمال، وذلك من خلال محاربة الأمية ودعم البحث العلمي. عُرف أيضا بدفاعه الشرس والمتواصل عن قضايا الشعوب المقهورة وحرياتها، وتأكيده، كذلك، على ضرورة الانفتاح على المستقبل، لأن الدينَ شديد الارتباط بالمستقبل، والمستقبل الذي يتحدث عنه المفكر لا يعني " الغَيْب".
المهدي المنجرة، هو مثال المفكر المسلم الحقيقي، كيف لا؟، وهو الذي انسحب وخرج من مؤسسة الأممالمتحدة، وتخلى عن جميع حقوقه فيها من تقاعد، والتخلي معه من الاستفادة من راتبه معه بعد تَيَقنِهِ أن القيمَ التي تسير عليها الأممالمتحدة وتَخدُمُ لصالحها، هي القيمُ المسيحيةُ.. إن فهمَ فكر المهدي المنجرة ونقده للأوضاع السياسية والاقتصادية التي تعيشها كل المجتمعات العربية في القرن العشرين وما بعده، حق الفهم يتوقف على فهم ما بعده، وهذا المابعد هو الإطار الحقيقي والمرجع الأصل، وأقصد به كل المثقفين والمفكرين الذين يحتلون الساحة الفكرية والعلمية في القرن الواحد والعشرين.
لقد حاولَ المفكر المهدي المنجرة أن يبيّنَ أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمغرب خصوصا، والدول العربية عموما غير طبيعي، إذ يشوبه وتعتريه مجموعة من العوائق والمشاكل التي تحول دون تقدمه وتوازنه اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وبالتالي فهو في حاجة إلى تغييرٍ بِناءً على تحليلٍ علمي دقيق ونظرةٍ مستقبليةٍ عميقةٍ، وبالاستناد، كذلك، على دراسات وأبحاث علمية.
إن المهدي المنجرة عند جمهور القراء، ومنهم كاتب هذه الكلمات، والمثقفين كان، ولا يزال، مثالا للمفكر والمثقف العمومي، صاحب الثقافة الواسعة والنظرة الثاقبة والفكر المبدع. هو مثال المفكر الذي يكتب للشعب بلغة واقعية وصريحة، مفهومة و بعيدة عن مكر السياسة وخالية من الخيانة. يكتب بلغة بسيطة يعبر فيها، بكل حرية، عن قضايا المجتمع والدولة بشكل عام . إن المهدي المنجرة بثقافته الواسعة وإنتاجه الفكري الضخم، ساهم في اتخاذ مواقف نقدية، كما كان له دور رئيس في توجيه رؤى الشأن العام، انطلاقا من كونه خبيرا ومفكرا معروفا لدى جمهور القراء. إنه مثال المثقف العام الذي تتجاوز ثقافته حد الاختصاص نحو مجالات ومساع أخرى اكثر ارتباطا بالمجتمع، وذلك بناء على تحليله العقلاني ونظرته المستشرفة للمستقبل التى تتوخى التغيير والإصلاح. إنه بتعبير " ريتشارد هوفشتاتر" منشئ لطبقة، ولقوة اجتماعية منفصلة تتساوى مع الاحتجاج السياسي والأخلاقي".
1-نحو مفهوم شامل للمثقف و الثقافة:
بادئ ذي بدء سنتحدث عن مفهوم المثقف، عموما، والمثقف الغوغائي أو العمومي بتعبير عزمي بشارة على وجه الخصوص، وسنقوم بالتركيز على دور هذا الأخير في قيادة وتسيير أمور المجتمع بطريقة علمية وبتفكير رصين من جهة، وفي توجيه الرأي العام من جهة ثانية.
