مشكلتنا أننا مستعدون وجوديا لتفسير كل شيء على أساس خرافي، حتى إذا وقع إناء من على الرف في المطبخ أو سمعنا صوتا نجهل مصدره جزمنا بكون "الجْنون" هم من وراء ذلك... وكلما تعرض جار أو صديق أو فرد من أفراد العائلة إلى اعوجاج في الفم أو تغير في السلوك عزونا المسألة إلى تعرضه لمس شيطاني ماكر... ولا سبيل لعاقل وسط الجماعة لإقناع الآخرين بالرجوع إلى الطبيب عوض "الفقيه" لمعالجة المشكل، لأن الاعتقاد بهذه القضايا يتجاوز العرف ويقع في دائرة الإسلام بعد أن يلبسه العامة رداء الشرعية الدينية فيما الدين منه براء... شرعا لا وجود لشيء اسمه التلبس برأي معظم فقهاء الإسلام، وفي مقدمتهم الشيخ يوسف القرضاوي الذي نفى بشكل قاطع أن يكون الإسلام معترفا بوجود شيء اسمه التلبس، وذلك في إحدى حلقات "الشريعة والحياة" على قناة الجزيرة... أما الحجج التي قدمها فهي عديدة نذكر منها:1- الله سبحانه وتعالى كرم الإنسان وجعله خليفته في الأرض وأخضع له كل كائنات الكون بما فيها الجن المسخر لخدمة الإنسان (وليس العكس) كما هو الحال مع سيدنا سليمان... 2 - يقول تعالى في كتابه: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"... وفي هذه الآية يتضح أن المهمة الحصرية التي خلق من أجلها الجن والإنس هي العبادة، وذلك من خلال التعبير الذي يدل على الحصر"ما... إلا..." كقولنا: "ما ذهبنا إلى المدرسة إلا لنتعلم"، 3- ليس للجن سلطان على الإنس وهذا يتضح من خلال الآية القرآنية التي تقول على لسان الشيطان مخاطبا البشر: "وما كان لي عليكم من سلطان، إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم"... أي أنه لا سلطان له علينا إلا سلطان الغواية. 4- الإنسان كائن عاقل مكلف سيحاسب على أفعاله يوم القيامة، والوحيدون المعفون من المحاسبة هم غير "البالغين"(سن الحُلُم) والمجانين، إذ لا وجود لفئة المصابين بالتلبس لأن سيطرة الجن على عقول البشر لو صحت وثبتت في الدين لذُكِر "الضحايا" ضمن هذه الفئات المعفاة من المحاسبة، لأنها عمليا غير مسؤولة عن أفعالها... 5- الآية التي يستشهد بها أنصار التلبس، الواردة في سياق الحديث عن "الربا"، والتي تشبه مقترفها الذي "لا يقوم إلا كمن يتخبطه الشيطان من المس"، فيقول الفقهاء إن "المس" غير "التلبس" في لغة العرب التي نزل بها القرآن، لأن المس حسي كاللمس فيما التلبس يقضي"الدخول في العقل والسيطرة عليه"... ناهيك عن أن الاحتمال الأرجح يصب في اتجاه اعتبار "صورة المس" تعبيرا مجازيا يعد واحدا من خصائص الإعجاز القرآني، يسميه علماء اللغة "قياس الحاضر على الغائب" أو "تشبيه معلوم بمجهول". 6- الحديث الوارد في هذا الصدد يثبت صحة ما ندعيه هنا، وليس العكس، حيث إن تلك المرأة التي ذهبت عند الرسول (ص) تشكوه "نوبات صرع تلم بها وتجعلها تتعرى" لم تحصل على جواب أو حل في ما يخص "نوبات الغيبوبة" التي تعتريها، وكل ما فعله من أجلها هو الدعاء لها بأن لا تنكشف عورتها عندما "تُصْرع"، وهذا أكبر دليل على عدم اعتراف الدين بالتلبس، لأنه في هذه الحالة كان محمد (ص) ليخبرها بأن ما يقع لها هو تلبس وأن يدعو الله لها ليرفع الجن عنها... لن يقتنع الكثيرون... أعلم هذا... فالبعض سيتذكر بن تيمية الذي جعل الإيمان بتلبس الجن بالبشر جزءا من العقيدة، فيما سيستعين المتشككون بعد هذا المقال بآلاف الحكايات المخزنة في الذاكرة حول أناس يُصْرَعُون فيتكلمون بأصوات وألسن ولغات يجهلونها، وينطق الذكر منهم بصوت الأنثى، والأنثى بصوت الذكر... وهو ما نعدكم بتقديم تفسير علمي مشوق بخصوصه غدا بحول الله في آخر جزء نخصصه لهذا الموضوع...