كانت ظروفا يكتنفها الكثير من الغموض واللبس تلك التي أحاطت بموت وزير دولة اختار، أو اختير له، أن يشتغل بدون حقيبة إلا حقيبة الراتب الشهري الذي يكلف الميزانية العامة أكثر من 540 مليونا سنويا، وتُركت مهمة فك ألغاز وطلاسم ذلك الحادث لعامة الناس الذين كثُرت اجتهاداتهم لتصب كلها في خانة التآمر على قتل الفقيد. ونحن أمام جلال الموت ورهبته لا نملك إلا أن نقول رحم الله "باها" .... رحم الله رجلا نذر نفسه للصمت حيا، فأبى الموت إلا أن يكون صوته أعلى نبرة من كل رفقاء دربه!! مات الرجل وترك لحزبه حدثا بارزا يستثمر فيه... فها هو حزب العدالة والتنمية، بعد أن تآكلت شعبيته بشكل مفرط وصار أدنى إلى الجلوس مع الاتحاد الاشتراكي والاستقلال وأخواتهما أمام زاوية سيدي بلعباس للتسول السياسي، يجد نفسه في بؤرة الاهتمام الشعبي، ويحظى بغير قليل من التعاطف مع جمهور غفير تستهويه نظرية المؤامرة حتى دون إدراك لماهيتها، وله قابلية لاتهام النظام ورفع ضحاياه المفترضين إلى مستوى القداسة.... فها هو حزب العدالة والتنمية يؤكد، مرة أخرى، أنه "براغماتي" ضليع، يبرع في استغلال الحدث بمهارة السياسيين المخضرمين، ويحول "فناء رجل" إلى عملية "إحياء" لحزب انتهى عمره الافتراضي، سيرا على نهج حزب لا زال إلى اليوم يستمد شرعيته من "الثرى" الذي غيب رجلا وُضع في مصاف القديسين ولم يجرؤ أحدُ يوما عن الحديث عن ولائه المطلق للمعسكر الشيوعي!! مات "رجل" والتزم خصومه السياسيون الصمت، أمام دقّة الموقف وصعوبة الوقوف أمام تيار جارف من التعاطف الساذج من شعب رآى يوما ملكا على صفحة القمر، وأمام لغز يقتضي عدم التسرع في الانحياز إلى موقف معين حتى تتضح الصورة وينجلي غبار الحادث، على الرغم من الاحتفالية الزائدة لحزب "الرجل الصامت" التي تؤشر على بدء حملة انتخابية سابقة لأوانها من خلال مأتم مما يُخل بفرص التكافؤ السياسي بين الدكاكين السياسية! وكان لافتا أن تُخصص الجرائد المغربية "العلمانية" مساحات مهمة من صفحاتها للحديث عن خصال الراحل و"كاريزميته" وعن التفاصيل الدقيقة ل"مهرجان" الدفن و"فعاليات" المأتم بأسلوب يقترب من "الدعائية" لحزب اعتادت أن تُجلده بمناسبة وبغيرها... فهل هو تصرف تلقائي أم استجابة لتعليمات!! كل ذلك يقرّبنا من الافتراض الآتي، والذي هزّني في لحظة جنون عابر "ولا تنسوا أن مع المجانين سهم صائب"! : وقبل إيراد الافتراض المجنون سوف نضع صوب أعيننا القاعدة المحورية في علم الإجرام التي مؤداها "إذا وقعت جريمة فتش عن المستفيد"، ثم نتجاوزها للحديث بشكل "جنوني"! لا يتجادل اثنان في أن الساحة السياسية تشهد، راهنا، عزوفا جماهيريا لا مثيل له في مغرب ما بعد الاستقلال، بعد أن فقدت الأحزاب، أو الدكاكين، السياسية قواعدها الشعبية، وصارت شبيهة بالميت الإكلينيكي الذي تم الإبقاء عليه حيا لمنافع مادية! وكان النظام المغربي محظوظا بشكل بالغ حين وجد في رفوفه حزبا ملفوفا في "قماط" أيام كانت معركة 20 فبراير مستعرة، فاستطاع بواسطته أن يمتص الغضب العارم ويفتت الاحتقان الشعبي. واليوم، وأمام استمرار ذلك الفراغ السياسي الرهيب والخوف من مخاطر الاضطرابات الاجتماعية، وأمام التعاطف الشعبي الكبير مع الحركات الإسلامية إثر سفور الدول الرجعية عن وجهها القبيح اتجاه ثورات ما بات يسمى بالربيع العربي ... اليوم بات النظام في حاجة إلى "إعادة التدوير/Recyclage" لحزب العدالة والتنمية حتى يكون مؤهلا، نظريا، ليكون شمّاعة سياسية للمرحلة القادمة في انتظار خلق بدائل له في المستقبل المنظور، لاسيما بعد أن تم استنفاذه تماما من خلال جعله مشجبا للسلبيات التي تراكمت خلال ولايته، وهي الحقبة التي مرر فيها النظام مشاريع ورسائل ومخططات ما كان ليمررها في ولايات أحزاب أخرى! فها هو حزب العدالة والتنمية ينفض عنه الرماد كطائر الفينيق ليعود من بوابة الموت إلى الحياة السياسية في فصل من فصول "التراجيكوميديا" التي اعتاد المغاربة على مشاهدتها في شبه لامبالاة!
فهل يمكن فهم ذلك الموت الغامض على ضوء ذلك الافتراض "المجنون"؟