كثيرا ما كنا نسمع كلمة مثقف، سواء كان عضويا بتعبير المفكر الماركسي انطونيو غرامشي أو عموميا بتعبير المفكر عزمي بشارة أو شموليا بتعبير ميشال فوكو أو أصيلا بتعبير علي شريعتي أو ثوريا بتعبير محمد عابد الجابري، فيحلق ذهننا بعيدا إلى فئة معينة ومتخصصة، نحو الشخص ذي الثقافة العالمة، الذي يستطيع أن يكتب في جميع المجالات والاختصاصات بمختلف اللغات، أو الشخص الذي تلقى تكوينا وتعليما أجنبيا يسمح له بترجمة واقعه العربي واستبداله بآخر غربي، باعتماد مناهج غربية. إذن، فماذا نقصد بلفظ " المثقف"؟
إن لفظ مثقف بالعربية، حسب عزمي بشارة، غير مشتق من مرحلة الخلافة والسلطنات والإمارات التي سميت دولا إسلامية على أنواعها، فهو ليس قديمًا قِدم الدولة، بل هو "مترجم في عصرنا . ولكن المصطلح المترجم، لا يصبح مفهوما إلا إذا أخذ في الاعتبار الظواهر المحيطة به والتي لا يفسرها، وإذا لم يميز الظواهر التي يفسرها من تلك الشبيهة أو القريبة من تلك التي يفسرها. المصطلح مترجم من القرن التاسع عشر الأوروبي، وبالتحديد من مصطلحات مثل intellectual و Literati ، Scholar والأبرز من بينها ، والأقرب إلى موضوعنا هو مصطلح intellectual الوارد من صفة أطلقت على العاملين في مجال الفكر والأدب تحديدا، والذين اتخذوا مواقف من الشأن العام في فرنسا في القرن التاسع عشر بصفة كونهم مثقفين، وقد استخدمها النقاد لاحقا بكثافة في وصف دور إميل زولا ومن معه من المثقفين في سياق توقيعهم عريضة سياسة انتقدوا فيها العداء للسامية الذي رافق محاكمة الضابط اليهودي الفرنسي " درايفوس"(1894-1899)، وفبركة الأدلة في محاكمته . لقد اجتمع هنا رجال فكر وأدب على اتخاذ موقف مشترك من قضية سياسية راهنة أشغلت المجتمع الفرنسي في حينه. وهذا المصطلح يوازيه مصطلح " أنتلجنتسيا" بالروسية كما صاغه مثقفو الحركة الشعبية الروسية، والذي لا يرتبط بالمؤهل أو الدبلوم العلمي أو الاختصاص بل رفض الواقع السائد وتغييره من منظور المذلين المهانين أي الشعب . والمشترك بين المصطلحين الفرنسي والروسي هو رفض المثقفين الواقع القائم، وأداء الوظيفة النقدية ، ورفض أن يكون المثقف كلب حراسة للوضع القائم، وهو ما واصله أمثال جان بول سارتر في القرن العشرين." ويضيف في موضع آخر قائلا: إن مصطلح أنتلجنسيا أصبح يستخدم في وصف فئة من المتعلمين والخبراء العاملين في مجال التفكير كمهنة، مدرسين كانوا أو صحافيين أو خبراء أو مهندسين أو علماء من العاملين في مجالات المعرفة والعلم، من دون أن يكونوا من المفكرين المبدعين( أي الذين يقدمون إنتاجا إبداعيا، فكريا كان أو أدبيا) الذين يرون أن من واجبهم اتخاذ مواقف من المجتمع والدولة وغيرها. وفي نفس السياق نجد إدوارد شيلز يعرف المثقف
قائلا: " المثقفون هم في أي مجتمع مجموعة من الأشخاص الذين يوظفون في معاملاتهم وعباراتهم رموزا عامة ومرجعيات مجردة متعلقة بالإنسان والطبيعة والكون بكثافة أكثر من أفراد المجتمع الآخرين. والفرق بينهم وبين بقية أفراد المجتمع هو، فرق في الدرجة وليس في الكيفية، ويمكن التفاوت في القدرة على توظيف المعارف في قضايا عامة ومجردة متعلقة بالمجتمع والإنسان والطبيعة ككل. هنا يظهر المثقفون كأنهم فلاسفة الحياة العادية والشأن العام."
