عرف الوضع الاعتباري للصحافي المهني تحولات كبيرة في العقود الأخيرة جراء انقضاض الرأسمال على قطاعات واسعة من الإنتاج المادي وغير المادي، وفي مقدمتها التعليم والثقافة والإعلام. ويمكن تلخيص ذلك في عبارة واحدة تقول بنهاية الاحتكام للقواعد المهنية الداخلية والخضوع لأوامر سيد العالم وحامي حمى الطبقات والعائلات والشخصيات الكبيرة: المال. نهاية المؤلف- الصحافي تشكلت «فئة/ طبقة» الصحافيين داخل المجتمعات الحديثة في البداية بعدد ضعيف، لكنه مؤثر. كان للصحافيين مهام وعمل مستقل إلى حد ما. كما كانوا يتحكمون في الأخبار التي يتولون إعدادها والأحداث التي يتبعونها ويغطونها. أما الآن، فقد صاروا (في الدول المتقدمة وكثير من الدول الصاعدة..) طبقة كبيرة. فقد ولجت المهنة أعداد هائلة من الصحافيين، ووازى ذلك تحول في الممارسة المهنية، حيث إن حدثا واحدا يغطيه ويتناوله عدد كبير من الصحافيين، حتى إنه يتفرق دمه بينهم: مصدر مراجع- صحافي مترجم- إعادة الصياغة- سكرتير تحرير –رئيس التحرير أحيانا... وهذا ما جعل اغناسيو راموني يقول في كتاب la tyrannie de la communication (الصادر عن دار النشر Gallimard) بنهاية المؤلف في العمل الصحافي، على وزن نهاية المؤلف في الأدب. ولا يشكل الصحافيون هيئة واحدة موحدة متجانسة ومتناغمة، إذ تخترقهم فوارق طبقية/ اجتماعية واختلافات إديولوجية/ سياسية واختلافات في أشكال التعامل مع الآداب المهنية للصحافة، وفي طرق الممارسة الصحافية وتصوراتهم حول الوظيفة الأساسية للإعلام وتدبير علاقته مع السلطات السياسية والمالية. (راموني، ص 104) وعلى صعيد الممارسة، كان الصحافي يتحقق من صحة الأخبار ويرتبها وفق معايير مهنية ويحللها ويكشف أبعادها، ثم تنشر / تبث «المواد» ليقرأها القارئ. أو يشاهدها المشاهد أو يستمع إليها المستمع.أما اليوم، فقد صار إظهار «الوقائع» كما هي (خاصة في التلفزيون) والنقل المباشر للأحداث والإثارة المصاحبة وتحريك الأهواء والعواطف..بمثابة قواعد جديدة أجهزت على وظيفة الصحافي المهني، وجعلت مستقبله في خبر كان. من هنا، تبرز مشروعية التفكير الجماعي في الوظيفة الصحافية عالميا ووطنيا. وهذه إحدى المهام المستعجلة للتنظيمات المهنية والنقابية التي تؤطر الصحافيين وتوحد كلمتهم. هيمنة السلطة المالية عرف الوضع الاعتباري للصحافي تحولا كبيرا، حيث انتقل من الشخص المؤثر إلى العامل أو المستخدم الذي يعيد تصنيع المواد الأولية: قصاصات وكالات الأنباء، نتاجات وأخبار مصادر صحافية أخرى.. كما ظهر الصحافي المتخصص جدا أو المكلف بمهمة صغيرة داخل مهام كثيرة لإنتاج المقال أو الروبورتاج أو البرنامج. لقد حصل تجزيئ وتقسيم كبير للعمل الصحافي إذاعة وتلفزة وصحافة مكتوبة، وازاه أو نتج عنه تحول في مفاهيم ومبادئ الممارسة الصحافية التي لم تعد تتحكم في قواعدها التي تنتجها من داخل الحقل، وإنما أصبحت تخضع لقواعد وضوابط و«معايير جودة» تحددها المقاولات ودروس التسويق والإشهار وجلب المعلنين والرفع من نسب المشاهدين أو المستمعين أو القراء. كما صرنا نعيش في حقبة نهاية الصحافي النجم الذي يفاوض من أجل أجره ويؤثر في الأحداث وتدبير المؤسسات الصحافية، مقابل الصحافي المستخدم أو الصحافي المنتج أو المساهم في إنشاء مقاولات للإنتاج السمعي البصري أو مقاولات للصحافة المكتوبة، حتى وإن كانت فئة قليلة.