منذ مدة والأصوليون بكل تلويناتهم يشنون حربا بدون هوادة على الفن والفنانين، وقد أخذت هذه الحرب عدة أشكال، من البيانات إلى الوقفات إلى طرح الأسئلة في البرلمان إلى وقف الدعم المالي على مستوى البلديات، كما وقع في القصر الكبير وقبله في صفرو وقبل أسابيع في الدارالبيضاء، حيث تم سحب التمويل عن أكبر تظاهرة للمسرح في المدينة الصناعية ... إلخ. وتطرح هذه الحرب أكثر من سؤال حول مدى تشبع الإسلاميين بقيم الاختلاف والتعدد الثقافي وحرية التعبير، ولكنها أكثر من ذلك تطرح سؤالا مهما حول مدى فهمهم لقضايا الفن في حد ذاته ومقتضياته وشروطه. لأن مقاربتهم للفن هي إيديولوجية حتى النخاع، فالإسلاميون لا يرون أنفسهم معنيين بفهم إشكاليات الفن وتاريخه والنقاشات التي تدور حوله وعلاقته بالإيديولوجيا والدين. لهذا تأتي آراؤهم ومواقفهم حول الفن مليئة بالفرضيات الخاطئة، بل متشبعة بالآراء الساذجة، وكأننا مازلنا في القرون الوسطى، وكأن حركات التنظير للفن من سوريالية وتجريدية وبنيوية وما بعد بنيوية وما بعد حداثية ودراسات ثقافية وغيرها لم تغير نظرتنا للفن بطريقة راديكالية وإلى الأبد. مع الفضلاء الأصوليين أجد نفسي، كل مرة، كأني يجب عليّ أن أبدأ من الصفر، من الأبجديات، من البدايات، لمناقشة أفكارهم ومواقفهم. بمعنى آخر، شروط النقاش غير متوفرة، لأنه يبدو أننا نناقش أناسا يتطاولون على تناول موضوع دون أن يلموا بكل جوانبه ومن كتب عنه والنظريات التي نُسجت حوله على الأقل خلال القرن العشرين. سأحاول تلخيص بعض هذه الجوانب في هذه المقالة، معترفا بأنني سوف لن أوفي الموضوع حقه نظرا لضيق المجال. أكبر خطيئة يقترفها الإسلاميون في حق الفن هي حين يقولون بأنه يجب عليه أن يعكس القيم الثقافية المغربية. هذا يبين مدى جهلهم العميق بقضايا الفن وبالتطورات التي عرفها على مر السنين. أولا نظريات الانعكاس أكل عليها الدهر وشرب، لأنها ترى في الفن مرآة تعيد بصورة ميكانيكية تصوير الحياة. إذا كان الأمر بهذه السهولة لماذا نحتاج إلى الفن؟ لماذا لا نطور آليات التصوير الفوتوغرافي ونضع البرامج الوثائقية والدراسات الوصفية وغيرها من الأنماط التي «تعكس» المجتمع وقيمه ونتخلى عن الفن؟ ما يجهله الأصوليون هو أنه حتى هذه الأنماط المفترض فيها أنها تصور بأمانة الواقع هي ليست «بريئة» مائة في المائة لأنها تقتضي نوعا من الاختيار بين الكم الهائل مما هو قابل للتصوير وتقتضي قالبا معينا للترتيب وقالبا خطابيا، وهذه كلها ليست أشياء «طبيعية» ولا تأتي بمحض الصدفة، بل تنم عن اختيارات تتدخل فيها أمور مثل الحس والإيديولوجيا والموقف، وهي أمور «تقوض» نقاوة الانعكاس المفترض بين الواقع والصورة. إذا كان هذا حال ما يُفترض فيها أنها أنماط وفية للواقع، ما بالك بالفن الذي هو ذاتي حتى النخاع، ويعبر عن اختيارات شخصية وميولات تتداخل فيها كثير من الأشياء التي لا سيطرة لنا عليها؟ ماذا تعكس مسرحيات شكسبير وسيمفونيات بيتهوفن وروايات دوستويفسكي ولوحات بيكاسو؟ إنها تصور واقعا معقدا ومقلقا، قريبا من حياتنا وبعيدا عنها في الآن ذاته. إنها إعادة تركيب للواقع في حلة جديدة، مختلفة وغريبة ولكن ممتعة. الانعكاس لا يوجد إلا في الإنتاجات الدعائية الرديئة، سياسية كانت أو دينية أو إيديولوجية. حتى حين نتكلم عن الواقع، فإن هذا الأخير ليس معطى يتفق عليه الجميع. إن الواقع هو نتيجة خطابنا حول الواقع، أي أن الواقع هو بناء نبنيه من خلال تصورنا وتمثلنا لما نعتبره أنه «حقيقة» الأشياء. لو كان لنا فهم واحد للواقع لما كتبنا آلاف الكتب حوله، ولما اختلفنا عليه كلما فتح أي منا فمه للحديث عنه. الواقع بناء خطابي يحاول تمثل علاقتنا بالحياة في جانبها الحسي وجانبها غير المرئي. إذاً حين نقول بأن الفن يعكس الواقع، فإن ذلك يعني أنه يعكس تمثلنا للواقع، أي أنه بعيد وبطريقة مركبة عن الواقع. الواقعية هي فقط حركة أدبية لا تعترف بكونها خطابا، على عكس التأثرية والتعبيرية والتكعيبية والتجريدية وغيرها. من جانب آخر، هل نتفق جميعا عما نعنيه بالقيم المغربية؟ ماذا نعني بذلك؟ وكيف نحدده؟ وأين هي هذه القيم؟ ومن يقول لنا ما هو مغربي أصيل وما هو غير مغربي؟ وحتى إن اتفقنا على هذه القيم، هل من يعكس هذه القيم فنان ومن لا يعكسها غير ذلك؟ لنفترض أن أحدنا كتب رواية يعكس فيها الثقافة المغربية من كرم وإحسان وتعاطف وشهامة وفخر ومروءة إلخ، فيبين كيف أن المغاربة هم شعب مضياف وشعب متستر وحشوم ولكنه فخور إلخ... من المؤكد أن هذه الرواية ستكون مملة، رتيبة، دعائية وذات قيمة أدبية متخلفة. لنفترض أن كاتبا كتب رواية ينتقد فيها كون هذه القيم هي فقط موجودة على مستوى الخطاب، ولكن عكسها موجود على مستوى الواقع. أي أنه هناك فرق شاسع بين التصور والفعل، بين البنية الذهنية والسلوك الاجتماعي، هذه الرواية ستكون نقدية لمدى تمثل المغاربة للقيم التي ينادون بها على مستوى سلوكهم. من المؤكد أن هذه الرواية ستكون ممتعة ومثيرة. تاريخ الآداب العالمية يؤكد هذه الحقيقة: الروايات الخالدة على مر العقود والقرون هي الروايات التي فككت القيم المجتمعية وانتقدتها ونظرت إليها نظرة مخالفة للإيديولوجيا السائدة. لو قام الفضلاء الأصوليون بواجبهم البيتي وقرؤوا النظريات الشكلانية الروسية أو كتاب عبد الفتاح كيليطو حول «الأدب والغرابة» أو كتابات تتزفيتان تودوروف أو رولان بارث أو كمال أبو ديب أو أدونيس أو غيرهم لفهموا وبسرعة أن الأدب يستمد أدبيته من كونه يجعل الواقع غريبا، أي أنه يعطيه بعدا غير مألوف أو ما يسميه الروس ostranenie))، وغير معتاد؛ الغرابة هذه تجعلنا ننظر إليه نظرة جديدة ونفهمه من زاوية جديدة وبطريقة أخرى. ومن ضمن الآليات التي يستعملها الفنانون والأدباء لخلق هذه الغرابة هي تفكيك القيم، وإعادة بنائها لا عكسها في أعمالهم. أضف إلى هذا أن الحديث عن الوجوب فيما يتعلق بالفن معناه أننا نفرض على الفنان ما يقوله. هذا مناف لروح الفن التي تقتضي الإلهام وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية تفكيك اللغة وإعادة تركيب الواقع وخلخلة ما هو مقبول أو معتاد وتجاوزه لما هو غير مألوف... هذه من الأبجديات التي يجب أن يعرفها كل من له ولو نزر قليل من المعرفة حول الأدب والفن. الفن ليس سلعة أو صنعة نشترط فيها مواصفات معينة. الأنظمة التي حاولت وضع وصفات للفنانين (الشيوعية والفاشية والنازية والبعثية والاستبدادية والآن الأصولية) قتلت الحركة الفنية والأدبية وساعدت على نشأة آداب وفنون رديئة، دعائية ودوغمائية لا تحسن إلا التمجيد والمدح و«كولو العام زين». أهذا ما يريده الفضلاء الإسلاميون؟ لا أتمنى ذلك، وأخاف على الثقافة والفن والأدب في بلادنا إذا كانت هذه هي مواصفات الأرضية الثقافية للحركة الأصولية.