يفيد هذا، فيما يفيد، أن المثقف ليس شخصا يتقن أكبر عدد من اللغات، ويتكلم ويكتب في مختلف المجالات والاختصاصات، وليس المثقف من يتقن فن الحوار والخطابة والتفلسف، وليس المثقف من يحتل منصبا محترما. المتقف من يفكر للغير ويتكلم بلسان الآخر المسلوب. المثقف هو الذي يشكل مصدر إزعاج متواصل للسلطة. المثقف هو الذي يعيش اللاعلاقة واللا إدماج مع السلطة، وفي المقابل تربطه علاقة حب حارق وعشق أبدي مع المجتمع ومشاكله. المثقف هو الذي يتكلم باسم الشعب المريض، هو من يتكفل بعلاج أزماته المختلفة. المثقف هو الذي تسكنه المقاومة، هو الذي يسكنه التغيير والنقد والإصلاح. إن المثقف بمفهومه الغرامشي "هو صاحب مشروع ثقافي يتمثل في "الإصلاح الثقافي والأخلاقي" سعيا وراء تحقيق الهيمنة الثقافية للطبقة العاملة بصفة خاصة وللكتلة التاريخية بصفة عامة ككتلة تتألف في الحالة الإيطالية لعشرينات القرن العشرين (وغرامشي يفكر من داخل السجن) من العمال بالشمال والفلاحين بالجنوب و"المثقفين العضويين" الذين لهم قدرة صياغة مشروع "إصلاح ثقافي وأخلاقي" وإرادة هزم الكتلة التاريخية القديمة المؤلفة من برجوازية الشمال وإقطاع الجنوب و"المثقفين التقليديين" أصحاب المشروع الفكري المحافظ والإيديولوجيا السياسية اليمينية المرتبطين بالكنيسة والإقطاع." فإذا التفكير الأوروبي الحديث يقول بأن من واجب المثقف إن يعالج مشاكل المجتمع، فإن مثل هذا التفكير ومثل هذا المبدأ يمكن أن يطبقَ على المجتمع العربي، كما يطبق على المجتمع الغربي.
إن المثقّف ذَا الفكر التّنويري المبدع أو ذا الملاحظة العلمية الدقيقة النافذة يستطيع أن يخلق بفكره الواسع وتفكيره الرصين تجارب تكون أقرب للواقع الإنساني.وحسبنا، هنا، أن نوردَ قول المفكر والمثقف المغربي الراحل محمد عابد الجابري بخصوص مفهوم المثقف ومسألة المرجعية . يقول في كتابه" المثقفون في الحضارة العربية": " المثقف شخص يفكر، بصورة أو بأخرى، مباشرة أو لا مباشرة، انطلاقا من تفكير مثقف سابق، يستوحيه، يسير على منواله
، يكرره، يعارضه، يتجاوزه...ليس هناك مثقف يفكر من الصفر. التفكير تفكير في موضوع، والموضوع إما أفكار وإما معطيات الواقع الطبيعي أو الاقتصادي أو الاجتماعي...الخ. فإذا كان الموضوع هو الأفكار والأراء والنظريات التي قال بها مثقفون في زمن مضى أو في الزمن المعاصر، فإن المثقف الذي يفكر في مثل هذا الموضوع يفعل ذلك داخل مرجعية ثقافية. أما إذا كان الموضوع من معطيات الواقع فان التفكير فيها يتم بتوسط مفاهيم ونظريات واليات في التفكير ترتبط، ولابد، بمرجعية معرفية معينة."المثقف دائما مدان، إما بتهمة الدفاع عن الشعب أو بتهمة الوقوف والتآمر ضد السلطة.
بناء على ما سبق، نستطيع القول، إن العلة التي تجعل شخصا ما يكتسب صفة المثقف كاملة هي ارتباطه الشديد بقضايا الإنسان والمجتمع والمجال العمومي عموما، وقدرته كذلك على توجيه التفكير والدفع به نحو التغيير والإصلاح والمراقبة، هذا إلى جانب قدرته على تحليل الواقع بناء على خلفية معرفية أساسية يكون قد اكتسبها واستوحاها انطلاقا من تجاربه المتنوعة، كما نجد، أيضا،أن صفة المثقف تتجلى في قدرته على اتخاذ مجموعة من المواقف استنادا إلى قاعدة معرفية تمكن من التوصل إلى أحكام منطقية وعلمية.