بالمقابل، هناك جيش عرمرم من الصحافيين الذين يهبون مجهوداتهم الذهنية والبدنية لصالح المقاولة التي تشغلهم بأجور لا ترقى في كثير من الحالات إلى مستوى ما يقدمونه لها (خاصة في الدول المتخلفة). من جهة أخرى، صارت فئات عريضة من الصحافيين تشتغل تحت الطلب ولاعتبارات غالبا ما تكون اتصالية (الاتصال المؤسساتي والعلاقات العامة) وليست إخبارية أو لاعتبارات تجارية (صيد المعلنين ودفعه لإشهار منتوجاتهم على صفحات الجرائد والمجلات أو على القنوات الإذاعية والتلفزية). من ثمة تظهر أقصى درجات انقضاض الليبرالية الجديدة على كافة الحقول الاجتماعية والسوسيومهنية، ومنها الحقل الصحافي. لقد صارت للرأسمال الكلمة الأولى والأخيرة. ألا إن كلمة صاحب الرأسمال ومصلحة المقاولة هي العليا. نهاية احتكار وظيفة الإخبار من مظاهر التحول الاضطراري أو التاريخي الحاصل في الوضع الاعتباري للصحافي المهني هو الفورة العالمية في الإعلام والاتصال، فلم تعد وظيفة الإخبار/ الإعلام التي تمارسها الصحافة عن طريق الصحافيين المهنيين (الوسطاء بين الخبر/ الحدث والمتلقي)، حكرا على أجهزة الإعلام أو محصورة في الممارسة الصحافية المهنية، وإنما أضحت وظيفة / موضة تضطلع بها أغلبية التنظيمات والمؤسسات والبنيات الإدارية والاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية والنقابية وغيرها. ذلك أن مصالح / أقسام / مديريات الاتصال لا تخلو منها أي هيكلة تنظيمية في العالم المتقدم أو الثالثي. إن التجسيم اللغوي/ المصطلحي للتغييرات المشار إليها تظهر في عبارات وسائل الاتصال/ وسائط الاتصال/ وزارات الاتصال فيها اختفت عبارات وسائل الإعلام والإعلام ووزارات الإعلام.. لقد ابتلع الاتصال الإعلام، وصارت كلمات الصحافة، الإعلام، الإخبار... كلمات من العهد القديم أو موضة أو «سكة قديمة» كما يقول المصريون. بالمقابل، ارتفعت أسهم الاتصال والمكلف بالاتصال قبل أن يصبح «التواصل» كلمة سر ينطقها العالم والجاهل والمدير ومنظف المكتب، كما أصبح الجميع متخصصا علامة جهبذا يوزع الدروس بالمجان عن ضرورة التواصل واعتباره حجر الزاوية في كل بناء أو تشييد (للأرصدة المالية للكثير من المشعوذين والقراصنة وقناصة الفرص والراكبين على كل الأمواج). من ثمة، يطرح السؤال حول الوظيفة الجديدة للصحافي المهني بعدما انقض مسؤولو الاتصال والعلاقات العامة على المهام التي كان يقوم بها تقليديا. فالملفات الصحافية غالبا ما تكون موضوعة على المقاس وتتضمن «جميع» المعلومات والبيانات والبطاقات والتقارير التي لا تتطلب إلا النسخ والإلصاق copier/coller، وكفى الله الصحافيين نشر البحث عن الأخبار. إن الحفاظ على خصوصية عمل الصحافي وتمكينه من الأدوات المعرفية والعملية للإفلات من شباك الدعاية الجديدة، يتطلب تفكيرا جماعيا ومراجعات مستمرة لطرق العمل وبنود أخلاقيات المهنة بغرض تحيينها وتطويرها لتواكب التغييرات الجارية في الوضعين الاعتباريين للمهنة وللمهنيين/ للصحافة والصحافيين المهنيين. سلعنة الخبر..و «الصحافي»- «البائع» يتمثل التغير الخطير تاريخيا في مفهوم الإعلام عموما، ومفهوم «الخبز» خصوصا في فقدان مرجعيته الواقعية الموضوعية الحقيقية وبالتالي (فقدان) قيمته المهنية المرتبطة بوظيفة الإعلام الإخبارية. لقد صار «الخبر» سلعة خاضعة لقوانين السوق والعرض والطلب. من ثمة، انقطعت الصلة بين الخبر/ الإعلام وقواعده (هما). ووظيفة (هما). (راموني ص 110). هكذا، بعدما كان الإعلام يقوم بوظيفة الإخبار (فضلا عن التثقيف والترفيه)، صار يتولى مهمة تسهيل حضور المتلقي للحدث، إظهار الحدث على الشاشة