أعود إلى موضوع الفتوى، وخوف المؤسسة الدينية الرسمية من "خوصصة" الإفتاء أو عولمته... بحيث يصير المجال الديني مفتوحا على فاعلين داخل المغرب وخارجه. قبل أربع سنوات، جاء الشيخ يوسف القرضاوي، وهو مرجع فقهي كبير، اتفقنا مع آرائه أو اختلفنا معها، وسأله مغربي هل يجوز له أن يأخذ قرضا من البنك بفائدة من أجل شراء بيت يحتمي هو وأبناؤه تحت سقفه، أم إن القرض بالفائدة حرام، وعلى المسكين أن يظل مشردا في دور الكراء.. فأفتاه الشيخ يوسف القرضاوي بجواز أخذ القرض، ليس لأن القرض بفائدة من البنك حلال، ولكن لأن السائل مضطر، وشبّه حاله بحال المسلمين في أوربا، حيث لا يوجد بنك إسلامي يتعامل بمعاملات "لاربوية"، فأجاز له الاقتراض من البنك. فماذا حدث؟ قامت زوبعة لم تهدأ إلى الآن، وخرج فقهاؤنا يتهجمون على الشيخ ويؤاخذونه، ليس على الفتوى، ولكن على تشبيهه المغرب بأوربا، وعلى اعتدائه على صلاحيتهم في الفتوى دون غيرهم... ووعدوا بصدور فتوى من مؤسستهم... فتوى مغربية في الموضوع... مرت سنوات ولم تخرج هذه الفتوى إلى الآن. تنظيم شؤون الفتوى مطلب حيوي، لأن هناك فوضى الآن على مواقع الأنترنت وفي الفضائيات وبعض الصحف، ولكن تنظيم الفتوى يحتاج أيضا إلى هيئات مستقلة وعلماء لهم مصداقية، ولهم شجاعة التصدي لكل المواضيع حتى المحرج منها، أما الاحتماء بالسلطة من أجل احتكار الفتوى فلا يفيد في شيء. فالشاب الذي يجلس إلى الأنترنت، ويطلب الفتوى من عالم سوري أو مصري أو خليجي، لا ينتظر أحمد التوفيق ولا بنيسف ليعطياه الإذن، وهو يفعل ذلك لأنه يعتقد أن العالم الذي يتوجه إليه صاحب علم وفقه، وهو يثق في علمه وفي استقلاليته. في مصر، أفتى شيخ بعدم جواز سجود لاعبي كرة القدم أثناء تسجيل الأهداف شكرا لله وفرحا. لماذا يا شيخنا؟ الجواب: لأن صلاة الشكر تفرض التوجه إلى القبلة، وثانيا لأن الصلاة تتطلب الوضوء، أما ثالثا: فلأن الصلاة تفرض ستر العورة. فقيه آخر، هذه المرة من مراكش اسمه محمد المغراوي، أفتى بجواز تزويج الفتاة ابنة التسع سنوات، ولما صدم الناس برأيه، وتحركت السلطة وأقفلت بعض الجمعيات التي ينشط فيها، هرب إلى السعودية، وقد كان قبل هذه الحادثة يقدم خدمات إلى السلطة باستعمال لسانه السليط للتهجم على جماعة ياسين، وعلى كل من كانت أطراف في السلطة تراه "خارجا على القانون"، تماما مثل الشيخ الطنطاوي الذي أفتى بجواز جلد الصحافيين أمام الملأ. لماذا أمام الملأ؟ للعبرة والتشفي.. تصوروا شرطيا أو مخزنيا يعلق صحافيا في عمود في الشارع العام ويشرع في جلده أمام الناس، حتى أكثر الأنظمة وحشية في عصرنا كانت، ولاتزال، تعذب معارضيها في ظلام الأقبية وليس أمام الناس... أي فقهاء هؤلاء، الذين يفتون بلا نور علم، ولا حكمة عقل، ولا إحساس بالعصر الذي يعيشون فيه. فقيه آخر، أصبح برلمانيا يتمتع بالحصانة –حصن الله الجميع من زلات العقل واللسان- أفتى، قبل سنوات، بجواز قتل المعارضين لأنهم خارجون عن طاعة السلطان، والله سبحانه وتعالى قال: "وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم"، وفعل الأمر في "أطيعوا" يفيد الوجوب والأمر. أكثر من هذا، قال عبد الباري الزمزمي –سامحه الله- عن المعارض الاتحادي المهدي بنبركة، "إن قتله مرة واثنتين وثلاث جائز...". جاءت فتوى الزمزمي عندما اشتدت مطالب الحقوقيين، أثناء عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، بالكشف عن قتلة المهدي.. أي أنها كانت فتوى تحت الطلب «prêt-à-porter». علاقة الدين بالسياسة علاقة معقدة، وعندما تغيب الديمقراطية، تصبح علاقة خطرة، ويصير الدين مشجبا تعلق عليه السلطوية كل عصيها. هل مازلتم تذكرون جدلا ساخنا جمع ما بين وزير الأوقاف السابق، عبد الكبير العلوي المدغري، والفقيه الطنجاوي عبد العزيز بن الصديق، حول صحة الحديث الذي يقول: "السلطان ظل الله في الأرض"، وكان هذا عنوان درس –نعم درس- أمام الحسن الثاني، حيث جعل المدغري هذا الحديث "مدفعية" قوية للرد على خصوم الحسن الثاني، فرد الفقيه بن الصديق على الوزير بالقول إن الحديث ضعيف، فرد عليه آخرون بالقول: ولكن يمكن تقوية الحديث بالآية التي تقول: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم"، فقال الفقيه المتنور لهم إن هذه آية خاصة بالنبي (ص)، ولا تنطبق على الحكام... ومازال الجدل مستمرا. لكن أحسن شيء يمكن أن يفعله طالب الفتوى، أن يستفتي قلبه.. فهو نادرا ما يخطئ.