أما بخصوص، مفهوم الثقافة فإننا نستطيع القول، ببساطة، "إن الثقافة هي كل ما تبقى بعد نسيان كل شيء." إن هذا التعريف يختزل مجموعة من الأمور التي تجعل من الثقافة عنصرا مهما ومستمرا عبر الزمان والمكان. أن مفكرا وعالم اجتماع من طينة ابن خلدون عبد الرحمن (1332-1406م). نجده قد أشار إلى مفهوم الثقافة في إطار حديثه عن الدولة والحضارة، هذه الأخيرة التي تعد أعلى مراحل تقدم الدولة وثقافتها. مشيرا في نفس السياق إلى أن " طور الدولة من أولها بداوة، ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه، واتساع الأموال . والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع". أما الباحث والعالم الانجليزي إدوارد تايلور Edward taylor 1832-1917) فقد أشار الى مفهوم الثقافة في كتابه مستهلا به كتابه الموسوم ب " الثقافة البدائية 1871 قائلا: " الثقافة او المدنية Culture or Civilisation هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقانون، والعرف، وأي قدرات أو عادات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع".
إن هذا التعريف الجامع والمانع لكل مكونات الثقافة قد أثر تأثيرا قويا في كل المثقفين والمهتمين بالحقل الانتروبولوجي .إن الثقافة بهذا المفهوم عبارة عن ذلك الكل المكتسب المكون الذي يغطي جل المجالات الإنسانية من ( معارف، سلوكات، صناعات).
2-الثقافة بوصفها تراكمات معرفية:
يختلف الإنسان من مجتمع لآخر، وذلك حسب انتمائه لثقافة معينة، إذ الثقافة المجتمعية هي التي تحدد انتماء الشخص، كما تحدد أسلوب تفكيره، فالمجتمعات التي تعرف مثلا نمط تعليم جيد ورفيع المستوى، تجدها تزخر بتراث فكري وثقافي هائل، وهذا التراث هو الذي يعكس حياة الإنسان. والثقافة بهذا المفهوم، ينضوي تحتها مثقفون قادرون على فرض آرائهم الفكرية والنقدية، من خلال نظرتهم المستقبلية وتحليلهم العلمي. وهذا النوع من الثقافة يحوي أيضا فئة مثقفة قادرة على وصل ماضيها بحاضرها من خلال ثقافتها الواسعة والممتدة عبر الزمن.
3-المثقف والسلطة كثيرا ما نجد أن كلمة مثقف، بمعناها الفكري الواسع، ترتبط ارتباطا قويا بمفاهيم ومصطلحات من قبيل السلطة والسلطان وكل ما له علاقة بفلسفة الإصلاح والتغيير، ومن هنا وجب القول إن من واجب المثقف، في علاقته بالسلطة، أن يفكر ويكتب وينتقد، ومن واجب المجتمع أن يضمن له الحق في ذلك في حدود الممكن. إن المثقف، بصفة عامة، تجمعه علاقة تأتير وتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه، إنه في علاقة تفاعل دائم مع المجتمع الذي يعيش فيه، فهو يؤثر فيه بإبداعاته ونشاطاته الفكرية والعلمية، والمجتمع بدوره يسهم في حيوية المثقف من خلال توفير الشروط اللازمة وتهيئة الجو المناسب لعنصر الإبداعية الحرة ، إذ هو جزء من إبداع المثقف وتفكيره. إن مفكرين ومثقفين أمثال بيير بورديو، محمد عابد الجابري، المهدي المنجرة، غرامشي انطونيو، جون بول سارتر، مصطفى محمود، علي شريعتي، عاشوا علاقة اعتباطية مع السلطة، ودليلنا في هذا القول هو هذا المقتطف: "فعندما مثلا اعتقل ساتر خلال الثورة الفرنسية التي كان يقودها قال لهم آنذاك رئيس فرنسا: أطلقوا سراح سارتر، فإنكم اعتقلهم فرنسا كلها". هنا نستشف أهمية المثقف ودروه في الإصلاح الثقافي والأخلاقي، ودروه أيضا في توجيه تفكير ووعي الشعب، والدفع بالشعب الى مراجعة القرارات التي تمرر عليه وهو في سبات عميق.