وتركه «يتمتع» بالبث الحي والمباشر. كما سقطت الحدود الفاصلة بين التحرير والإشهار في الكثير من الممارسات الصحافية، لاسيما المجلات الإخبارية أو المتنوعة التي أصبحت عبارة عن مقاولات «إعلامية» تجارية تخضع لقواعد التدبير والتسويق، وليس لقواعد المهنة الصحافية. من ثمة، أصبحت الصحافة سلعة/ منتوجا يقدم للبيع للقراء والمعلنين. لقد أدركت الرأسمالية كاختيار اقتصادي، أن الإعلام لا يصلح فقط كوسيلة للدعاية السياسية كما كان سائدا إلى نهاية الثمانينيات على أبعد تقدير. لقد أصبح وسيلة مهمة لربح المال. هنا مكمن التحول التاريخي، حيث اشتدت قبضة رأس المال على السلطة الإعلامية، ويحاول جاهدا إحكام قبضته على السلطة السياسية عبر لعبة طويلة انفضح قانونها الإرهابي من خلال مخلفات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الحالية. إن التحولات التاريخية الكبيرة الحاصلة في عالم الإعلام والصحافة المكتوبة أوالمسموعة أو التلفزيونية أوالإلكترونية... زعزعت الكثير من المفاهيم والنماذج النظرية العملية التي كان الصحافيون يعتمدون عليها في تأطير ممارستهم المهنية. ذلك أن قيم الحياد والموضوعية والبحث عن الحقيقة وحماية مصادر الأخبار والتحقق من حصول أو وقوع الأحداث قبل نشر أخبارها... وكذا مبادئ القرب والخطورة والأهمية (بالنسبة للقارئ) والالتزام بأخلاقيات المهنة والتفريق الصارم بين التحرير والإشهار، والتقيد بقواعد الأجناس الصحافية وعدم دس الدعاية والإشهار المجاني (أي المؤدى عنه) والاكتفاء بالأجرة والتعويضات المتفق عليها في عقده المهني وعدم أخذ أظرفة أو هدايا أو مغريات مشبوهة من أصحاب القرار أو من ينتظرون «خدمة» إعلامية بالمقابل. كل هذه القيم والمبادئ صارت مخروقة ومخترقة... وفي أوساط صحافية كثيرة، أصبح من يدعو إلى الالتزام بها رمزا للتقليد والعهد الإعلامي «البائد». إن المصير الخطير الذي يريد رأس المال أن ينتهي إليه الصحافيون، هو قتل الصحافي فيهم، وتحويلهم إلى سماسرة وسطاء، إلى «براحة» يرددون ويكتبون ويتفوهون بما يملى عليهم، إلى صناع الفرجة الترفيهية ومتخصصين في الإثارة الإخبارية التي تجلب المال إلى أرصدة الكبار، فيها يلقى بالفتات إليهم. والحال أن الصحافة في شروط تكونها التاريخية «الأصلية»، كانت منارة للتقدم والتغيير ومنبرا للرأي والتعبير، إلى أن تقاذفتها أمواج التاريخ المعاصر لتلقي بها في شاطئ القراصنة المتوحشين. ففي الكثير من البلدان، انقض الساسة عليها وقضوا وطرهم بفضلها ووظيفتها الدعائية (بلدان العالم الثالث، بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية، الديكتاتوريات المتعددة تحت الحماية الغربية الرأسمالية «الديموقراطية»...). أما الآن، فقد جاءت «نوبة» أصحاب المال والأعمال الذين ارتموا عليها كما يرتمي الأسد الجائع على فريسته مثلما نشاهد في الأفلام التسجيلية الجميلة الخاصة بالحيوانات والغابات. ولم يسلم المغرب من هذا التغيير التاريخي الذي حصل فيه بوتيرة كبيرة في السنوات الأخيرة. فحتى قلعة الإعلام التلفزيوني التي كانت السلطة تحرمها على القريب والبعيد، صارت قذائف المال والأعمال تكسر أسوارها العالية الواحد بعد الآخر. أما السور العالي الوحيد المتبقي، فهو نشرات الأخبار المحفظة والمسجلة في السجل العقاري الإعلامي، وذلك إلى أجل غير مسمى. وما تبقى من فترات أو «tranches horaires» بلغة «أمنا فرنسا»، فهي أرض خلاء استباحها المال ويبسط سلطانه عليها رويداً رويدا.