«ستنتصر المقاومة، وسيخسف الله الأرض بالصهاينة المجرمين، وستنال فلسطين استقلالها التام وستكون القدس الشريف عاصمة متوجة لأرض الكنعانيين المقدسة... فما ضاع حق وراءه مطالب... وسنظل على العهد يا فلسطين، وسنفديك بأرواحنا ودمائنا إلى أن نحرر آخر شبر فيك، ونقتل آخر صهيوني يختبئ خلف حجارتك أو أشجارك العامرة». كلمات جميلة حلوة رنانة تطرب السمع وتأسر الأفئدة.. كلمات كان يكفيني أن أدبج على شاكلتها مقالا بطول هذا العمود كي أنال التصفيقات والهتافات من البعض، والرضا والحبور من البعض الآخر.. كلمات شعبوية تدغدغ الأحاسيس وتقي من حمى الاختلاف وحتى السب والشتم أحيانا.. وهي ذاتها الكلمات التي قد يرددها بعض الكتبة المارقين عن دنيا المنطق والواقعية، وهم يعلمون أنها تكفي لجعل الناس يهتفون بالأسماء ويضربون الأكف بالأيادي تحية وإكبارا. ولكن.. «الهدرة ما تشري خضرة» كما تعلمون بالفطرة، أيها القراء الكرام.. وعالم الواقع يختلف بشكل تام عن عالم الأحلام والمشاعر والقلوب الجياشة بالنحيب والبكاء.. الواقع شيء آخر لا يعترف إلا بالميدان معتركا.. الواقع، سادتي الكرام، لا يعترف بالشعارات والمسيرات وشحنات الغضب التي نكتفي بتفريغها آناء كل مسيرة أو خطبة على التلفاز. لقد سبق وأن تطرقت إلى هذا الموضوع من قبل، وسبق لي أن قلت إن فلسطين لن تتحرر بالمقاومة كما هي الآن، كما لن تتحرر بالمظاهرات ومسيرات الغضب.. ومن أجل هذا تلقيت عتابا ولوما وتقريعا كان خفيفا ذات حين وشديدا ذات أحيان أخرى.. وقال لي البعض ممن نشدوا النقاش عوض السب أن صوتي كان عدميا سوداويا أغلقت معه كل الآمال والأبواب، واتهمني البعض الآخر بتعجيز الجماهير، وتحريض الناس على نسيان فلسطين وعدم المشاركة في المظاهرات بصفتها أضعف الإيمان الممكن فعله في حق فلسطين. طيب، إليكم حقيقة الواقع، حسب فهمي المتواضع، أعرضها بكل الهدوء والوضوح الممكنين: إسرائيل هاجمت موكبا إنسانيا أعزل على قارعة المياه الدولية، واغتالت ما شاءت لها غطرستها من الأرواح دون أن تطرف لها عين، لأن العين ليست بالعين والسن ليست بالسن.. فكروا معي بشيء من العقلانية.. إسرائيل ليست خائفة من أمريكا لأنها هي من يحكم أمريكا أساسا، مما يعني أن إسرائيل بالفعل تحكم العالم، والدليل على هذا أن دول الاتحاد الأوربي ومعها الصين واليابان وحتى أمريكا التي فقدت مواطنا لها في الهجوم، اكتفت جميعها باستعارة بضع جمل من «القاموس العربي لعبارات الشجب والتنديد»، وبضع دعوات عابرة للقارات، من هنا وهناك، تطالب السيدة إسرائيل بالتكرم ورفع الحصار عن «الغزاويين».. ثم كفى الغربيين حقوق الإنسان... وحتى أوباما الذي حلمت به الجماهير العربية المسكينة ذات «قاهرة» غابرة، اكتفى بتفهم قرار نتنياهو بالعودة إلى تل أبيب وإلغاء زيارته للبيت الأبيض، ووعد مجاني لأردوغان على الهاتف بفتح تحقيق نزيه وشفاف ومحايد في قضية أسطول الحرية.. ثم لا شيء. ماذا عنا؟ ما هي أسلحتنا؟ ما هي مرتبتنا على سلم الأسلحة والتنمية والتقدم؟ هل نحن قادرون على هزم إسرائيل عسكريا ونحن ال400 مليون من المساكين إلى الله، وإلى شؤون الحرب والوغى؟ هل ستتمكن المقاومة من طرد كل الإسرائيليين وبناء دولة قوية وهزم رابع قوة عسكرية في العالم بمجموعة من الصواريخ التي توقفت عن السقوط أساسا، أو بواسطة عمليات فدائية دخلت أرشيف المقاومة من بابه الواسع؟ حتما.. بعيدا عن الأحلام، وبعيدا عن الدونكيشوطيات العنترية الواهية، أنتم تعلمون الجواب عن كل سؤال أعلاه.. فما العمل إذن؟ تظاهروا أنى شئتم واصرخوا ونددوا واشجبوا وادعوا على إسرائيل بالزوال والويل والثبور، ولفلسطين بالاستقلال والسلام والحبور.. فلا يوجد عاقل واحد سيطالبكم بالتوقف عن هذا.. ولكن.. في نفس الوقت، اجتهدوا، واعملوا، وتثقفوا، واقرؤوا يا أمة اقرأ، واملؤوا رؤوسكم بالأفكار، وابدعوا، وفكروا، ثم تقدموا، وأنتجوا أسلحة وأنظمة اقتصادية وتعليمية قوية، وحينها فقط ستفهمون أن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، والقوة في حالتنا هذه هي ذلك التقدم الحضاري الذي لم تعد تصلنا به حتى تلك المسكينة المسماة «زغبة معاوية».