في كل دول العالم لا يمكن أبدا تصور ذكر مفردة "دولة" دون أن يتبادر إلى الذهن بشكل تلقائي اسم ملازم بالضرورة ألا وهو "الشعب"، إلا استثناء في هذا البلد العجائبي الذي اسمه المغرب، إذ عندما تسمع عن كلمة "دولة" فاعلم أن لا شأن للشعب بالأمر. فحسب ما جاء في "البلاغ الديناميتي" لوزيري داخلية ومالية المخزن، بوصفهم الوالي صاحب جريمة "النهب المقنن" لأملاك الشعب، واعتباره من "خدام الدولة" فلا علاقة للأمر بذلك المفهوم المتعارف عليه كونيا للكلمة. فمقصود الدولة في المغرب فهي ذلك المجال المكفول لفئة قليلة للغاية ممن تدير شؤون البلاد والعباد بشكل فعلي، ذلك المجال الذي لا يمكن لعامة الشعب المشاركة في إدارته أو حتى الانتماء إليه، فهو مجال لا تشمل أي من تلك المؤسسات المفتوحة لكل من هب، انه ذلك الجزء غير المكشوف للعوام وذلك الجزء الذي يلم من يحكمون البلد بشكل حقيقي..، إنها ببساطة تلك الدولة "الفوق" دولة الشعب الظاهرية. فالدولة هنا ببساطة هو ذلك المجال غير المتاح لكحل الراس، فهي منطقة مكفولة لذوي الحظوة فقط من أصحاب جواز المرور عبر الرضى المخزني وفقط... أما معنى أن تكون "خادما للدولة" فببساطة انك وصلت إلى تلك الجزيرة التي لا يصل إليها أيا كان، جزيرة من يملكون السلطة الحقيقية ومن يديرون البلد بشكل فعلي..، فأن تكون من خدام الدولة يعني انك أصبحت رجل فوق قانون الشعب وانك شخص "محظي" ومحمي من أعلى سلطات البلد، لان هذه السلطات نفسها عارفة أكثر من غيرها أنها نفسها محمية ومحافظة على موقعها بفضل هؤلاء الخدام. أن تكون من خدام الدولة يعني انك غير خاضع لمنطق قانون ولا دستور ولا أي شيء كما بقية الشعب، منطقك هو الأوامر من الدوائر العليا والمكالمات الهاتفية فقط، والتنفيذ طبعا يجب أن يكون دون جدال ولا نقاش، فدرجة الحظوة والمنصب مرتبطة بمدى الامتثال "لولي النعمة"، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. خادم الدولة يعني يجب أن تكون مستعدا لتنفيذ أي شيء من اجل رضا "العتبة الشريفة"، عليك أن تهب نفسك لخدمة النظام وفقط، وتكون مستعدا للتضحية بكل ما تملك من اجل ذلك، وهو بالتأكيد لن يخذلك مادمت من خدامه وأبنائه، بل عليك أن تتأكد انه سيوفر لك أقصى درجات الحماية الممكنة مهما كانت الظروف. ببساطة أيها الشعب ما تراه من مؤسسات ديكورية ومن تسمع عنه من قوانين ودساتير وما تشارك فيه من انتخابات واستفتاءات وكل ما تعتقد انه فعلا يعبر عن دولة بما تحمل الكلمة من معنى ، كل هذه الأشياء يا صديقي العزيز هي موجهة لنا فقط وموجهة لمغربنا الذي ليس مغربهم، هي فقط لتوهيم وتنويم الرعايا وصرف أنظارهم عن من يلعب بمصائرهم ومن يملك السلطة الحقيقية عليهم. تأكد يا صديقي أننا لازلنا نعيش داخل بنية ذات منطق تقليداني قديم، وما كان يحكم (بضم الياء) به أجدادنا هو نفسه ما يسود ونحكم به اليوم، وعقلية النظام المخزني قديما هي نفسها اليوم وكأن شيئا لم يتغير. فمخزن الأمس هو مخزن اليوم، قد يكون جدد هياكله، لكنه لم يتغير أبدا، فما حدث من