4-نحو تقسيم ثلاثي للمثقف:
كل الناس مثقفون، هكذا قال ، وهذا الكل، في نظرنا، يتضمن، في أساسه أنواعا، والباحثون الأكاديميون حسموا في الموضوع بتقسيمهم المثقفين إلى درجات متفاوته حسب الإنتاج الفكري والرؤية النقدية.
الصنف الأول: هذا الصنف مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا. هذا النوع معروف بميوله نحو السلطة، أو لنقل أنه يسخر معارف لخدمة السلطة وسياستها. "إنه حسب الباحثين عبارة عن فئة ملتزمة بتبرير سياسة النظام، أو هي كما يحلو للبعض أن يسميها ب" وعاظ السلطان" فهي تشرف على تنفيذ خطط الدولة وسياستها وتحاول إضفاء الشرعية على نظامها. هدفها الرئيسي خدمة مصالحها وكسب رضاء السلطان ورجال دولته البارزين، تأتمر بأوامرهم وتبرر نواهيهم. وأصحاب هذه الفئة لا يجرؤون على النظر إلى مجريات الأمور نظرة علمية وموضوعية، ولا تحليل الأوضاع الاجتماعية والسياسية تحليلا علميا دقيقا لأنهم منخرطون فيها.
الصنف الثاني: هذا النوع أعلى مرتبة من الصنف الأول، إذ هو يحاول العمل بطريقة علمية تحلل الواقع تحليلا موضوعيا، " حيث يقوم أصحاب هذه الفئة بجمع الحقائق أو بيانات تتعلق بظواهر أو وقائع أو مشكلات محددة، ثم يقومون بتصنيفها وتحليلها وتفسيرها، وذلك من أجل استخلاص النتائج بطرق علمية دقيقة متطورة.
الصنف الثالث: وهم المثقفون العموميون الذين يسخرون كل جهودهم لخدمة الوطن والشعب انطلاقا من قدرتهم على تحليل معطيات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إن هذه الفئة تعد من أكثر الفئات تأثيرا في المجتمع، أذا ما وجدت الظروف المناسبة لذلك. ويتفق أغلب الباحثين على أن الجامع والمشترك العام الذي يجمع هذا الصنف هو" التعليم الرفيع المستوى، والتعامل بعمق مع الأفكار المجردة وتوليدها والتوليف بينها، والحياد الاجتماعي ، والإبداع، وفهم مختلف وجهات النظر، والالتزام بالقيم الرفيعة، وتبني المواقف الانتقادية تجاه أفكارها وأفكار مختلف الجماعات في المجتمع من أجل تحقيق المثل العليا والكشف عن مدى تحقيق المجتمع لحرية الإنسان."
في الختام، نؤكد على أن مسألة الجهل والتخلف في المجتمعات العربية قائمة، ومسألة الإصلاح نحو التغيير مرهونة بمشاكل هذه المجتمعات المطروحة، كما أنها مقترنة بأفكار المثقف وتصوراته المستقبلية للأوضاع العامة. كما نؤكد على ضرورة الالتزام بالمواقف النقدية المطروحة من قبل الفئة المثقفة لعل أولها يكون مراجعة للقرارات العشوائية واللامعقولة. أو لعلها، ثانيا، تكون سبيلا لخروج هذه المجتمعات من عالم تسوده الضبابية ويلفه الارتجال.
المراجع المعتمدة:
- مجلة دراسات عربية، المثقف العربي، واقعه ودوره، العدد 7، 1990: أحمد سالم الأحمر.
-عن المثقف والثورة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: عزمي بشارة.2013
- المثقف والسلطة: إدوارد سعيد.
- المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد: محمد عابد الجابري.2000.
- مفهوم المثقف، عباس عبد الحليم عباس، 2010.
-المقدمة: عبد الرحمن ابن خلدون، نقلا عن أحمد سالم الأحمر.