توزيع لأراضي وأملاك الشعب على علية القوم في البلد من خدام القصر ومن والاه هي أسلوب لم يكن يوما استثناء في منظومة الحكم في البلد لأنه كان دائما من الأساسات والطرق الفعالة في تعامل الملك أو السلطان من نخبته وأعوانه. ففي القديم كذلك المخزن يوزع الأراضي على القبائل التي لا يستطيع هزمها ويقدم الهدايا للزوايا والأفراد اللذين يلعبون أدوارا خطيرة سواء في الصلح أو في تطويع قبائل السيبة، كما يجود أيضا بالمناصب والامتيازات على الأشخاص والعائلات العريقة والشرفاء الذين يشكلون "أعداء احتياطيين" مهددين بالضرورة للمصالح. ومن يتأمل في ماضي "الوالي الفتيت" صاحب الفضيحة سيجد أنه من الشخصيات التي يعول عليه النظام في تنفيذ العديد من "السياسات القذرة" فتاريخه الأسود في طنجة وتطوان والمناطق التي ولي عليها شاهد على ذلك. ببساطة لاشيء تغير في المضمون وان كان الشكل يبدو على غير ذلك، فالصورة قديما هي تماما الموجودة حاليا مع تغير بسيط في الأسماء والعناوين فقط. فبحسب العرف المخزني منذ القدم "فأوفياء العتبة الشريفة" يحظون بكل الرعاية والامتيازات الممكنة مقابل إخلاصهم ووفائهم له، فالمناصب والوظائف والتشريفات والهدايا القيمة كلها وسائل للمكافئة والاحتفاء بمهمات نجحوا في القيام بها حسب المبتغى والمراد من الدوائر العليا. فما حدث لم يكن اكتشافا جديدا، فالنهب والسرقة القانونية لأموال هذا الشعب كانا جزءا من تاريخنا وجزءا من بنية النظام برمته من كبيرهم إلى اصغر العنقود في السلطة، فمنطق الخدمة والهبة وثقافة رعاية الأعيان وسريان سلوك الزبونية والقرابة والوساطة هو من أسس وركائز دولة المخزن التي بها يضمن هو نفسه بقاءه واستمرار يته. فالوالي "الفتيت" أو حتى غيره ممن يطلق عليهم خدام الدولة هم فعلا خدام دولة لكن ليست دولة الشعب، إنها دولة بمنطق "لويس الرابع عشر" صاحب القولة الشهيرة "الدولة أنا وأنا الدولة" فكما اختزل ذاك الملك الفرنسي كل شيء في البلد في شخصه هو فقط، كذلك الأمر في هذا البلد العزيز فهناك شخص مثله يختزل كل شيء في شخصه هو فقط. فلولا الدعم والحماية ممن هو في أعلى السلطة في البلد لما استطاع ولا تجرأ احد ممن يتولون إدارة أمور الشعب على مد أيديهم على أمواله وأملاكه ، إن ذلك ببساطة من طقوس الحكم القديمة والتي لا تزال سارية إلى اليوم، فبفضل الدعم والدفع والحماية المخزنية تنفتح الطريق نحو هؤلاء في دوائر صناعة القرار وتتراكم السلط والامتيازات وتصير لمن يشمله هذا الدعم "الكلمة" في تدبير المجال الذي يكونون وصايا عليه، بل يغدو حائزا على رأسمال نوعي يفوق في قوته وفعاليته كل الرساميل الأخرى المتعلقة بالنسب والجاه والمال والكفاءة المعرفية. ببساطة والي صاحب الجلالة المحترم لم يقم بأي شيء خارج القانون بالعكس فالرجل يعبر عن قدر كبير من الالتزام والمحافظة على تاريخ البلد، فالريع وسرقة أموال الشعب لإعطائها لخدام الدولة ومن أسدوا خدمات جليلة للنظام كانت دائما جزء من تاريخ دولتنا، فالأمر إذا لا يحتاج إلى كل هذا اللغط...